أحمد بهاء الدين: ذاكرة مصر المنسية

أحمد بهاء الدين: ذاكرة مصر المنسية


06/09/2018

شخصية استثنائية وصحافي فذ، امتلك موهبة فائقة زادها شغفه الواسع واطلاعه المتنوع حضوراً خاصاً، وأثراً واضحاً وعميقاً في عوالم الصحافة المصرية والعربية، التي تناوب على الكتابة في إصداراتها العديدة، ورئاسة تحرير بعضها، كما عرف برؤيته الرصينة وتحليله الجاد للقضايا السياسية والمجتمعية، سواء المحلية أو الإقليمية، بينما كان ينأى بنفسه عن الخطوط التحريرية التي تختلط بالمواقف السياسية والأيديولوجية الجامدة.
إنه الكاتب الصحافي، أحمد بهاء الدين، الذي مرت ذكراه الثانية والعشرون، قبل أيام قليلة، والمولود عام 1927، بمدينة الإسكندرية، والمتخرج في كلية الحقوق، في أربعينات القرن الماضي.
بدأ تجربته الصحافية التي صنعها بدأب وجسارة شديدين في حقبة مهمة من تاريخ مصر، متأثراً بما شهدته من تطورات سياسية وثقافية، وتحولات جذرية، وذلك عبر مراسلة الصحف القاهرية، وتزويدها بالمقالات السياسية، التي بدأت تنشر له، منذ عام 1947، أي في السنة التي تلت تخرجه من الجامعة، وهو ما زال في العقد الثاني من عمره.

كيف تهيأ لدخول عالم الصحافة؟

كانت مرجعيته محاضرُ المحاكمات السياسية التي اطلع عليها في فترة ما قبل ثورة 23 تموز (يوليو) 1952، والتي تعرض لها ووقع تحت وطأتها العديد من النخبة السياسية والثقافية ورموز النضال الوطني، ممن تصدوا لفساد الحقبة الملكية، والاحتلال الإنجليزي لمصر، في تلك الفترة. وشكلت تلك الوثائق نقطة ضوء عميقة تجمعت في بؤرتها مبادئه في الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية.

هو ممن تصدوا لفساد الحقبة الملكية والاحتلال الإنجليزي لمصر

وهي مجموعة المبادئ، ذاتها، التي صاغت وعي مجايليه، وشكلت خصوصية تجربتهم، التي عبّروا عنها بكل طاقتهم الإبداعية والفنية، واستعانوا في سبيل ذلك، بأدوات ومهارات مختلفة، في الصحافة الأدب والمسرح والسينما.

تخرّج بهاء الدين في كلية الحقوق في أربعينيات القرن الماضي ليبدأ تجربته الصحافية التي صنعها بدأب وجسارة شديدين

أول مقال منشور له، كان في مجلة "الفصول"، التي أصدرها محمد زكي عبد القادر، وما لبث أن أضحى مسؤولاً عنها، والأمر نفسه تكرر في مجلة "روز اليوسف" التي أرسل لها مقالاً، في شتاء عام 1952، عن ميزانية الحكومة، وهو أحد المقالات، التي تعقّب من خلالها فساد الملك فاروق، وفضح تواطؤ الحكومة، فيما يتصل بنزوات الملك، والتفاوت الطبقي، الذي يعانيه عموم المصريين على الجانب الآخر، بين فقر ومرض وعوز شديد. آنذاك احتفى الأديب إحسان عبد القدوس بالمقال فنشره.

أصغر رئيس تحرير

وفي كلتا التجربتين، سرعان ما أصبح  بهاء الدين أحد أعمدة هذه المجلة أو تلك، وأسندت إليه مهمة رئاسة التحرير في كلتيهما، وعمره لما يتجاوز الـ29 عاماً.
في كتابه "فاروق ملكاً"، الذي صدر إبان ثورة 23 تموز (يوليو) 1952، وكتب مقدمته إحسان عبد القدوس، كشف بهاء الدين عن حجم الفساد والاستبداد اللذين عاشت فيهما مصر؛ حيث كان فاروق يحب الرشوة، وبخاصة على موائد القمار، بحسب ما يسرد الكتاب.

اقرأ أيضاً: ما أسباب أزمة البحث العلمي في العلوم الإنسانية بمصر؟

هذا الكتاب يعد شهادة معاصرة قدمها أحمد بهاء الدين بإيجاز ودقة عن فترة مهمة في تاريخ مصر، وفيه واقعة لافتة وذات دلالة؛ حدثت أثناء حرب فلسطين، عندما اعتقلت الحكومة عدداً كبيراً من أثرياء اليهود، فكان يذهب مندوب منهم، إلى نادي السيارات، ويلاعب الملك فاروق، ويخسر عشرة آلاف أو عشرين ألفاً.. وفي نهاية السهرة، يلتمس الإفراج عن الخواجة فلان، فيصدر بذلك النطق السامي!
ويخلص بهاء الدين من قراءته لفترة حكم الملك فاروق، بأنّ الأخير "جمع كل مساوئ حكام أسرة محمد علي؛ حارب نشر التعليم كعباس (يقصد الخديوي عباس الأول)، ومنح الامتيازات لندمائه كسعيد (يقصد الخديوي محمد سعيد)، ولجأ إلى التخلص من خصومه السياسيين، كما فعل الخديوي إسماعيل، وكان وكيلاً للإنجليز في مصر كسلفه الخديوي توفيق، لكنّ الفرق بينه وبينهم، أنه ارتكب هذه الموبقات، في القرن العشرين، وفي شعب تطور كثيراً، وقطع في طريق الوعي شوطاً طويلاً".

غلاف كتاب "أيام لها تاريخ"

في كل تجربة صحفية معركة

السيدة فاطمة اليوسف، مؤسسة دار روز اليوسف، انتبهت منذ اللحظة الأولى إلى مقالات أحمد بهاء الدين، التي كان يراسل بها الجريدة، أو يسلمها إلى أمن المؤسسة، ثم يمضي، ولم تكن قد تعرفت عليه شخصياً، ما اضطرها لمطالبة أفراد الأمن أن يحضروه إليها، بمجرد قدومه لتسليم أحد مقالاته، بحسب رواية الكاتب محمد توفيق، في كتابه: "الملك والكتابة.. قصة الصحافة في مصر".

اقرأ أيضاً: المصرية مريم زاهر تصوم مع القديسة العذراء: بشرى لكل البشر

وقررت فاطمة اليوسف، طرح إصدار جديد للمؤسسة؛ تمثل في مجلة "صباح الخير"، وأسندت مهمة رئاسة تحريرها إليه، في عام 1956؛ لينتقل بعدها في ظل ذيوع اسمه، إلى دار "أخبار اليوم"، ليصبح رئيساً لتحريرها، بعد ثلاث سنوات، فقط، بدعوة من الكاتب مصطفى أمين.
في عهد الرئيس السادات، صدر قرار بإعادته إلى دار الهلال، فانفعل بهاء الدين، وغضب بصورة شديدة، على إثر قرار نقله الذي تنامى لعلمه وتفاجأ به، فقط، من أخبار الصحف.
وكتب للسادات غاضباً: "لقد اخترعت الثورة صحفيين وكتاباً ودكاترة في كل مجال، ولكني، لست أحد اختراعات الثورة، فمن حقي أن يؤخذ رأيي في أي أمر يتصل بي شخصياً، فلا أقرأه في الصحف، دون سابق علم، ولا أتحرك كقطعة شطرنج من مكان إلى مكان بلا رغبة".

لماذا نكتب "أيام لها تاريخ"؟

اللافت في كل ذلك، هو ما التقطه الكاتب الصحفي صلاح عيسى من تجربة صاحب "أيام لها تاريخ"، عندما وصف كتابته بأنها "تتسم بالرصانة والنضج، وأشاع لمن لا يعرفونه، أنه كهل عركته الأيام؛ تعلم الحكمة والاتزان من الزمن، الذي لم يكن عاش منه سوى أقل من ربع قرن".
كما يعد كتاب: "أيام لها تاريخ"، بمثابة خريطة مصرية، تحتل مواقعها رموز وطنية بارزة، لعبت أدواراً تاريخية مهمة، وحققت تقدماً للأمام، وخاضت في سبيل ذلك، مشقة وصعوبات جمة، ناهيك عما تعرضت له من قمع من السلطة والتنكيل والهزائم.

اقرأ أيضاً: رحيل عالم مصري أنقذ مئات الملايين حول العالم

وهو إذ يستعيدها ويجمعها، كعروة وثقى، إنما بغية رتق الشرخ العربي الذي تفتت واتسعت تصدعاته، ويضخ حياة جديدة، في تلك الذاكرة المطمورة والضائعة، محاولاً إحياءها، ليقظة تلك الأمة، وعدم استلاب وعيها، وفقدان مقدراتها المادية والمعنوية.
لذا، ففي هذا الكتاب، الذي صدر في طبعته الأولى، العام 1954، كتب عن عبد الله النديم، خطيب الثورة العرابية الذي امتاز بمقدرته الفذة على التخفي، بعد هزيمة الثورة، والاحتلال البريطاني لمصر، والهروب عن عيون الإنجليز.

أحمد بهاء الدين وزوجته في منزلهما

ووصف بهاءُ الدين عبدالله النديم بأنه انفرد "دون رجال الثورة بمصير لم يشاركه فيه أحد، على الإطلاق، فهو الذي تعود الصعلكة، ثم الحركة الخاطفة، لا يمكن أن يطيق السجن، وهو أيضاً لا يتصور النفي. إنه قطعة من طين هذا البلد، جذوره عميقة في أرضه. إنه لا يستطيع العيش في المنفى، وعلى ذلك قرر أن يختفي.. وأن يواجه أعجب فترة في تاريخ حياته العجيبة: تسع سنوات، من حياة الاختفاء والمغامرات، خلفه رجال الحكومة ينقبون عنه، وجائزة ألف جنيه لمن يأتي به حياً أو ميتاً!".
كما كتب عن كفاح محمد فريد، بالإضافة إلى أزمة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ الأزهري علي عبد الرازق، وكشف أنها، بالأساس، قضية محض سياسية، وظف فيها الدين لأغراض طموح الملك فؤاد بتتويجه الخلافة، بتحريض من الاستعمار البريطاني، بعد سقوطها في الأستانة، في العام 1924.

اقرأ أيضاً: من سرق أنوار التسامح في المجتمع المصري؟

وإلى ذلك، فقد تحدث في الكتاب، ذاته، عن جمهورية زفتي، تلك القرية الصغيرة، في دلتا مصر، التي استقلت وأعلنت الجمهورية بعد اعتقال الزعيم المصري سعد زغلول، إبان ثورة 1919، وحققت شكلاً من أشكال حكم السوفيتات، وأخفق الإنجليز بمعاونة قوات أسترالية، في اقتحام المدينة، حتى تمكنوا من الاستيلاء عليها، وإنهاء الحكم الذاتي، وفضّ اللجان التي شكلها الأهالي لتنظيم الحياة واستقرارها.

الحرية والعدالة الاجتماعية

صاحب "محاوراتي مع السادات"، برغم ما ناله من اتهامات وتصنيفات سياسية، كانت بمثابة وشايات للحكام ضده، كما حدث مع عبد الناصر، وغيره، وزعموا أنه بعثي تارة، وماركسي، تارة أخرى، إلا أنه أحد المدافعين عن قضايا بلده والوطن العربي، ضد التبعية وغياب الديمقراطية، وذلك منذ تصدى لقرار الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين الذي سمح بهجرة أعداد كبيرة من اليهود السوفيات إلى إسرائيل، واشترى صفحة بماله الخاص في جريدة "الأهرام"، وجمع توقيعات عليها من السياسيين والكتاب والمثقفين والشخصيات العامة وأسماها "جريمة العصر".ومن بين مواقفه المهمة، عندما كان نقيباً للصحفيين، في ستينيات القرن الماضي، وجمع مجلس النقابة العام 1968، وأصدر بياناً يطالب فيه بإلغاء الرقابة على الصحف وتوسيع الحريات.

اعتبر بهاء الدين في فترة مبكرة من حياته أنّ الاستعمار الأمريكي سيعمد إلى غزو الأوطان بالمال بدلاً من السلاح

كما عارض الانفتاح الاقتصادي الذي دشنه السادات، وقد نعته بـ"السداح مداح"، في إشارة إلى الفوضوية التي نجمت عنه، وسخرية من تطبيقاته الاقتصادية التي تهدد الاستقرار الاجتماعي، وتؤول بالمجتمع إلى حالة الإفقار.
وفي الاحتجاجات التي شهدتها القاهرة، يومي 18 و19 كانون الثاني (يناير) 1977، عقب قرارات رفع الأسعار، على السلع الغذائية الأساسية، ووصفها السادات بـ "انتفاضة الحرامية"، عارضه أحمد بهاء الدين، وساند حركة الجماهير، ووصفها بـ"ثورة.. لا انتفاضة حرامية"، أثناء رئاسته تحرير مجلة "روز اليوسف"، وخالف مانشيتات الصحف، التي اصطفت في موقفها مع الحكومة ورئيس الدولة.

اقرأ أيضاً: هل كان السادات ينوي التخلي عن منصبه قبل اغتياله؟

ولطالما اعتبر بهاء الدين، في فترة مبكرة من حياته، أنّ الاستعمار الأمريكي سيعمد إلى غزو الأوطان بالمال، بدلاً من السلاح، منوهاً إلى فرض التبعية الاقتصادية، وما يترتب عليها من هيمنة سياسية، حيث يقوم الاستثمار الأمريكي باحتلال الدول بالمعونات، بديلاً من الجيوش والحروب، فقد كانت نبوءته تتحقق، ويعيد التذكير بنفس مضمونها، بعد نحو ربع قرن، في كتابه "محاوراتي مع السادات".
وقد روى في أحد محاوراته: "كنت أقول للسادات إنّ أسلوب المساعدات الأجنبية نحونا، ليس هو الأسلوب البريء المطلوب. أنهم يا ريس لا يريدون لمصر أن تغرق، وهم أيضاً لا يريدون لها أن تقف علي قدميها! فهم يريدونها طافية على سطح الماء، فقط، لا هي غارقة، ولا هي تتنفس بحرية".

الصفحة الرئيسية