السودان: خفايا تسونامي التغييرات الوزارية الأخيرة

السودان

السودان: خفايا تسونامي التغييرات الوزارية الأخيرة


21/05/2018

العام 2009، أقال الرئيس السوداني، عمر البشير، مدير جهاز الأمن والمخابرات، الفريق صلاح قوش، من منصبه بشكل غير متوقع، وعيَّنه مديراً عاماً لمستشارية الأمن القومي، فيما حلّ مكانه نائبه الفريق محمد عطا، وبدا منصب قوش الجديد لكثيرين، وكأنّه تسكين مؤقت لرجل يمتلك مفاتيح خزانة أسرار الحكومة الإسلاموية في السودان، وهذا ما حدث بالفعل؛ ففي نيسان (أبريل) 2011، أصدر البشير قراراً بإعفاء مستشاره، ولم يكتف بذلك، فما إن حلّ العام 2012، حتى أُلقي القبض عليه، ضمن 12 عسكرياً وسياسياً آخرين، بتهمة (التحريض على محاولة تخريبية)، ثم أفرج عنه لاحقاً، في منتصف 2013، بعفو رئاسي، حينها أجهش الرجل القوي بالبكاء، وقال للصحفيين إنّه "ما يزال ابن الحركة الإسلامية، وحزبها المؤتمر الوطني، ولن تتغير مبادئه رغم ما حدث".

لعلّ أبرز ما فاجأ السودانيين مؤخراً إعفاء البشير مساعده ونائبه لشؤون الحزب إبراهيم محمود حامد

رغم ما حدث له، رضي قوش أن يتحوّل إلى نائب برلماني عن بلدته (مروي) بشمال السودان، وظلّ يعمل بصمت، دونما ضوضاء، داخل أروقة البرلمان، حتى بدا لكثيرين أنّه رضي من غنيمة الإسلامويين باليسير، لكنّ إعادة تسميته مرة أخرى، خليفة لخلفه محمد عطا، في شباط (فبراير) 2018، التي جعلت منه (خلفاً وسلفاً) للرجل ذاته، أصابت تحليلات المحللين وتكهنات المنجّمين ببوار عظيم، فسوق السياسة السودانية في ظلّ حكومة الإخوان المسلمين تعجّ بالمفاجآت والتناقضات.

عودة الحرس القديم

لعلّ أبرز ما فاجأ السودانيين مؤخراً، إعفاء البشير مساعده ونائبه لشؤون الحزب، الرجل الثاني في الدولة، والوزير العتيق، إبراهيم محمود حامد، من منصبه في 22 شباط (فبراير) 2018، وتسمية وزير الحكم الاتحادي فيصل حسن إبراهيم خلفاً له، لكن لم يلبث الرجل شهرين ونيف في منزله، حتى أعاده الرئيس، في 14 أيار (مايو) الحالي، إلى كبينته التنفيذية، وزيراً للداخلية، التي كان تولاها بين عامي (2008- 2013)، خلفاً للفريق حامد منان، بعد إقالته بعد عام من تعيينه في المنصب،  وتقلّد حامد كثيراً من المناصب التنفيذية العليا في الحكومة، منذ العام 1993 حتى الآن؛ فقد عمل محافظاً في دارفور وسنار، ووالياً على كسلا  ونهر النيل، ووزيراً للشؤون الإنسانية والداخلية والزراعة، ومساعداً للرئيس، حتى أعفي من المنصب، ثم أعيد إلى وزارة الداخلية.

يعاني السودان عقب انفصال جنوبه أوضاعاً اقتصادية متفاقمة وفقد 46٪ من إيرادات الخزينة العامة

وكان الرئيس السوداني، عمر البشير، قد أقال وزير خارجيته، ومساعده السابق، إبراهيم غندور، على خلفية تصريحات له أمام برلمان بلاده، أعلن خلالها إفلاس وزارته، حتى عجزت عن تحويل رواتب الدبلوماسيين وإيجارات مقرات السفارات والقنصليات 7 أشهر كاملة،  وظلّ المنصب شاغراً لمدة 26 يوماً، إلى أن سُمّي الإسلاموي الملتزم، السفير الدرديري محمد أحمد، وزيراً للخارجية، ومما يذكر أنّ الوزير الجديد كان قد اختطف العام 2000 في العاصمة الكينية نيروبي، عندما كان يشغل منصب نائب  السفير السوداني هناك، وطالب مختطفوه السفارة بفدية، لكنّ تدخلات الأمن الكيني أدّت إلى الإفراج عنه دون دفعها.

مسكّنات لاقتصاد يتداعى

ويعاني السودان، منذ أعوام، عقب انفصال جنوبه عنه، أوضاعاً اقتصادية متفاقمة؛ حيث فقد 46٪ من إيرادات الخزينة العامة، إلى جانب الفساد المالي الحكومي المتفشي بصورة غير مسبوقة، بحسب تقارير حكومية صادرة عن ديوان المراجع العام، الذي ظلّ يُقرّ سنوياً بصعوبة في مراجعة حسابات المؤسسات الحكومية، وبأنّ هناك تلاعباً كبيراً وفساداً عميماً في تلك المؤسسات.

يرى كثيرون أنّ التعديلات الوزارية في السودان بين فترة وأخرى مجرد مسكِّنات لأورام تنهش الدولة

ويرى كثيرون أنّ التعديلات الوزارية التي يجريها الرئيس السوداني، بين فترة وأخرى، لا تعبّر، بالضرورة، عن رغبة حقيقية في تجاوز الأزمات الماثلة، والخروج ببلاده من عنق الزجاجة، إنّما هي حقن موضعي مسكِّن لأورام خبيثة منتشرة في جسد بلاد النيل والخضرة والأمطار، التي يعاني مواطنوها فقراً مدقعاً وتردياً غير معهود في مستوى المعيشة، وانهياراً لم يسبق له مثيل في كافة مناحي الحياة، إنما تعبّر عن ذاتية مفرطة لدى البشير، الذي يحكم السودان منذ انقلابه على النظام الديمقراطي، في حزيران (يونيو) 1989، وكثيراً ما وعد وصرّح لأجهزة الإعلام بأنّه لن يترشح مرة أخرى للرئاسة، لكن ما إن يأتي ضحى الغد حتى يتنصل من وعده، كأنّه لم يطلقه أصلاً، فقد أعلن مراراً، في حوارات وتصريحات صحافية وتلفزيونية، عدم رغبته في الاستمرار في الحكم والترشح مرة أخرى، وأنّه زاهد في الرئاسة، مؤكداً أنّ الدستور لا يعطيه الحقّ في الترشح؛ إذ حدّد فترة الحكم بولايتين.

دساتير وُجدت لتُخرق

لكن، كلّما اقترب موعد الانتخابات المزمع تنظيمها في 2020، يزداد الرئيس السوداني بُعداً عن وعده بعدم الترشح، فقد برزت خلال الشهور الماضية، بشكل لافت، حملات تبدو منظمة ومتصاعدة تدريجياً، تطالب البشير بترشيح نفسه وعدم الالتفات لنصوص الدستور، حتى أن قيادياً بالحزب الحاكم قال، في مهرجان خطابي نظمته ما تعرف بـ"المبادرة الشبابية من أجل البشير": "إنّ الدساتير خُلقت لتُخرق"،  فيما كان أنصار الرئيس يهتفون: "لا بديل للبشير إلا البشير، والله.. الوطن.. البشير"، فردّ عليهم القيادي: "سنعمل حتى الموت لبقاء البشير في السلطة".

المشهد السياسي والاقتصادي السوداني الراهن، يبدو غارقاً في العبثية، فالبشير الذي يعاني ظروفاً صحية بالغة التعقيد؛ إذ سبق أن أصيب بورم في الحلق، وخضع لعديد الجراحات الدقيقة في الركبة، ولقسطرة في القلب، إلى جانب بقائه في السلطة (29) عاماً حتى اللحظة، ويبدو أنّه لن يغادر الحكم، وأنّه يهفو إلى البقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى.

كلّما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية في 2020 يزداد البشير بُعداً عن وعده بعدم الترشح

وفي هذا السياق؛ يرى مراقبون رغبة البشير في التنحي، التي يعلنها بين فترة وأخرى، ثم يتراجع عنها، حقيقة تحول دون تنفيذها مذكرة التوقيف الصادرة بحقّه من المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور، خشيته من أن من يتولى السلطة بعده لن يتوانى في تسليمه للجنائية، لذلك يرجّحون أن يشرع الحزب الحاكم في تعديل الدستور ليُفصَّل على إعادة ترشيحه.

تدشين مرحلة "بشيرية" جديدة

يقول د. محمود نوري أستاذ العلوم السياسية السابق بجامعة وادي النيل والمحلل السياسي، لـ"حفريات": إنّ عملية إقالة وإعفاءات الوزراء والعسكريين، وإعادة بعضهم إلى مناصبهم مرة أخرى، ما هي إلاّ تدشين لمرحلة جديدة من حكم البشير، فقد سبق له التخلص ممن يخشى إطاحتهم به، بينهم عرابه الأكبر الراحل حسن الترابي، ونائبه الأول السابق، علي عثمان محمد طه، ومساعده نافع علي نافع، وها هو يعود هذه الأيام لممارسة اللعبة ذاتها، الأمر الذي دفع بعض الإسلاميين داخل وخارج حزب "المؤتمر الوطني" الحاكم إلى دقّ ناقوس الخطر، ولعل أبرزهم القيادي الإخواني الدكتور أمين حسن عمر، الذي تولى مناصب وزارية وحزبية عديدة؛ إذ سبق أن صرّح بأنّ: "البشير لم يُبايع خليفة للمسلمين، إنما بُويع رئيساً للسودانيين، مسلمهم وغير المسلم، وأنّه لم يرد في كتاب، أو سنّة، تخليد أحد في تكليف".

كلّ ذلك، وليس سواه، يُفسّر تلك التغييرات الكاسحة والمستمرة، وغير المتوقعة أحياناً، في الطاقم الوزاري لحكومة البشير، فيما ما تزال عاجزة عن تغيير سياساتها وتوجهاتها، إلاّ تكتيكياً، منذ استيلاء الإخوان على السلطة، في حزيران (يونيو) 1989، حتى أوصلت البلاد إلى حالة من الانهيار الكامل.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية