طارق عزيزة: حركات الإسلام السياسي لا تؤمن بفكرة الوطن

طارق عزيزة: حركات الإسلام السياسي لا تؤمن بفكرة الوطن

طارق عزيزة: حركات الإسلام السياسي لا تؤمن بفكرة الوطن


19/03/2024

قال الكاتب والباحث السوري طارق عزيزة إن "ثقافة العنف"، التي تعصف بالمنطقة العربية والإسلامية، "ليست جديدة أو طارئة"، بل هي ثقافة "متأصلة" تضرب جذورها عميقاً في تاريخ شعوب المنطقة، وتجد أصداءها حتى في الميثولوجيا القديمة، ثم لاحقاً في النصوص المقدسة للديانات التوحيدية الكبرى الثلاث (اليهودية، المسيحية، الإسلام)، المتحكمة إلى اليوم بالفضاء العام لمجتمعاتنا، والتي مازال الدين هو العامل الحاسم في تنظيم شؤونها والتحكم بمصائر أفرادها.

وتابع عزيزة لـ "حفريات" أن تلك الثقافة تقوم على الإقصاء والإلغاء ونبذ الاختلاف، وتمجّد الذات وتشيطن "الآخر"، نافياً أن يكون الدفاع عن النفس في مواجهة بطش السلطات المستبدة هو فقط ما يدفع جماعات معينة لاستخدام العنف، مبيناً أن قراءة أدبيات كثير منها يقطع بأن العنف ليس أسلوباً وظيفيّاً تلجأ إليه مكرهة، بل هو من صميم عقيدتها "الفكرية" وسلوكها "السياسي".

ورأى الباحث أنّ الشعوب العربية بقيت أسرى الماضي، وما الصراع السنّي الشيعي الحالي إلا أحد أعراض هذا "المرض"، مع الإصرار على الدوران في حلقة مفرغة تعادي الحداثة وقيم العصر، تحت شعارات "الخصوصية" و"الهوية".

وقال عزيزة إنّ ما جرى في سنوات ما يسمّى "الربيع العربي" العجاف هو "كشف حساب لإنجازات الاستبداد، وتعرية لبنى التأخّر وعلاقات التخلف العفنة السائدة"، لافتاً إلى أنّ فشل مشروع التغيير هو تعبير عن تكريس هزيمة المجتمعات، سواء تعلّق الأمر ببقاء هذا النظام أو إعادة إنتاج ذاك. أو عبر ظهور شكل آخر للاستبداد.
وحذّر الباحث من الدور الخطير للإعلام في زمن العولمة، بوصفه أحد أشكال السلطة؛ إذ أصبح أداة فعالة في يد الفئات المسيطرة. ويمتد الخطر الأكبر له إلى ما يمكن تسميته "إعادة تشكيل التاريخ" وذلك عندما تتحوّل المادة الإعلاميّة المحرّفة و"الحقائق" الزائفة التي تتضمّنها إلى أرشيف سيصبح مع الزمن مرجعاً أو "وثيقة تاريخية".

وهنا نص الحوار:

*يتفشّى العنف بكافة أشكاله حالياً في الدول العربية والإسلامية، كيف تشخص هذا الانتشار؛ أسبابه دوافعه، وما السبيل للخروج من هذه الدوامة؟

صحيح، نشهد انتشاراً واسعاً لمستويات غير مسبوقة من العنف خلال السنوات القليلة الماضية، لاسيما [وهنا المفارقة!] في دول ما اصطلح على تسميته "الربيع العربي". غير أنّ ظاهرة العنف ليست جديدة أو طارئة على المجتمعات العربية والإسلامية، ولا هي مقتصرة على "العنف السياسي"، وإن كان هو الأبرز والأكثر حضوراً في الوقت الراهن. يبدو لي، إنّ فهم هذه الظاهرة يتطلّب ألّا نقف فقط عند حدود الأسباب المباشرة، السياسية والاجتماعية/ الاقتصادية، وما قد ينجم عنها من أزمات تهيّئ التربة الخصبة لأعمال العنف. قبل ذلك، ثمّة إرث مثقل بما يمكن تسميته "ثقافة عنف". إنها "ثقافة" متأصلة تضرب جذورها عميقاً في تاريخ شعوب المنطقة، وتجد أصداءها حتى في الميثولوجيا القديمة، ثم لاحقاً في النصوص المقدسة للديانات التوحيدية الكبرى الثلاث (اليهودية، المسيحية، الإسلام)، المتحكمة إلى اليوم بالفضاء العام لمجتمعاتنا، والتي مازال الدين هو العامل الحاسم في تنظيم شؤونها والتحكم بمصائر أفرادها. ثقافة تقوم على الإقصاء والإلغاء ونبذ الاختلاف. تمجّد الذات وتشيطن "الآخر" المختلف. تقوم على تراتبية بطريركية محصّنة بنصوص مقدّسة تشرعن العنف وتؤمثله. للأسف، يعمد كثيرون إلى تجاهل هذه الحقيقة، ويميلون إلى تبسيط المسألة واعتبار ظاهرة العنف مجرّد رد فعل طبيعي على الاستبداد المديد والنُظم الديكتاتورية الجاثمة على صدور شعوب المنطقة، وهذا غير كافٍ. فليس صحيحاً أنّ الدفاع عن النفس في مواجهة بطش السلطات هو فقط ما يدفع جماعات معينة لاستخدام العنف؛ حيث إن قراءة أدبيات كثير منها يقطع بأن العنف ليس أسلوباً وظيفيّاً تلجأ إليه مكرهة، بل هو من صميم عقيدتها "الفكرية" وسلوكها "السياسي"، كما في انتهاج "الكفاح المسلّح" لإقامة "دولة العمال والفلاحين"، مثلاً أيام المدّ اليساري في القرن الماضي، أو "الجهاد" بهدف إقامة "الدولة الإسلامية" على ما نشهد اليوم. وحتى الأنظمة التي انتحلت شعارات تحرّرية يسارية، ورفعت راية العمال والفلاحين، لم يكن ذلك سوى قشرة رخوة تغلف نواة الاستبداد الصلبة. فالاستبداد ونظمه ذاتها ما هي إلا تجلٍّ مكثّف لثقافة العنف تلك، واستمرار لسنّة درجت عليها "الدولة العربية/ الإسلامية" منذ لحظتها التأسيسية، وعلى امتداد تاريخها الطويل واختلاف ممالكها ودولها وأشكال الحكم فيها. الاستبداد، الذي هو من نتائج ثقافة العنف تلك أيضاً، تحوّل بدوره إلى سبب إضافي لتوليد العنف وتصييره واقعاً ملموساً، يوميّاً، اعتياديّاً، وكأنّه من "طبيعة الأشياء"، وإن محاولات بعض الديكتاتوريات العسكرية إلباس أنظمتها أقنعة حداثوية، تحت شعارات "تقدّمية" ومسمّيات "قومية" و"اشتراكية"، لم تغيّر من حقيقة كونها أنظمة استبداد بحلّة عصرية! ويبدو أنه لا سبيل للخروج من هذه الدوّامة بغير الانعتاق من أسر "الثقافة" المنتجة لها، كمقدّمة للخروج من الماضي والعودة إلى الحاضر، إلى العصر الحديث، وذلك بالكف عن أوهام "الخصوصية" وتقديس التراث.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي أم العلمانية.. أين يكمن الخطر الحقيقي؟

يجب الاستعاضة عن ذلك بتمثّل القيم الإنسانية المعاصرة، القائمة على ثقافة حقوق الإنسان، وإفساح المجال لثقافة علمانية ديمقراطية (ولا فرق). لا بد من الثورة ضد نظم الاستبداد القائمة، الراعية للعنف وعرّابته الأولى، ولكن أيضاً وأكثر، نحتاج ثورةً على مستوى المعرفة والفكر، تحرر العقل من ثقافة العنف. من المهم نقد العنف ونبذه، لكن الأهم هو نقد الثقافة والأيديولوجيات المنتجة له، وخلخلة الأسس الفكرية التي يقوم عليها الاستبداد السياسي والديني أيضاً، وما يولّدانه من عنف.


*كثيراً ما يتردد سؤال: لماذا تقدم الغرب وتخلفنا؟! أمام الواقع المأزوم الذي نعيشه عربياً وإسلامياً، لماذا كل هذا الانحدار الذي وصلنا له على كافة المستويات؟
أعتقد أنّ مردّ ذلك يعود، في جانب مهم منه، إلى أنّ ثقافتنا العربية السائدة ليست ثقافة جدلية، وأعني بذلك غياب الجدل بوصفه صيرورة التغيّر والتطوّر. يتراجع الجدل لصالح مرجعيات كبرى جامدة، لغوية ومعرفية، تتكئ مسترخيةً على نصوص أنتجتها ظروف الماضي والمستوى المعرفي والسياق التاريخي الذي كان سائداً لحظة وضعها. عندنا الماضي يتحكّم بالحاضر، والشعوب العربية بقيت أسرى ماضٍ لا يمضي، وما الصراع السنّي الشيعي الحالي إلا أحد أعراض هذا المرض. هكذا، تقدّم الآخرون وتخلّفنا، مع الإصرار على الدوران في حلقة مفرغة تعادي الحداثة وقيم العصر، تحت شعارات "الخصوصية" و"الهوية". فشل محاولات النهضة مطلع القرن الماضي لم يكن فقط نتيجة التآمر الاستعماري، بل الأهم أن الفشل جاء نتيجة وهم المصالحة والتوفيق بين "الأصالة" و"المعاصرة"، فكانت المحصلة أيديولوجيات تلفيقية أسست لكل هذا الخراب، أعاقت ولادة الجديد، ولم تقبل التفاعل الخلاّق مع جديد الآخرين. بقي التراث مقدّساً، لم يتعرض حتى الآن للنقد الداخلي كما حصل للمسيحية الأوروبية مثلاً، التي خضعت لعدة غربلات نقدية كبرى على يد فلاسفة الإغريق، ففلاسفة الأنوار، ثم نيتشه، فالماركسية... الجدل لا يهدف إلى القطع مع الماضي أو رفضه لأنّه ماضٍ وكفى، وإنما هو عملية هدم وبناء متكاملة تتناول الماضي والحاضر بإظهار تناهيهما فتتجاوزهما إلى الأمام/ المستقبل، وهو ما ليس ممكناً في ثقافة تنظر إلى الوراء، وتتوهّم أنّها تسير في الاتجاه الصحيح. وأكبر دليل على الهزيمة الحضارية، وعلامة تجدّدها وتجذّرها، صعود الحركات "الثورية" الإسلاميّة على اختلافها، السنية والشيعية، لاسيما في النسخ الجهادية منها، التي تعتبر نفسها الأمينة على التراث المجيد، فتعيد أدلجته كثقافة تعبئة شعبويّة، وتغدو في نظر الشعوب المهزومة رافعة الأمّة و"عنوان عزّتها وكرامتها". هذا إمعان في الماضوية ولا يعد إلا بالمزيد من الخراب.

 

*طفت على السطح بعد ما أطلق عليه "الربيع العربي" مسألة "اضطهاد" الأقليات، ما سبب ذلك، وكيف تنظر إلى مستقبل الأقليات في الوطن العربي في ظل ما تشهده المنطقة من حروب طائفية؟
أوافقك القول بأنّ هذه المسألة "طفت على السطح"، فهي كانت موجودة فعلاً من قبل، مستترة، مقنّعة، ثاوية في العمق ومسكوت عنها. وإنّ انزلاق الانتفاضات والثورات العربية إلى أتون الاقتتال الأهلي لم يخلق هذه المشكلة بقدر ما دفع بها إلى السطح. لذا، يظهر أن انفجارها على النحو الذي نشهده بعد "الربيع العربي"، هو بدوره تتويج لواحدة من أبرز الأزمات التي عانت وتعاني منها البلدان العربية، وهي تمزق الهوية الوطنية، التي يفترض أن تصوغها علاقة المواطَنة المتساوية، هذا إن لم نقل بعدم تبلور الهوية الوطنية أصلاً. وأجدها مناسبة للإضاءة على مشكلة "العصبية" التي لا تقتصر على "الأقليات" فقط، فالعصبية تقف وراء كثير من الصراعات الداخلية الحالية في البلدان العربية، وتفسّر إلى حد كبير ثنائية "أقلية – أكثرية". تتجلّى المشكلة بوضوح من خلال أولوية انتماء الأفراد إلى جماعاتهم تحت الوطنية، من تنويعات العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب والجماعة العرقية أو الإقليمية.. كبر عددها أم صغر. وقد كان لجوء عامّة الناس إلى تلك الانتماءات، نوعاً من التعويض عن/ ونتيجة لفقدان الشعور بالانتماء لدولة وطنية حديثة، وبالتالي سعياً موهوماً لتحقيق "أمان" ما، وتحصيل حقوق مفقودة بسبب غياب فاعلية المؤسسات الدستورية المختلفة، وشكليّتها، وتلاشي دورها بعد تغوّل السلطات وإكمال ابتلاعها لمختلف مفاصل الدولة والمجتمع.

حركات الإسلام السياسي فتحت الباب واسعاً أمام ما يوصف بفوضى الفتاوى

تعزز ذلك مع اعتماد النخب الحاكمة على الولاءات قبل الوطنية بمستوياتها المذكورة كافة، وتكريس تحاجزها، وإثارة الشقاق فيما بينها، في تطبيق "وطني" للقاعدة الاستعمارية الشهيرة "فرّق تسُد". كما انساقت قطاعات من النخب المعارضة و"المثقفة" وراء موجة الانتماءات العصبوية تلك فكانت شعبوية تبريرية عوضاً عن ممارسة دور نقدي يؤسس لبدائل وطنية، مع استثناءات محدودة. ساهم ذلك كلّه في تحوّل الانتماءات تدريجياً إلى هوية نهائية في وعي الأفراد، لتغدو بديلاً واقعياً عن المواطنة المفقودة. لاحقاً، ستأتي "العصبية" بمختلف أشكالها (عصبية قومية، دينية، مذهبية،..) كوسيلة تعبئة لأفراد الجماعة في صراعاتها مع جماعة أو جماعات أخرى. أعود للتأكيد على قابلية كلّ من "الأقلية" و"الأغلبية" للإصابة بلوثة العصبية والتعصب. فمنشأ العصبية، غالباً، يأتي من شعور الجماعة بخطر يتهدد وجودها أو ثقافتها، فينشأ عند ممارسة أي شكل من التمييز ضدها من قبل جماعة أخرى، سواء من "الأقليات" أو "الأغلبية". غالباً ما يجد التمييز تعييناته في بعض النصوص القانونية أو مواد الدستور أو حتى في سياسات ممنهجة وممارسات ملموسة على الأرض، موجودة ضمن معطيات الأمر الواقع وتتعارض مع القوانين نفسها التي قد تتبنى، ولو نظريّاً، مضامين مساواتية، ما يدفع تالياً نحو نشوء فكرة مسبقة لدى أبناء الجماعة المعنية بأنهم "مواطنون من الدرجة الثانية". هذه "العصبية" ليست فقط مجرد سلوك خارجي عفوي، وإنما هي انعكاس لشعور نفساني داخلي هو "الولاء". والولاء قد يكون لشخص أو لفكرة أو لقائد أو لمبدأ سياسي.. ولكن هذا كله غير كافٍ لتتشكّل العصبية؛ إذ لابد أن يكون الولاء ولاءً لانتماء. والانتماء هنا يقتضي وجود جماعة مرتبطة بِصِلة ما فيما بينها ويكون الشخص جزءاً منها.

اقرأ أيضاً: الجهادية.. حين يلتقي الدين بالسياسة

وعطفاً على ما سبقت الإشارة إليه، من غياب تبلور هوية وطنية وانتعاش الانتماءات "الطبيعية" تحت الوطنية، سينعكس الانتماء الموضوعي نفسانياً بولاء الفرد للجماعة التي ينتمي إليها، ثمّ لن يكون من الصعب استنفار عصبيّته للقيام بكل ما من شأنه الدفاع عن الجماعة وتبريره. جملة هذه المقدّمات مهّدت لتحويل الحراك الشعبي الذي أعاد الناس إلى السياسة مفتتحاً "الربيع العربي"، تحويله من صراع  بين المجتمعات، أو قطاعات شعبية واسعة منها، وبين أنظمة الحكم الفاسدة المستبدّة، ليصبح صراعاً بين مكونات المجتمعات ذاتها.

ما جرى في سنوات "الربيع العربي" العجاف كشف حساب لإنجازات الاستبداد وتعرية لبنى التأخّر وعلاقات التخلف العفنة السائدة

إنّ من أهمّ الأسباب التي فاقمت المشكلة وزادت من حدّة الاستقطاب هو صعود تيارات الإسلام السياسي، والظاهرة الجهادية مع تقدّم عمر "الربيع العربي". لنتذكّر أنّ غالبيّة هؤلاء الإسلاميين، على ما تشي أدبياتهم، يذهبون في مسألة "المواطنة" والهوية مذهباً خطيراً ينطلق من مفاهيم مغلوطة. فعندهم، تحلّ فكرة "الوطن/ الجماعة" محل فكرة "الوطن/ الأرض"، بل وتُكفَّر الفكرة الأخيرة؛ لأنها "تقسيم لبلاد المسلمين". يبلغ الأمر أقصاه حين يقرّر بعضهم أنّ كلَّ من كان غير مسلم (وطبعاً وفقاً لفهم المتحدث للإسلام) "ناقص المواطنة"؛ لأنه ليس عضواً في "الوطن/ الجماعة". وفكرة "الوطن/ الجماعة" تتصاعد وتنتشر منذ أن أعلن سيد قطب أنه "لا وطن لمسلم ولا جنسية ولا اعتزاز بوطن ولا أرض". على ذلك، فإنّ ما يعتقده الإسلاميون على اختلاف مشاربهم أنّه "علاج" لموضوع اختلاف الأديان والمذاهب والأعراق، يكون من خلال التأكيد على فكرة "الهوية الحضارية الإسلامية" (أيضاً وفق فهمهم لهذا التعبير)، يزيد من تعقيد المسألة عوضاً عن حلّها؛ إذ يلغي التنوع، وهو ما جرى ويجري في مناطق سيطرة جماعات كهذه، والأدلة قائمة في سوريا والعراق وسواهما. أما عن المستقبل، فالسؤال الأدق ليس "مستقبل الأقليات" وإنما "مستقبل البلدان التي تشهد هكذا صراعات"، فمصير "الأقليات" و"الأغلبيات" والعلاقة بينها مرتبط بما ستؤول إليه هذه البلدان، في شكل النظام السياسي القادم، ومرجعيته. وإن الاحتقان وبذور الكراهية والأحقاد التي راكمها العنف بين المكونات المختلفة في بلداننا، بأقلياتها وأكثرياتها، لن يزول بغير الإصرار الجاد والنهائي على علاقات المواطَنة، والقطع بحزم مع كل أشكال تقديم وتكريس الانتماءات التفتيتية على حساب الهوية الوطنية الجامعة. لن تكون علاقات "الأقليات" فيما بينها أو بين "الأغلبية" وبينها متوترة إلا بقدر ما تستمر العصبيات بكل أشكالها: المذهبية أو الإثنية أو سواها. وإنّ تماسك الجماعة الوطنية ككل، ومدى اندماج أفرادها ومكوناتها في المجتمع يتناسب عكسياً مع شدة العصبية للانتماءات قبل الوطنية، وطردياً مع انتعاش دولة القانون والمواطَنة المتساوية. فكلما تراجعت قيمة المواطَنة بما تنطوي عليه من الحقوق والواجبات المتساوية والمشاركة السياسية.. سيزداد التعصب ويترسخ الانتماء بشدة أكبر للجماعة الصغرى، على حساب الجماعة الوطنية الكبرى. وأقول "الجماعة الصغرى"؛ لأنها أقلية كانت أم أكثرية فهي أصغر من الجماعة الوطنية = مواطني الدولة جميعاً). بعبارة موجزة: يتناسب الاندماج الوطني للأفراد والجماعات طرداً مع دولة المواطَنة الحقّة.
 

*كيف تقرأ المستقبل في ضوء المعطيات التي عايشتها وتعيشها الدول العربية بعد ما شهدته من قتل وتشريد جراء "الربيع العربي"؟
أعتقد أنّ في سيرة بلدان ما اصطلح على تسميته "الربيع العربي" الكثير مما يفسّر أوضاعها الحالية بعده، وما نجم عنه. قلت مراراً، لم يكن "الربيع العربي" سبباً منشئاً لكلّ ما جرى ويجري بقدر ما جاء أثره كاشفاً، وإنّ ما يطفو من معطيات "جديدة" ليس سوى انكشاف لمزيد من تنويعات آفة الاستبداد وأعراضها، وكذلك للثقافة التي أنتجتها ثمّ اعتاشت عليها. ففي ظل أشكال متعددة من الاستبداد المزمن، كان من المنطقي ألاّ يُكتب لتلك البلدان تحقيق مفاهيم المواطَنة وقيم المساواة وتكافؤ الفرص والحقوق المتساوية والواجبات العادلة. ورغم تضمين الدساتير الوطنية كافة تلك القيم، ومصادقة الحكومات على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، لم تكفّ نُظم الاستبداد يوماً عن تحويل المواطنين إلى أتباع خاضعين. حتى الجيوش الوطنية تحولت إلى أدوات للأنظمة تدين بدينها وتدافع عن مصالحها. لقد حلّ منطق الإكراه والقوة محل منطق الشرعية. تغولت "ثقافة الاستبداد"، وأُفرغت "المؤسسات" من مضمونها. جرى الإجهاز على فاعلية المجتمع والحيلولة دون استقلاليته ومنعه من المبادرة، ما جعل الحديث عن دور للشعوب العربية يؤثّر في حاضرها أو يرسم مستقبلها، أقرب إلى الوهم أو أحلام اليقظة. ما جرى في سنوات "الربيع العربي" العجاف هو كشف حساب لإنجازات الاستبداد، وتعرية لبنى التأخّر وعلاقات التخلف العفنة السائدة. وإن فشل مشروع التغيير تعبير عن تكريس هزيمة المجتمعات، سواء تعلّق الأمر ببقاء هذا النظام أو إعادة إنتاج ذاك. أو عبر ظهور شكل آخر للاستبداد، يتجلى في صعود الحركات الجهادية، التي تعتبر نفسها الأمينة على تطبيق إرادة السماء، فتعيد إنتاج الاستبداد موشّحاً بقداسة دينية مصطنعة. هكذا، ورغم كل المآسي والتضحيات المتواصلة التي بذلتها وتبذلها شعوب المنطقة في سبيل التغيير والخلاص من الاستبداد، نجد أنّ غول الاستبداد لا يزال هائماً على وجهه، يعيث فساداً هنا وهناك. فبعد موجة الاحتجاجات ثم الانتفاضات فالثورات العربية، (وباستثناء التغيير النسبي في تونس وإن كان ظاهرياً في بعض جوانبه)، فإن النتائج - إلى الآن، وإلى أجل غير قصير على ما يبدو - تتراوح بين إعادة إنتاج النظام كما في الحالة المصرية، أو الفوضى والحروب الأهلية على ما يشهده اليمن وليبيا. يضاف إليها ما تمخّض عنه "الربيع السوري" ذو النتيجة العجائبية؛ مزيج مركّب من ملامح حرب أهلية تظلّل بقايا ثورة تتاجر بها "معارضات" فاسدة مستبدة ومشرذمة مع تكاثر بؤر إرهاب أصولي يزداد تفشّياً ناشراً استبداده المقدّس، ويترافق ذلك كلّه مع استمرار نظام كارثي يعتاش على كل ما سبق في سعيه للبقاء وإعادة إنتاج ذاته.
*برأيك ما أثر العولمة ومخاطرها على الإعلام؟ وأمام ما نراه من "فيضان" إعلامي وتشتت في البث تضيع معه الحقائق وتميع، هل فقد الإعلام دوره؟ وما مخاطر أدلجة الإعلام وسيطرته؟
تناولت في مقال سابق لي جوانب من الدور الخطير للإعلام في زمن العولمة. فالإعلام، بوصفه أحد أشكال السلطة، يعمل كأية سلطة على خدمة من يمسك بها. اليوم، مع أفول عهد احتكار الحكومات المطلق لوسائل الإعلام بتنا أمام سلطات إعلاميّة متعدّدة، بمصالح متعارضة أحياناً، تتنافس في السيطرة على عقول ـ وبالتالي سلوك ومصائرـ مليارات البشر، من خلال الكمّ الهائل من المواد الإعلامية على اختلاف الأنواع والمضامين والوسائط، التي توظَّف في خدمة إنتاج "ثقافة" تغلغل في "لا وعي" المتلقي ووعيه، تتبنى قيماً وأفكاراً تتّفق مع مصالح الممسكين بسلطة الإعلام ومن يقف وراءهم. من الملاحظ أنه باستثناء اليسير من قيم العلمانيّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان، والتي باتت ثقافة عالمية أنجزتها الحضارة الإنسانية المعاصرة ولا تختص بشعب دون آخر، باستثناء القليل من هذا، فإنّ "الثقافة" المعولمة التي تضخها إمبراطوريات الإعلام تقوم على الاستهلاك وتهدف إلى الربح السريع، عبر إيجاد نمط موحّد من الحياة اليومية الاستهلاكيّة، خدمة لسلطة رأس المال، ممثّلاً بالشركات الكبرى متعدّدة الجنسيّة، المسيطرة بدورها على الدول الكبرى، وأيضاً، بشكل أو بآخر، على "المستعمرات" السابقة في العالم الثالث. في المستوى السياسي، يقوم أباطرة الإعلام بتحريف الوقائع والمعلومات والتدخّل في تقديمها وفق مصالح معيّنة وخدمة لأيديولوجيات محدّدة، ويجري "استهلاك" هذا "المنتج الإعلامي"، بما فيه من زيف وتحريف، في طول وعرض الكوكب "القرية الصغيرة المعولمة".

الخطر الأكبر للإعلام يمتد إلى ما يمكن تسميته إعادة تشكيل التاريخ لتتحوّل المادة الإعلاميّة المحرّفة إلى أرشيف سيصبح مع الزمن مرجعاً أو "وثيقة تاريخية"

لا يقتصر التحريف على خلط الأكاذيب بالوقائع أو إضافة تعليق أو تحليل ما إلى صلب الأخبار أو المعلومات ليصبح جزءاً منها، وإنما يمكن أن يحصل بطرق أخرى غير مباشرة، لكنّها تفي بالغرض فتعيد ترتيب الأولويات وتكريس الأفكار والقيم المطلوبة، كتجاهل حدث ما أو التقليل من أهميته، مقابل المبالغة في تغطية حدث آخر، وفق ما يشاء سادة الإعلام. الخطر الأكبر يمتدّ إلى ما يمكن تسميته "إعادة تشكيل التاريخ" وذلك عندما تتحوّل المادة الإعلاميّة المحرّفة و"الحقائق" الزائفة التي تتضمّنها إلى أرشيف سيصبح مع الزمن مرجعاً أو "وثيقة تاريخية"!
إذن، الإعلام لم يفقد دوره، بل على العكس. بات دوره أكبر وأخطر من أي وقت مضى، غير أنّ رسالته اختلفت، أو لنقل أنّه في معظمه فقد الرسالة (رسالة البحث عن الحقيقة، الشرف المهني، الدور التثقيفي..)، وبات أداةً فعّالة في يد الفئات المسيطرة.
*كيف تفسر موجة التخويف من الإسلام، واقتران الإرهاب به؟ وهل تتفق مع الرأي الذي يحمّل التراث الديني مسؤولية ما يجري من رواج للفكر المتطرف؟ كيف نروّج لصورة الإسلام الحضارية عالمياً بعيداً عما التصق به من تشويه؟
بعد كل هجوم إرهابي ينفّذه "إسلاميون"، أو ينسب إلى "إسلاميين" في أوروبا أو غير مكان من العالم، تنتشر الكثير من التحليلات والتعليقات التي يسعى أصحابها إلى رفض تحميل الدين الإسلامي وعموم المسلمين وزرَ ما حدث. ومما يقولونه، إن المسارعة إلى اتّهام "الإسلام" بالإرهاب لمجرّد أنّ مسلماً قام بعمل إرهابي فيه سوء فهم للإسلام، و"تفسير سطحي" لظاهرة الإرهاب. بعضهم يركّز على ربط ظاهرة الإرهاب بقضايا الشرق الأوسط العالقة وازدهار ردّات الفعل العنيفة في كنفها، ما استجدّ منها كالحرب المتواصلة في سوريا أو تلك المزمنة كالقضية الفلسطينية. فيما يربطها آخرون بمشاكل اقتصادية - اجتماعية تعانيها "الجالية المسلمة" في الغرب، وفشل الحكومات المتعاقبة في الدول الغربية بمعالجتها. ولا ننسى أصحاب "نظرية المؤامرة"، الذين يعتقدون أنّ أحداثاً كهذه "مفتعلة"، ويضعونها في إطار ما تقوم به التيارات اليمينية المتطرّفة في الغرب أو إسرائيل بغية "تشويه الإسلام". لا ننفي بعض ما تحتمله تلك الآراء من وجاهة. ولكن، مهلاً. مع تكرار كون المنفذين مسلمين، وفي ظل وجود متّهم جاهز دوماً هو الإسلام السياسي- الجهادي، وادّعاء هذا التيار تمثيله "الإسلام الصحيح"، ألا يجدر أن يدفع هذا إلى الكفّ عن تجاهل حقيقة اتّكاء منظمات الجهاد العالمي، وفي مقدمتها "القاعدة"، على تعاليم وفتاوى إسلامية؟ إنّ استمرار رواج نصوص ومقولات إسلامية، بمضامين تحريضية، تحضّ على الكراهية واحتقار "الآخر" وتكفيره، وما ينتج عن ذلك من تطرّف وإرهاب، ما هو إلا نتيجة لممانعة القيّمين على الإسلام ورفضهم أيّ نقد أو مراجعة تطال النصوص "المقدسة"، وحتى ما تراكم عليها من شروحات وتفاسير. لماذا نتّهم الآخرين بالتجنّي على الإسلام مادام الإرهابيون يزيّنون ما يقومون به ويبرّرونه بنصوص الإسلام المقدّسة، من القرآن والسنّة، وفقه "علماء الأمة"، سواء بفهمها حرفياً مقطوعةً عن سياقها التاريخي، أو بتأويلها على نحوٍ ما يخدم نهجهم. لذا وجب القول، التراث الديني الإسلامي، كأي تراث، لا يمكن أن يكون حياً إلا إذا قبل بأن يتجدد، ويكون عرضة للنقاش والنقد وإعادة التأويل والتفسير وفق قراءة معاصرة، وإلا سيغدو جامداً متحجراً، منغلقاً ومتعصباً أكثر فأكثر، لا ينسجم مع قيم العصر ومنجزات الحضارة الإنسانية، ويصبح مرشحاً للانقراض، أو أنه ينتعش بشكل مشوّه، على صورة تنظيمات عدمية، من أضراب "القاعدة" وسلالاتها المتنوعة كتنظيم "الدولة الإسلامية"، و"بوكو حرام" و"جبهة النصرة لأهل الشام" وسواها من الجماعات السلفية الجهادية، وكذلك في النسخ الشيعية منها، كالميليشيات الشيعية الطائفية التي تعيث خراباً وإرهاباً في العراق وسوريا، وأيضاً تحت مسمى "الجهاد". بالتالي، لا يبدو أن هذا "التخويف من الإسلام" مجرد أوهام لا أساس لها، ولا هو محض اتهام للإسلام أو لتراثه بما ليس فيه مطلقاً.

اقرأ أيضاً:  الأصولية الإسلاموية المتطرفة والفكر التكفيري الإرهابي: محاولة للفهم

إنها حقيقة تجب مواجهتها بشجاعة، كيلا تستشري أكثر فأكثر، فتطمس حقائق حضارية، روحانية، وإنسانية يُفترض أنّها جزءٌ من رسالة الإسلام الحقيقية. أمّا الترويج عالميّاً لإسلام حضاري منفتح، فمشروطٌ بخوض غمار التجديد والإصلاح الديني العميق لا الشكلي في الإسلام. أعتقد أن الوقت قد حان ليخرج من بين المسلمين تنويريّون شجعان يحملون على عاتقهم تحدّي علمنة الدين الإسلامي، وتحويل التعاليم الدينية إلى نوع من الأخلاق الاجتماعية. وإذا كانت الأديان، وفي مقدمها الإسلام، تنسب لنفسها دوراً أخلاقياً أساسيّاً، فإنّ تحوّلاً من هذا النوع لا يُفقد الأديان مكانتها الروحية أو وظيفتها الأخلاقية، ولا يُفترض أن يكون مناقضاً لرسالتها. إن وقائع التاريخ الحديث وتجارب شعوبٍ بلغت شأواً في الحضارة الإنسانية، تؤكّد أنّ الإمكانيّة الفعليّة للتجديد/ الإصلاح الديني ظهرت في ظلّ العَلمانية، التي حفّزت الأديان على مراجعة مقولاتها وتكييفها بما يتناسب ومقتضيات العصر. والعَلمانية لا تعني بأي حال التخلّي عن الدين أو محاربته، على ما يروّجه خصومها. يتجلّى ذلك في حرية العقيدة دون إكراه أو تدخّل من أحد، وضمان حرّية الأديان على أن تبقى في إطارها "الديني - الروحي". وهذا مبدأ أساسي في العَلمانية، يجد تطبيقه العملي في حياديّة الدولة تجاه الأديان واحترامها للتعددية الدينية والدنيوية. على ذلك تنظر الكنيسة إلى العَلمانية نظرة إيجابيّة، بل لقد كان من العوامل التي ساهمت في اندماج الكنيسة في العصر الحديث وتكيّفها مع مقتضياته دون اصطدام بالأفراد أو الجماعات، ما أعلنه البابا بيّوس الثّاني عشر، حين عدّ "العَلمانية السّليمة" مبدأً أساسيّاً من مبادئ الكاثوليكية؛ إذ "تعطي لقيصر ما هو لقيصر وما لله لله"، وتحترم كافّة المذاهب، وتضمن حريّة المعتقد وممارسة الطّقوس. وإن استمرار القيّمين على الإسلام ومن يتبعهم برفض العَلمانية، لكونها تفضي إلى "فصل الدين عن الدولة"، وإصرارهم على مقولة الإسلام "دين ودولة"، لا انفصال فيه بين أمور الدين والدنيا، يجعل من العسير الخوض في مراجعات جدّية تقود إلى قراءة عصرية مختلفة للإسلام، تنقذه من تهمة الإرهاب، وتعيد تشكيل صورته الحضارية.

الدين لا يمكن أن يكون حيّا إلا إذا قَبِل بأن يتجدّد وأن يكون عرضة للنقاش والنقد وإلا سيغدو جامدا ومتحجرا ومنغلقا ومتعصبا ولن  ينسجم مع قيم العصر ومنجزات الحضارة الإنسانية
 

*ما مدى العلاقة بين رواج الفتاوى وصعود ما بات يعرف اليوم بالإسلام السياسي؟
أرى أنّها علاقة وثيقة، وأن حركات "الإسلام السياسي" فتحت الباب واسعاً أمام ما يوصف بفوضى الفتاوى اليوم. ذلك أنّ "أسلمة" الحياة والمجتمعات، على نحو ما تهدف وتعمل تلك الحركات، أدى إلى استسهال إطلاق الفتاوى في كل كبيرة وصغيرة، عدا عن الإفتاء والإفتاء المضاد وفق ما تقتضيه المصالح السياسية والحزبية الضيقة لهؤلاء. إلى ذلك، يغالي بعضهم فيقوم، خدمة لمصلحة ما، بنبش فتاوى منسيّة من بطون كتب التراث، يقطعها عن سياقها التاريخي ويكيّفها وفق تأويل يخدم لحظته الراهنة. كل هذا يجعلنا أمام نسخ متعددة من "إسلام الفتاوى" مع إصرار أصحاب كل نسخة على أنها الإسلام القويم. على أنه وإن سار غالبيّة "الإسلاميّين" وشرائح من عامة المسلمين، على تنزيه "السلف الصالح" وتقديس ما كتبوه من آراء وفتاوى واجتهادات، إلاّ أنّ الفتوى ليست نصّاً شرعيّاً ملزماً بالمطلق للمسلم الملتزم كما هي حال آيات القرآن أو الأحاديث النبوية. فالفتوى تعبّر عن طريقة فهم الشخص المستفتى ومحاكمته لقضية معينة لم يرد فيها نصّ واضح وصريح، وبالتالي رأيه في حكم تلك القضية. ذلك الرأي الذي يُفترض أن يبنيه مستخدماً قواعد أصول الفقه وأدواته، كالقياس والاستحسان والاستنباط والمصالح المرسلة وسدّ الذرائع .. وغيرها. وغالباً ما يستند صاحب الفتوى على نصوص من القرآن أو السنّة، تتناول قضايا مشابهة لموضوعها، ليدعم بها فتواه. لعل من المفيد هنا التذكير بما جرى قبل نحو خمس سنوات، حين احتضنت مدينة (ماردين) بتركيا مؤتمراً حضره عدد من كبار رجال الدين المسلمين من مختف البلدان الإسلامية، كانت الغاية منه إبطال فتوى "شيخ الإسلام" ابن تيمية المعروفة بفتوى "ماردين". وفعلاً، في ختام أعمال المؤتمر أعلن المجتمعون عن إبطال تلك الفتوى، وتالياً إلغاء ما ترتب عليها من تقسيم العالم إلى "دار إسلام" و"دار كفر" أو "دار حرب". من المعلوم أن "شيخ الإسلام"، كان قد أفتى بها قبل نحو سبعة قرون مضت، وقسم العالم بمقتضاها إلى "دار إسلام ودار حرب".
دار الإسلام يقصد بها البلدان التي يسيطر عليها المسلمون وتقع تحت سلطتهم، أمّا "دار الحرب"ـ وتسمّى أيضاً "دار كفر"ـ فهي ما عدا ذلك، أي أنها تشمل الأراضي التي يسيطر عليها غير المسلمين، أيّاً يكن دينهم أو معتقدهم. وقد ذهب المجتمعون في ماردين إلى عدم صلاحية هذه الفتوى؛ لأنّه "لا يمكن استخدامها في زمن العولمة الذي تحترم فيه حرية العقيدة وحقوق الإنسان". و"فتوى ماردين" هذه، سبق وأن أعيد إحياؤها خلال العقدين الأخيرين على أيدي تيارّات "السلفية الجهادية" خصوصاً، وراجت بشكل أكبر مع ازدهار "الجهاد العالمي"، التي اعتمدت عليها كحجّةٍ شرعية وسندٍ فقهيّ لتبرير العمليات التي تقوم بها وعنفها "المقدّس"، تحت مسمى "الجهاد"، ضدّ "دار الكفر. لقد كان ما جرى في مؤتمر (ماردين) نقلة نوعيّة في طريقة التعامل مع تراث الفقه الإسلامي ومسألة الفتاوى أيضاً، خصوصاً وأنّه تناول فتوى أصدرتها شخصيّة تعتبر من أعمدة الفقه الإسلامي بحجم "شيخ الإسلام ابن تيمية". ثمّ إنّ انعقاد المؤتمر في دولة إسلامُها سنّي، ومن قبل رجال دين سنّة، مؤشّر هام أعطى أهمّية إضافية للحدث. لكنّ واقع الحال يقول بأن لا سلطة لأولئك العلماء أو لسواهم على حركات الإسلام السياسي بعامة، والجهادي منها بشكل خاص، حيث لم يتوقف التكفير والقتل والإرهاب استناداً إلى تلك الفتوى (وسواها). على أن السؤال الأهم الذي يجب طرحه والتصدّي لتحدّي الإجابة عنه بشجاعة: حتى ولو كان من الممكن أن نشهد إبطال هذه الفتوى أو تلك ممّا "لا يمكن استخدامها في زمن العولمة الذي تحترم فيه حرية العقيدة وحقوق الإنسان"، فما هي الكيفية التي يمكن من خلالها تجاوز نصوصٍ إسلاميّةٍ "مقدّسة"، واضحة وصريحة، تشكّل الأساس الذي تقوم عليها الفتاوى؟! ألا يعني هذا إعادة النظر بدور المرجعية الدينية في شؤون حياتنا الدنيوية؟

الصفحة الرئيسية