هل تكرّر روسيا سيناريو الأزمة الجورجية مع أوكرانيا؟

هل تكرّر روسيا سيناريو الأزمة الجورجية مع أوكرانيا؟


18/04/2021

لا يجب أن تُقرأ الأزمة الروسية - الغربية حول أوكرانيا من منظور أحادي، يرى أنّ روسيا دولة معتدية على سيادة دولة مستقلة؛ لأنّ ذلك قطع للأزمة من سياقها التاريخي الجغرافي، وترديد رواية الغرب، الذي يعلم كثيرون انحيازه التاريخي الذي يكاد يكون عقديّاً ضدّ موسكو، منذ قرون مضت.

ومن منظور ثنائي، تقول الرواية الروسية؛ إنّ نمو التطرف القومي في أوكرانيا، المعادي للمواطنين من القومية الروسية، والرامي لاستغلال الناتو ضدّ روسيا، لن يؤدي إلا إلى تفتيت أوكرانيا ذاتها، وأنّ حياد أوكرانيا وفيدراليتها هو الكفيل بضمان مصلحة الجميع.

تصعيد متبادل

أثارت الحشود العسكرية الروسية في جزيرة القرم وعلى الحدود مع أوكرانيا غضباً كبيراً في بروكسل وواشنطن، على خلفية الأزمة الأوكرانية، التي أخذت منحنى تصاعدياً منذ مطلع العام الجاري، وقامت واشنطن ودول أوروبية بفرض مزيد من العقوبات على روسيا، وردّت الأخيرة بالمثل.

الرئيس الأوكراني يتفقد خطوط التماس

وبدأت الأزمة عام 2014، بعد ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم، على خلفية الثورة أو الانقلاب في أوكرانيا، التي أدخلت البلاد في صراعات قومية داخلية، وأخلت بالتوازن بين العلاقة مع روسيا والغرب، ونتج عن ذلك اجتياح، أو استعادة روسيا القرم، بعد تنظيم سكانها استفتاء جاءت نتيجته لصالح الانضمام لروسيا، وكذلك نشبت صراعات مسلحة في الأقاليم الشرقية والجنوبية التي تسكنها أغلبية من القومية الروسية، ضدّ القوميات المتنوعة في وسط وغرب البلاد، وتسببت في إعلان استقلال جمهوريتَي؛ دونيتسك ولوغانسك، اللتين تقعان في إقليم الدونباس، من جانب واحد، ويشهد الإقليم صراعاً بين السكان من أصول روسية، الذين يطالبون بالانضمام إلى روسيا، والحكومة الأوكرانية، التي يسيطر عليها القوميون.

أمام موسكو عدّة سيناريوهات للأزمة؛ الأول الاجتياح إذا بدأت كييف الحرب، أو انضمّت إلى حلف الناتو، والثاني المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا والغرب

ولم تعترف روسيا باستقلال جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك، لكنّها تعهدت بحماية السكان الروس هناك، والاستمرار في تقديم الدعم الإنساني والسياسي، وبعد هجوم الحكومة الأوكرانية، المردوفة بميليشيات قومية متطرفة على الجمهوريتين في 2014، نشب صراع مسلح تسبّب في مقتل وإصابة وتشريد عشرات الآلاف، وجرى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار برعاية منصة مينسك، التي تضمّ روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا.

ولم ينه اتفاق مينسك 1 و2 الصراع في الدونباس، وكذلك رباعية نورماندي، وفي تموز (يوليو)، اتفقت أوكرانيا ودونيتسك ولوغانسك برعاية منصة مينسك على وقف دائم لإطلاق النار، لكن سرعان ما عاد التوتر مرة ثانية، مطلع العام الجاري، الذي شهد تنصيب الرئيس الأمريكي، جو بايدن، المتبني لسياسة أشدّ حزماً تجاه روسيا، إلى جانب تحوّل الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، من خطاب الوحدة، الذي كان وراء فوزه في انتخابات 2019، إلى التصعيد ضدّ روسيا، والضغط على بروكسل وواشنطن لتسريع قبول عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي، وقبول طلب انضمامها إلى حلف الناتو.

الغرب والأزمة

ويدير الغرب الأزمة الأوكرانية من منطلقات عدة؛ الموقف التاريخي من تحجيم روسيا، واستخدام دول الاتحاد السوفييتي السابق كجدار عازل مع موسكو، والصراع الدولي على الهيمنة، إلى جانب إدارة الملف من زاوية تبعاته على الجوار الأوروبي.

قادة روسيا وفرنسا وألمانيا وأوكرانيا يتباحثون حول الأزمة

ولا وجود لموقف غربي واحد، بل هناك ثلاثة مواقف؛ الأول الولايات المتحدة التي تتبنى خيار التصعيد مع الروس، في ظلّ التنافس الدولي على المكانة، ويمكن احتساب بريطانيا إلى جانب هذا الموقف، والثاني موقف دول أوروبا الشرقية والبلطيق التي تخشى من نفوذ روسيا، وتنتهج التصعيد بدرجة أكبر من واشنطن، لكنّها شبه عاجزة، والثالث موقف القوى الأوروبية الغربية؛ مثل فرنسا وألمانيا اللتين تريدان وضع حدّ للتوتر، وتحجيم روسيا، لكنّهما ترفضان بشدة التصعيد، نظراً لمخاطره على الاتحاد الأوروبي ككل، عبر أزمة اللجوء والفوضى الأمنية وغيرها، إلى جانب استقلال إدارتها لعلاقاتها مع روسيا عن واشنطن، ووجود مصالح وطنية مع روسيا.

اقرأ أيضاً: تركيا والبحر الأسود وأوكرانيا.. معضلة التوازن

ويرى الباحث المصري في التاريخ والسياسة والعلاقات الدولية، أحمد دهشان، أنّ الورقة الرابحة بيد أوروبا في إدارة الأزمة ليست التصعيد العسكري، بل فرض العقوبات الاقتصادية، التي تُنهك الاقتصاد الروسي الضعيف، وهو ما يعيه بوتين جيداً، ويضع في حسبانه.

الروس والأزمة

ولدى روسيا مقاربة مختلفة للأزمة، تستند إلى مسلمة أساسية وهي؛ عدم تحوّل الجمهوريات السوفييتية السابقة إلى أداة بيد الناتو في الصراع معها، وغير ذلك تتمتع موسكو بمرونة لتناول أزمة أوكرانيا، التي تشبه إلى حدّ ما الأزمة في جورجيا، والتي انتهت باجتياح موسكو لبعض أراضيها.

ولفهم الموقف الروسي، يعود أحمد دهشان، في حديثه لـ "حفريات"، إلى التاريخ، ويوضح أنّ؛ المناطق التي شكلت الاتحاد السوفييتي سابقاً لها وضع خاص لا تجوز مقارنته بوضع الدول الوطنية المستقرة؛ فهذه الدول لم تعرف في تاريخها قيام دولة وطنية، وقومية حديثة، لكنّها شهدت قيام إمارات وخانيات حكمت لفترات زمنية متقطعة، وعلى مناطق محدودة.

بوتين في جولة عسكرية

وفي حالة أوكرانيا، والحديث لدهشان؛ كانت المناطق الجنوبية والشرقية، محلّ النزاع اليوم، تتبع روسيا تاريخياً، منذ تشكيل إمارة موسكو، حتى سقوطها على يد المغول، ثم استعادتها مع التحرر الروسي من هيمنة الخانات التترية، وظلت تابعة لها حتى ثورة البلاشفة عام 1917، والتي قامت بضمها إلى أوكرانيا، بصفتها جمهورية داخل الاتحاد السوفييتي.

وأضاف دهشان؛ المناطق محلّ النزاع تختلف عن بقية مناطق أوكرانيا، فهي متجانسة؛ حيث إنّ معظم السكان من الروس، وغنية اقتصادياً، ومتطورة صناعياً، على عكس الغرب الأوكراني الذي يضمّ قوميات متعددة، وغير متجانسة، ولها ولاءات خارجية متنوعة، إلى جانب أنّها مناطق زراعية متخلفة اقتصادياً.

اقرأ أيضاً: شرق أوكرانيا... هل يصبح أولى ساحات المواجهة بين روسيا وأمريكا في عهد بايدن؟

وأشار دهشان إلى أنّ جمهورية أوكرانيا بشكلها الحديث، دون القرم، لم تظهر إلا مع التقسيم الإداري السوفييتي، عام 1936، واجتياح ستالين للمناطق التي شكلت الجزء الغربي منها، والتي استردها من عدّة دول أوروبية شرقية، عام 1939 بعد اتفاق مولوتوف-ريبنتروب مع ألمانيا النازية، وبهذا ظهرت دولة أوكرانيا الحديثة، وتمّ ضم القرم إليها عام 1956، كتنظيم إداري داخل الاتحاد السوفييتي.

ومع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، نظم سكان القرم استفتاء، عام 1992، صوّت فيه 90% لصالح الاستقلال عن أوكرانيا، لكن روسيا التي عاشت حالة من الفوضى لم تلتفت إليه، ووافقت على بقاء القرم مع أوكرانيا، شريطة ألا تنضم إلى الناتو، وأن تحتفظ بقاعدة سيفاستوبول البحرية العسكرية، وبقي الوضع هكذا حتى أزمة عام 2014.

الباحث أحمد دهشان لـ "حفريات": المفكّرون الروس يرون أنّ جذور الأزمة تعود إلى ضمّ مناطق جنوب وشرق أوكرانيا الحالية إلى جمهورية أوكرانيا السوفييتية

ويوضح دهشان؛ أنّ المفكّرين الروس يرون أنّ "جذور الأزمة تعود إلى ضمّ مناطق جنوب وشرق أوكرانيا الحالية إلى جمهورية أوكرانيا السوفييتية، ثم ضمّ القرم، والتي كانت خطأ إستراتيجياً".

ولذلك، بالنسبة إلى الروس، ما حدث عام 2014 هو استعادة القرم، التي تعدّ جزءاً تاريخياً من بلادهم، أما مناطق جنوب وشرق أوكرانيا فلا يُمانع الروس بقاءها ضمن دولة أوكرانيا، لكن بشرط تطبيق اتفاق مينسك، الذي نصّ على الفيدرالية.

السيناريو الجورجي

عام 2008؛ اجتاحت روسيا إقليم أوسيتيا الجنوبية في جورجيا، بعد هجوم من القوميين ضد الإقليم، الذي يطالب بالاستقلال عن جورجيا منذ تفكّك الاتحاد السوفييتي، وانتهى التدخل الروسي بطرد جورجيا من إقليمي؛ أوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا، والاعتراف بهما، جمهوريتين مستقلتين، تحظيان بالدعم والحماية منها، وتجمدت الأزمة بانفصال الإقليمين عن جورجيا.

ويتشابه ما حدث عام 2008 مع الأزمة الأوكرانية عام 2014، من جهة محاولة المركز في البلدين فرض قومية واحدة، لخلق دولة مركزية وطنية، دون مراعاة طبيعة التنوع الثقافي والقومي داخل جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة الهشّة، إلى جانب إقدام جورجيا على طلب الانضمام إلى الناتو، وهو ما تفعله أوكرانيا، ما دفع موسكو إلى عدم الاعتراف بهذه الدول من الأساس بشكلها الذي تكوّن في الاتحاد السوفييتي، واسترداد مناطق منحتها إليهما سابقاً إبان تلك الفترة.

خلّف الصراع في شرق أوكرانيا دماراً كبيراً

واليوم، في أوكرانيا، يوجد وضع مشابه؛ حيث استردّ الروس القرم، أو احتلوها بحسب الرواية الأخرى، إلى جانب إعلان دونيتسك ولوغانسك، الاستقلال من طرف واحد، والطلب من موسكو قبول ضمّهما إليها، وهو الأمر الذي لم تبت فيه موسكو بعد، لحسابات الصراع مع واشنطن وبروكسل.

وحول اجتياح شرق وجنوب أوكرانيا على غرار ما حدث في جورجيا، يرى الباحث في العلاقات الدولية، أحمد دهشان؛ أنّ هذا الخيار مستبعد تماماً، لعدم رغبة موسكو وبروكسل وواشنطن في حدوثه، نظراً لتكلفته الكبيرة عليهم جميعاً، لكنّه وارد إذا شنّت كييف حرباً على دونيتسك ولوغانسك.

اقرأ أيضاً: أوكرانيا ترفض التقرير الإيراني عن إسقاط طائرتها... ما القصة؟

وأضاف دهشان، أنّ أمام موسكو عدّة سيناريوهات للأزمة؛ الأوّل: الاجتياح إذا بدأت كييف الحرب، أو انضمت إلى حلف الناتو، والثاني: المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا والغرب، بشرط أنّ تُفضي إلى قبول الغرب بضمّ روسيا القرم نهائياً، والحكم الفيدرالي في أوكرانيا، الذي سيضمن لموسكو نفوذاً سياسياً عبر السكان الروس، بحيث يمنعون انضمام أوكرانيا للناتو، ويحفظون نفوذ موسكو.

والثالث، يتابع دهشان: أن يبقى الوضع على ما هو عليه، مع استمرار التحشيد الإعلامي والخطاب المعادي، الذي سيؤدي إلى توجّه الرئيس الأوكراني إلى التفاوض المباشر مع روسيا، وتوجيه ضربة للقوميين، دعاة الحرب، بعد أن يتضح أمام الجميع عدم جدوى الرهان على الغرب.

ويبدو أنّ خيار التفاوض مع روسيا بات الأقرب، بعد دعوة الرئيس الأوكراني إلى التفاوض مع بوتين، خلال اجتماعه في باريس مع الرئيس ماكرون، ثم الاجتماع الثلاثي مع المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، مساء الجمعة، 16 من الشهر الجاري.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية