لماذا ما تزال تهم التحريم تلاحق فنون النحت والتصوير؟

كان حراما

لماذا ما تزال تهم التحريم تلاحق فنون النحت والتصوير؟


23/04/2018

تنتشر اليوم صور الجهاديين وهم يقومون بتحطيم التماثيل والآثار في مختلف المواقع الأثرية، من مالي إلى أفغانستان، وترافقها آراء وفتاوى تؤكد "حرمة" فنون النحت والرسم، وأحياناً تختلط الأمور فتصل حد تحريم "التصوير الفوتوغرافي" أو إجازته بشروط، فهل يمكن القول بوجود تعارض ما بين الإسلام وهذه الفنون؟ وما هي أسباب وجذور هذا الالتباس؟

داعشي يحطم المنحوتات الأثرية في مدينة الحضر بالعراق

بين الإبداع والوثنية
تميّز الكائن البشريّ بقدرته على محاكاة العالم المحيط به، وإعادة تشكيله، وتأويله، وذلك من خلال الأعمال الفنية بمختلف أشكالها، التي كانت دائماً إحدى أهم المساحات التي تتجلّى فيها قدرات البشر على الإبداع، والتعبير عما يجول في دواخلهم، من مخاوف، أو طموح وآمال.
وكانت فنون النحت، والرسم من أقدم الفنون ظهوراً وانتشاراً؛ إذ تعود محاولات الرسم الأولى المحفوظة اليوم إلى حوالي 32,000 عام؛ حيث بدأت المحاولات الأولى باستخدام أدوات بسيطة من الطبيعة، وقد اقترنت هذه الفنون في كثير من الأحيان بالأديان، فاستخدمت المجسمات والتماثيل كمحاولة لتجسيد عالم الآلهة وتقريبه واستحضاره في العالم الدنيوي.

النحت والرسم من أقدم الفنون ظهوراً وانتشاراً إذ تعود المعروفة منها إلى حوالي 32,000 عام

مضاهاة فعل الخالق
عندما ظهر الإسلام كان فن النحت موجوداً ومنتشراً عند العرب منذ قرون، وكان مقترناً بالديانة والمعتقدات الوثنية السائدة آنذاك، وهي التي جاء الإسلام – القائم على التوحيد – مخالفاً لها، وقد نُقل عن النبيّ-عليه السلام- عدّة نصوص تفيد بالنهي والتحذير من اتخاذ المجسمات وصناعتها، كقوله: "إن أشدّ الناسِ عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون" (صحيح البخاري)، وقوله: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة" (صحيح مسلم)، وكانت العلّة الظاهرة، كما ذهب كثير من الفقهاء، هي تجنّب كل المظاهر المتصلة بالوثنية؛ حيث يقول القاضي أبو بكر ابن العربي: "والذي أوجب النهي في شريعتنا ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصوّرون ويعبدون، فقطعَ اللَّهُ الذريعة، وحَمَى الباب".

منحوتة نبطية للإله ذي الشرى (بُصرى)

وبالإضافة إلى ذلك كان هناك علّة أخرى مرتبطة بالتحريم، وهي التحذير والنهي عن مضاهاة فعل الخالق، وذلك من باب التأكيد على وحدانية الإله على مستوى الأفعال وتفرده بالقدرة على الخلق، حيث جاء في الحديث عن النبي: "الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" (صحيح مسلم).
ومن الفقهاء من استشهد بقصة اتخاذ الأصنام الأولى عند قوم نوح (ودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسرا) كدليل لتحريم التصوير حتى وان لم يكن الغرض منه العبادة، فقد جاء في تفسير الآية 23 من سورة نوح، كما عند ابن كثير، أنّ بداية الشرك عند قوم نوح كانت بصناعة تماثيل لهؤلاء الرجال الصالحين من أجل تذكرهم، ثم تحوّلت مع الزمن إلى أصنام تعبد من دون الله.

عندما ظهر الإسلام كان فن النحت منتشراً بين العرب واقترن بالديانة والمعتقدات الوثنية السائدة آنذاك

التصوير والحضارة الإسلامية
منذ بدايات التاريخ الإسلامي اتجه المسلمون إلى تجنّب النحت وعمل المجسمات، وعلى مستوى "الرسم"، تجنبوا الرسومات التي تصوّر الحيوانات والبشر، التي كانت منتشرة في الكنائس المسيحية آنذاك، وإنما اتّجهوا إلى الإبداع في الزخارف الهندسية، والرسوم النباتية، كما نجد ذلك، منذ زمن مبكر، في الجدارية الفسيفسائية في الجامع الأموي بدمشق، على سبيل المثال. وذلك باعتبار أنّ هذه الرسومات لا تحتوي على تصوير ما فيه روح، وبالتالي هي ليست من باب "مضاهاة خلق الله"، وكان الأساس في هذا الاجتهاد هو حكم فقهي قرره الصحابي ابن عباس، عندما جاءه رجل يستفتيه في حكم التصاوير التي يصنعها فنهاه عن ذلك وقال له: "ويحك، إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، كل شيء ليس فيه روح".

جدارية فسيفسائية في الجامع الأموي (دمشق) تحاكي صورة متخيلة عن الجنة السماوية

استثناءات تاريخية
ولكن، وفي عصور لاحقة، ظهرت اتجاهات مالت إلى إعادة تأويل النصوص وحصر الحُرمة في حالة عمل "أصنام" بقصد العبادة؛ حيث ظهر عدد من الأعمال الفنية النحتية، كما في القصور الأندلسية، ولكن، وبالرغم من ذلك، استقرّ الحال في معظم أرجاء العالم الإسلامي وعند الغالبية العظمى من الفقهاء، على تحريم الأعمال الفنية المجسّمة، التي لها ظلّ، بالإضافة إلى تحريم رسم "ما فيه روح".

تماثيل أسود في قصر الحمراء (غرناطة)

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى إجازة اتخاذ وعمل نوع واحد من التماثيل وهي التماثيل والمجسمات الصغيرة، التي يكون الغرض منها اتخاذها دُمى للعب، واستشهدوا في ذلك بحديث عائشة أن النبي "كشف ناحية الستر على بنات لها (لُعَب) فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، قالت: ورأى فيها فرساً مربوطاً له جناحان فقال: ما هذا؟ قلت: فرس، قال: فَرَسٌ له جناحان؟ قلت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة؟ فضحك".
كما ذهب فقهاء المالكية إلى إجازة صناعة التماثيل من العجوة وغيرها مما يخصص ويعدّ للأكل.

فريق من الفقهاء رأوا في التحريم حكماً خاصاً بأهل زمان معيّن ولا ينطبق على الفنون الجميلة اليوم

التصوير الفوتوغرافي.. نازلة فقهية
استقرت الآراء الفقهية بخصوص التصوير على هذا الحال، ومع اختراع "الكاميرا" في القرن التاسع عشر، ومن ثم دخولها وانتشارها تدريجياً في العالم الإسلامي خلال القرن العشرين، اعتبر حكم هذا النوع الجديد من التصوير بمثابة نازلة فقهية جديدة، وبدأت الأسئلة تطرح عنها، وعمّا إذا كانت داخلة في حكم التحريم، وكان أول من برز لهذه المسألة شيخ الأزهر محمد بخيت المطيعي (1854 – 1935)، فكتب رسالته الشهيرة "الجواب الشافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي"، حيث ذهب إلى إباحته، وعلّل ذلك بأنّ التصوير الفوتوغرافي هو مجرد حبس للضوء، وليس فيه أيّ مضاهاة لخلق الله.

محمد بخيت المطيعي وغلاف الطبعة الأولى من رسالته "الجواب الشافي"

الآراء المعاصرة
وقد تنوعت آراء الشيوخ والدعاة المعاصرين، ما بين من ذهب إلى تحريم جميع أشكال التصوير، من نحت، ورسم، وتصوير فوتوغرافي، كالشيخ محمد الألباني، والذي رأى بأن علّة التحريم هي مضاهاة فعل الخالق، وجادل أنّه حتى في حالة التصوير الفوتوغرافي فإنّ قيام المصوّر بالضغط على زر التصوير كاف لقيامه بفعل المضاهاة، ومنهم من وضع استثناءات، فالشيخ سليمان الرحيلي، الذي أجاز حالة واحدة من التصوير، وهي تصوير البث الحي والمباشر، على اعتبار أن ذلك لا يقتضي تدخلاً من المصوّر، أما في حالة تسجيل "الفيديو" غير المباشر، فرأى الشيخ أنّه قد يتدخل فيه المصور بتعديل، وبالتالي فهو يقول بحرمته!

ذهب فريق من الشيوخ والدعاة إلى التفريق ما بين الرسم والنحت المحرّم  والتصوير الفوتوغرافي

وممن ذهب إلى عموم الحرمة أيضاً: الشيخ عبدالعزيز بن باز، الذي استثنى فقط تصوير وتسجيل المحاضرات العلمية، نظراً لما فيه من تعميم للفائدة ونشر للعلم، وفقاً لما رأى. وذهب فريق آخر من الشيوخ والدعاة إلى التفريق ما بين الرسم والنحت من ناحية، وهو ما قالوا بتحريمه، والتصوير الفوتوغرافي، الذي رأوا بأنه ليس فيه فعل مضاهاة، وإنما هو مجرد عكس لصورة المخلوق، وهو مجرد حبس للضوء، ومن أبرز القائلين بهذا التفريق الشيخ محمد ابن عثيمين، والشيخ محمد حسان، والشيخ صالح المغامسي، والشيخ عبدالعزيز الفوزان، أما الفريق الثالث، فذهب أصحابه إلى النظر في علّة التحريم الأولى، وهي مضاهاة خلق الله، واجتناب عبادة الأوثان، وهو ما رأوه خاصاً بأهل زمان معيّن، أما الفنون الجميلة اليوم، التي يُراد منها الإبداع الفنيّ، فهي لا تدخل في حكم التحريم، وهو ما انتهى بهم إلى القول بجواز التصوير بجميع أشكاله، بما فيها النحت والرسم، إضافة إلى الفوتوغرافي، الذي أكدّوا أنّه ليس أكثر من حبس للضوء، ومن أبرز من ذهب لهذا القول: الشيخ علي جمعة، والشيخ خالد الجندي.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية