آني كوركدجيان.. مخلوقات سوريالية أنتجتها الحرب

آني كوركدجيان.. مخلوقات سوريالية أنتجتها الحرب


10/12/2017

يقول غراهام كوليير، في كتابه الفن والشّعور الإبداعي:"إنّ الإنسان قد يضع يده على الحقيقة دون أن يعيها".
لا يفقه الحرب إلا من يعيشها، إن كنت صلباً متماسكاً، إنساناً متوازناً، وبكامل هيئتك الإنسانية، الحرب تصنع منك ذلك الذئب الذي ينهش جسده قبل أن ينهش غيره، فما بالك بالطفل الذي يولد في خضم الحرب! لو فتحت عينيك على أفق أبعد ما فيه اختفاء وراء جدار، أو في ملجأ، أو في فجوة تصنعها في ذاتك بعزلة شديدة العماء، ذات تجلد نفسها، وتقف لتنظر إلى شخوصها المتعددة في المرآة، وتعتقد أنّ العالم وُلد بهذا العداء.


هكذا ولدت الفنانة الّلبنانية آني كوركدجيان، فمنذ عمر السنتين فتحتْ فجوات نفسها على هذا الهوس الجنوني المسكون بالحرب، وبالدم، ولدت لترى الناس وحوشاً تنهش لحم بعضها بعضاً، دونما رحمة، وهي من فصيلة واحدة. عندما غادرتْ لبنان اكتشفتْ أنّ الحياة تجد معبراً لوردة دون هذه القرابين البشرية، وبهذا المرض.

لكلّ لوحة من لوحات كوركدجيان انطباعاً خاصاً بطرح جديد لموضوع اللوحة

عالجتْ نفسها برسم شخوص سكنتْ ذاكرتها، أجساد مسكونة بالرهاب، وبالمرض، وبالخوف، والفصام، لن تفهم معنى الفصام إلا إذا سكنك هاجسُ الموت والحياة على شفا لحظة. وعي هذه الطفلة الداخلي تشرّب بأسئلة فرغتها عندما امتلكت أدوات اللون والخط، فرغتها على شكل أجساد تطرح سؤالاً مصيرياً، مَن المسؤول عن كل هذا التشوه؟ فهي تجرّد كل مكنونات النفس المختبئة وراء الكواليس، وتعرضها بلوحاتها على أنّها تشوّهٌ يطال كلّ البشرية المسؤولة عن هذه الحرب.


يبدو أنّ كوركدجيان، ترسم من روح المدرسة السّوريالية، لكنّه مزيج يجمع بين عدة مدارس، اندماجٌ بين تكنيكاتِ وتصوراتِ المدارس للخُلوص إلى ما بعد الحداثية، روح واحدة توحد اللوحات، لكن الندوب تنهش جسد كل لوحة على حدة بتفصيل دفين في جحيم الإنسانية، فنجد رغم الطابع الموحّد بتضخيم الأجساد التي تبدو وكأنما هي غارقةٌ في انطوائيةٍ شديدة، وبخوف. أو تضخيم ملمح واحد تحاول الفنانة التركيز عليه لتشخيص الحالة المرضية التي تقع بها الشخصية، ورغم الألوان البسيطة المستخدمة في إبراز هذه الشخوص، إلّا أنّ لكلّ لوحة من لوحات كوركدجيان انطباعاً خاصاً بطرح جديد لموضوع اللوحة. ترجمة واعية للون والخطوط والأجساد، يترافقها ترجمة لا واعية بتشخيص هذايانات وانفعالات بشرية مسكونة بغرائزية بهيمية مرعبة تمسّ هذا الجوع البشري للقتل والتدمير، والسيطرة على الآخر حتى درجة الإقصاء.


كما توضع حواجز جانبية على عيني الدابة وهي تدور حول مركز دائري كي تظن نفسها تمشي في كل الاتجاهات في دائرة يتيمة، نجد لوحة لكوركدجيان لشخصية قد تعددت شخوصها تسير في دائرة وراء بعضها بعضاً، حانية رأسها للأسفل في سعي وراء اللاجدوى، شخوص فصامية لكن كل طرقها حول مركز العدمية على أرض مربعة بلون ترابي من درجة الجسد المتعدد، تسقط معظم أخيلتها على الأرض بينما الأخيلة الباقية تكمل مسيرها في فجوة لا معنى لها وسط هذا الدوران.

ترسم من روح المدرسة السّوريالية، لكنّه مزيج يجمع بين عدة مدارس

الثيمة العامة في لوحات كوركدجيان، هي الاشتغال على مفردة القباحة كما هو المفهوم السائد بتعبيرية واضحة، كي تعرّيها وتظهرها أمام المجتمع الرافض لها بكل شكل من أشكالها ويمارسها في الخفاء، بروح من خطوط "ماتيس" تسيطر على معظم لوحاتها نجد لوحة لامرأة تمسك حلمتيها وتشدّها للأعلى، ضمن دلالات وانفعالات شهوانية، كتلة تملأ فراغ اللوحة بألوان من درجة متقاربة. لا حلم لديها أبعد من حالة قضم الوحدة نجدها في لوحة أخرى لشخصية تقضم كتفها بأسنانها، صراع بين حالة الألم وبين الشهوة.


ايغون شيلي، الذي رسم الماخور، يبدو واضحاً وجليّاً في التجسيم لشخوص الفنانة اللبنانية السورية الأصل، بتونات لونية ترابية تتجلّى في معظم لوحاتها، صانعة نسيجاً ترابياً يوضح حقيقة الإنسان "من التراب إلى التراب" حقيقة تتجلى بعري واضح في زمن الالتباس؛ حيث لديها لوحة لشخصية تمسك عضوها الذكري بحالة المعتاد، غارقة في الوحدة، شخوص آني لا تبدو وكأنها تقدم حالة بورنوغرافية، وإنما حالة إنسانية غارقة في الوحدة والعزلة والخذلان.

تتجلى الحالة اللونية، بالتونات الترابية بحالة جنائزية بشكل مكثّف في لوحة نساء يئدن أجنّة ويرمين بهنّ في فجوة كبيرة أمام رجُلٍ بيده ما يشبه السلك، حالة من الإجهاض وانعدام الوجود والرغبة لنساء تتوارث الحياة أجسادهنّ بحماية من الرجُل.
لوحات آني كوركدجيان حالة إنسانية لا تبدو كأمراض في النهاية؛ بل هي نحن عراة من أقنعتنا التي تواري الورم المتفشي في البشرية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية