أحمد داود أوغلو يكشف فشل الإسلام السياسي من جديد

أحمد داود أوغلو يكشف فشل الإسلام السياسي من جديد


17/09/2019

إبراهيم الجبين

لم تعد مراقبة تداعي مشاريع الإسلام السياسي في أنحاء العالم أمراً جديداً، بقدر ما تعطي تأكيدات متكررة على أن مشروع الحكم في العصر الحديث لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يرتبط مع أفكار الماضي. فلا يستقيم أن تجدّد آلة السياسة وتبقي آلة الفكر على حالها.

وفي البنية العميقة للأحزاب الإسلامية السياسية يكمن عامل غير قابل لغض النظر أو الإهمال، يشتغل من داخل المؤسسة على تقويضها وهدمها كلما بدت متماسكة وقوية من الخارج، إنه “التفكير المركزي” المشتق من مكانة “الإمام” بحكم أن الهندسة التنظيمية للحزب السياسي الديني تبقى مطابقة لهندسة الجامع.

وفي ظل وجود الإمام الفرد تنتفي الفكرة الديمقراطية من جذورها. ويبدأ تحلل واضمحلال المشروع السياسي كما يحدث اليوم مع حزب العدالة والتنمية التركي الذي كان أحد أعمدته الأساسية رئيس الوزراء السابق المفكر أحمد داود أوغلو.

أعلن داود أوغلو استقالته من حزب العدالة والتنمية، قبل أيام، كاشفا عن أنه سوف يشكل قريبا حزبا سياسيا منافسا، وذلك في مؤتمر صحافي عقده في أنقرة، ليقطع الطريق على قرار تأديبي يعده أنصار صديقه أردوغان بحق داود أوغلو تمهيداً لفصله من الحزب.

غياب الفكر غياب المستقبل
يقول داود أوغلو “إنها مسؤوليتنا التاريخية وواجبنا تجاه الأمة، إنشاء حزب سياسي جديد”. أما اللجنة التنفيذية في حزب العدالة والتنمية فقررت بداية سبتمبر الحالي، إحالة داود أوغلو إلى لجنة تأديبية بسبب انتقاداته المتكررة للحزب وتصريحاته التي أكد فيها أنه انحرف عن مبادئه التي تم التوافق عليها لحظة التأسيس.

جرح كبير يتعرض له الفكر السياسي الذي أعلنه حزب العدالة والتنمية حين يغيب عنه مفكره وعقله الأول داود أوغلو. وهذا يعني أن الحزب تحول من طور الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد إلى طور الحكم المتسلط الطارد للعقول.

وهي ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها حركات إسلامية سياسية في بلدان مختلفة، وفي أحقاب مختلفة، لمثل هذا الخروج الحاد لقيادات الصف الأول من صفوفها.

لكن ماذا عن مستقبل تلك الحركات وعلى رأسها اليوم وبين أيدينا حزب العدالة والتنمية الذي كان يزعم أنه التجربة الوحيدة الناجحة في العالم لوصول الإسلاميين إلى الحكم؟

إن موقف القوى الديمقراطية المدنية من الأحزاب الدينية، ليس موقفا مبنيا على الإلغاء وحرمان الآخرين من حقهم في العمل السياسي، لكنه موقف عليم يستند إلى استحالة الدمج ما بين الدين والسياسة والمعرفة المسبقة بأن هذه الطريق طريق مسدودة.

بقي داخل حزب العدالة والتنمية تياران هامان كما يقول المتابعون؛ تيار يقوده داود أوغلو رئيس الحزب السابق، معتمدا على القواعد الشعبية في مختلف الخارطة التركية.

أما التيار الثاني فهو بقيادة علي باباجان، وهو واحد من أهم المؤسسين للحزب، وتولى سابقا حقيبتي الاقتصاد والخارجية، ومعه وزير الداخلية الأسبق بشير أطالاي، ووزير العدل الأسبق سعدالله أرغين، والقيادي الأسبق حسين تشييلك، وبالطبع يختفي خلفهم الرئيس السابق عبدالله غول. ولم يعد أحد يدري من بقي مع الكرسي الحاكم الذي يجلس عليه أردوغان، من غير رجالات السمع والطاعة.

صحيح أن بعض هؤلاء يقللون من أهمية استقالة داود أوغلو، ومنهم الكاتب والمحلل السياسي يوسف كاتب أوغلو الذي يقول لوكالة أنباء تركيا، إن “الحزب ما يزال قويا متماسكا، وشعبية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هي الرقم الأول على مدى 40 عاما في تركيا”.  إلا أن هذا لا يبدو كلاما مستندا إلى الواقع بقدر ما هو نوع من الرغبة في امتصاص الصدمة.

يتابع كاتب أوغلو إن داود أوغلو “أصبح غير أحمد الذي كنا نكنّ له كل الود والاحترام ونفتخر بدعمه وإنجازاته أثناء وجوده مع الطيب أردوغان طيلة الـ17 عاما في الحياة السياسية للحزب”.

ولكن أوغلو لم يكن يفعل شيئا بعد إقصائه عن الميدان السياسي، وما تغير في الواقع هو خط الفاعلين في ذلك الميدان وعلى رأسهم أردوغان ذاته.

العثمانية ومسار الانحراف

داود أوغلو دأب خلال السنوات الماضية على توجيه انتقادات عميقة وحادة لأردوغان، لاسيما في حقل حرية التعبير المتردية في تركيا، وكذلك في تباطؤ عجلة الاقتصاد، وكان من الذين رفضوا مبكرا إعادة انتخابات بلدية إسطنبول، وسجن رؤساء البلديات الأكراد بتهم الإرهاب.

داود أوغلو صاحب كتاب “العمق الاستراتيجي” الذي كان يعد دستورا فكريا للعدالة والتنمية، ولد في قونية أواخر الخمسينات، ودرس في إسطنبول العلوم الاقتصادية والإدارية والعلاقات الدولية. ويتقن عددا من اللغات منها الإنكليزية والألمانية.

فلسفته كانت تقوم على قراءة المؤثرات الخارجية والتفاعل معها داخليا. وهو صاحب نظرية “صفر مشاكل مع الجيران”. ولطالما قال أوغلو إن “السلام مهم لتركيا لأنه يسمح لها بإظهار نجاحاتها الاقتصادية وتوسيعها”، مركزا على موقع ومكانة تركيا كدولة محورية، وعلى أن هذا الأمر يرتبط بشكل أساسي بإقرار رؤية ديناميكية مؤثرة في السياسة الخارجية.

عمل داود أوغلو حين كان في الحكم على حشد التأييد لمبادرته الخاصة بالتوصل إلى حل سلمي مع الأكراد الذين تفجرت قضيتهم على شكل حرب مستعرة منذ العام 1984. لكن أوغلو طرح السلام بديلا عن الحرب. ثم ما لبث وعاد إلى حديث القوة حين وصف المئات من المعتقلين الأكراد بالإرهابيين في العام 2015. وفي ذات الوقت هاجم معتصمي ساحة تقسيم، في عداء واضح للحق بالتظاهر وفقا للحياة الديمقراطية، ورفض إدانة مجازر الأرمن. إذن ما هو العقل السياسي الذي يصدر عنه داود أوغلو؟ هل هو عقل متغير يتأثر المتحولات على الأرض والمصلحة والكسب لحزبه، أم هو عقل استراتيجي يفارق سابقه؟

وحين ينتقد داود أوغلو حزبه اليوم، فهو لا ينظر إلى الوراء، ولا يرى كيف أنه ساهم في تكريس الفردية في الحكم عبر مواقفه المتناقضة التي كان يعزز فيها السلطة على حساب الديمقراطية، مشاركا في ذلك “الانحراف عن المسار”، الذي يجعله سببا لتقديم استقالته اليوم.

لا يتصور أحد أن العدالة والتنمية في تركيا تتعلق بالمجد العثماني إكراما لدور العثمانيين أنفسهم، وإدراكا للمنجز الذي قدمته الدولة العثمانية بغض النظر عن سلبياتها، بل إن الأمر لا يعدو كونه تعلق بزرع فكرة الخلافة والإمامة التي يحتاجها الإسلاميون في قلب أي تنظيم يؤسسون له.

العثمانية التي ينادي بها داود أوغلو تنطلق من المنطلق الإسلامي السياسي ذاته، مضافا إليها البعد الخارجي الذي يجعلها تتناقض كليا مع قصة “صفر مشاكل”، مذكرة بالهيمنة وامتداد النفوذ.

“إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية. إنهم يقولون هم العثمانيون الجدد، نعم نحن العثمانيون الجدد، ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا. نحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال أفريقيا. والدول العظمى تتابعنا بدهشة وتعجب”. بكم تختلف هذه الكلمات عن رسائل حسن البنا حول الأستاذية، وتقديم النموذج العالمي الذي كان يريد للإخوان تمثيله حين يصلون إلى الحكم؟

كتب داود أوغلو، ذات يوم، إن “جغرافية تركيا تعطيها حالة دولة مركزية فريدة تختلف عن الدول المركزية الأخرى، فعلى سبيل المثال تعتبر ألمانيا دولة مركزية في أوروبا ولكنها بعيدة جغرافيا عن أفريقيا وآسيا، وروسيا أيضا دولة مركزية في أوروبا وآسيا لكنها بعيدة جغرافيا عن أفريقيا، وإيران دولة مركزية في آسيا لكنها بعيدة جغرافيا عن أوروبا وأفريقيا، وبنظرة أوسع فإن تركيا تحتفظ بالموقع الأفضل في ما يتعلق بكونها دولة أوروبية وآسيوية في نفس الوقت، كما أنها قريبة من أفريقيا أيضا عبر شرق البحر المتوسط، ومن ثم فإن دولة مركزية تحتفظ بموقع متميز كهذا لا يمكن لها أن تعرّف نفسها من خلال سلوك دفاعي، ويجب عدم النظر إليها كدولة جسر تربط نقطتين فقط، ولا دولة طرفية، أو كدولة عادية تقع على حافة العالم الإسلامي أو الغرب”.

كان داود أوغلو يتحسّر على ما فقدته تركيا من نفوذ، ويبشّر باستعادته قريبا فيما لو سارت تركيا على نهج العدالة والتنمية، ويقول إن “ما فقدناه بين أعوام 1911 و1923 من الأراضي التي انسحبنا منها سيسترد، وسنلتقي مرة أخرى مع إخواننا في تلك الأراضي بين أعوام 2011 و2023”.

وهكذا تفشل عملية تسويق العثمانية في الداخل التركي بحكم كونها تصطدم مع المصالح المحلية للسكان، ولا تلبي سوى غايات الحزب الحاكم الأيديولوجية، ولعل هذا كان سببا كبيرا في تراجع شعبية العدالة والتنمية، وهو ما عكسته الانتخابات الأخيرة بشكل جلي.

دفاتر الإرهاب

ورّط داود أوغلو حزبه في نظرياته، وهو إذ ينقلب على الحزب اليوم، فهو لم يعلن مرة واحدة انقلابه على تلك النظريات، ومن بينها ما ينعكس على العلاقة مع إيران على سبيل المثال. فدولة مثل تركيا ترفع شعار قائدة العالم السني، تجدها في حالة تحالف وثيق لا تشوبه شائبة مع أكثر دول المنطقة عداءا لدولها؛ إيران الحرس الثوري والميليشيات وحزب الله والحوثي وغير ذلك.

يرى داود أوغلو أن علاقة تركيا وإيران علاقة تبادل للمصالح، مهما تناقضت الأفكار، وهذا يُظهر للمراقبين مفهوما مختلفا للانتهازية السياسية التي يمر منها المشروع الإسلامي السياسي للطرفين في طهران وأنقرة معا. الأمر ذاته الذي رأيناه في تحالف حماس، الإخوانية، المفاجئ مع إيران والنظام السوري، وسط حرب الجهتين على الملايين ممن ترفع حماس شعار الدفاع عنهم.

وضع داود أوغلو نظرياته تلك في عدة مؤلفات من بينها “العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية” الذي يعد الأهم مع كتابه الشهير “العمق الاستراتيجي والأزمة العالمية”.

لكن التناقضات التي خلقتها تلك المزاوجة المستحيلة بين الدين والسياسة، فتحت الباب أمام خلافات جذرية لعل أبرز محطاتها تصريح داود أوغلو الأخير بعد اتهام أردوغان له بالخيانة، حين قال “إن الكثير من دفاتر الإرهاب إذا فتحت لن يستطيع أصحابها النظر في وجوه الناس. إنني أقول لكم الحقيقة”. مؤكدا أن العام 2015، كان يمثل أخطر وأصعب الفترات السياسية في تاريخ تركيا.

ما الذي كان يقصده داود أوغلو في الإشارة إلى “دفاتر الإرهاب”، وهل هي فعلا كما فهمها كثيرون تقتصر فقط على إرهاب حزب العمال الكردستاني أم تشمل علاقة تركيا مع القاعدة وداعش؟

مغادرة داود أوغلو سفينة أردوغان بهذه الصورة تشير إلى أن السفينة باتت مليئة بالثقوب، وأن المسار لم ينحرف وحسب، بل ضاعت البوصلة وانكشف التخبط وأننا على مشارف انهيار جديد لحكم الإسلام السياسي.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية