أحمد لطفي السيد: لا نهضة دون اختلاف

أحمد لطفي السيد: لا نهضة دون اختلاف

أحمد لطفي السيد: لا نهضة دون اختلاف


29/04/2019

تشكّل تاريخ مصر الحديث في السياسة والثقافة والفكر، حول عدة شخصيات مؤثرة لعبت أدواراً مختلفة في تكوين هوية هذا البلد منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولعلّ من أبرزها وأكثرها جدلاً أحمد لطفي السيد؛ ذلك الرجل الموصوف بالبراغماتي حيناً، وبالليبرالي حيناً آخر، وبالإصلاحي المضاد للثورة! وقد اجتمعت فيه صفات عديدة أخرى، وألقيت عليه آراء وتهم مختلفة، جعلت منه، واحداً من أكثر شخصيات مصر الحديثة أهمية بامتياز.

اقرأ أيضاً: لماذا هددت "جماعة الجهاد" في مصر سيد القمني وتوعدته بالقتل؟
ورغم أنّه لم ينجح في رأي كثيرين، في بناء مشروعه الفكري على أرض الواقع، غير أنه لا بدّ من إلقاء الضوء على سيرته ومسيرته في الحياة والمجتمع والفكر والسياسة، التي لا بدّ من أن تقود كذلك إلى صفحات مختلفة ومتنوعة، من تاريخ مصر، الذي لا يمكن أن يتنصل ممن صنعوه، أو أثّروا فيه.

الفتى القومي

ولد أحمد لطفي السيد في العام 1872، في محافظة الدقهلية، لأسرة غنية، وكان والده أحد أشراف قريته ومثقفيها، ودرس هناك في (الكتّاب)، لينتقل بعد ذلك إلى القاهرة فيكمل تعليمه الثانوي، ثم يدرس الحقوق، العام 1889، في مدرسة الحقوق بالقاهرة، وهو لم يكمل ثمانية عشر عاماً بعد.

التقى بمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وتأثر بكل منهما مما أثّر في نظرته للأفكار السياسية والوطنية

وخلال تلك الفترة المبكرة من حياته، التقى بكلٍ من محمد عبده وجمال الدين الأفغاني؛ حيث تأثر بكلٍ منهما، مما أثّر في نظرته للأفكار السياسية والوطنية التي كانت سائدة في مصر آنذاك، خصوصاً تلك التي كانت محل نقاشٍ في كلية الحقوق، مع "زملاء لعبوا أدواراً مهمة في تاريخ مصر فيما بعد، مثل: مصطفى كامل، وعبد الخالق ثروت، وإسماعيل صدقي"، بحسب ما يذكره الكاتب محمد زكريا توفيق، في مقالة له عن السيد، نشرت على موقع "الحوار المتمدن" في 2008.
وفي دراسة صادرة عن مجلة جامعة "القادسية العراقية"، العام 2015، يُذكر أنّ السيد لم يكن مهتماً كثيراً بدراسة الحقوق، بقدر ما اهتم بالفلسفة والمنطق وعلم الاجتماع، وأنّه "قرأ الكثير، وأخذ يفكر بصورة متقدمة عن زملائه في ذلك الحين؛ لأنّه كان مهتماً بتطبيق ما نتج عن قراءاته من أفكار، في المجال العملي السياسي والثقافي في مصر".

اهتم السيد بالفكر والإصلاح ولم يعادِ أحداً

وقد انعكس هذا على حياته بوضوح، حين سافر، صيف 1893، إلى إسطنبول، بصحبة صديقه إسماعيل صدقي، وذلك للمشاركة في الاحتفالات بتنصيب الخديوي عباس حلمي والياً على مصر (إنجلترا احتلت مصر العام 1882)؛ إذ انتقد هناك سياسات العثمانيين، ووصلت انتقاداته إلى سدة الباب العالي، "وكاد أن يتم نفيه، هو وإسماعيل صدقي، من قبل السلطان عبد الحميد، لولا وساطة أمين باشا، مستشار السلطان".

من خلال قوميته المصرية المتشددة واجه السيد الاحتلال البريطاني كما رفض حكم العثمانيين بصفتهم محتلين أيضاً

وبدت ملامح القومية المصرية، تتضح منذ تلك اللحظة في أفكاره، فعاد إلى مصر، وأسس مع مجموعة من رفاقه "الجمعية الوطنية السرية"، مؤمناً بأنّ العمل العلني كان صعباً في ذلك الحين. وسرعان ما أصبحت تلك الجمعية جزءاً من نشاط القائد الوطني مصطفى كامل، إضافة إلى قبول الخديوي عباس حلمي نفسه بنشاطاتها لاحقاً، بحسب المصدر ذاته. وهو ما أهّله حتى يقوم الخديوي بإرساله إلى سويسرا، حتى يكتسب جنسيتها خلال عام، ليعود بعدها ويواجه الاستعمار الإنجليزي محمياً بجنسية ثانية، اتقاءً للخطر.
العام 1907؛ شهد تغييراً في تفكير أحمد لطفي السيد، الذي سرعان ما ابتعد عن الجمعية الوطنية، منحازاً إلى مجموعة من المثقفين الوطنيين لتكوين حزب الأمة. للوقوف أمام التيار الذي يتزعمه الخديوي ومصطفى كامل بعد تقربهما إلى تركيا، وكان ينتمي إلى الحزب الجديد؛ مجموعة من كبار الملاّك وأصحاب القلم والفكر والسياسة، منهم: محمود سليمان، وحسن عبد الرازق، وقاسم أمين، وعبد الخالق ثروت، وسعد زغلول، وكان السيد هو سكرتير عام الحزب، ورئيس تحرير جريدته "الجريدة".

اقرأ أيضاً: جادو عزّ الدين.. رحيل شاهد على ذاكرة النضال والوحدة
تخلّي السيد عن الجمعية الوطنية، جاء بسبب دوافعه القومية، فقد أراد، وفق مقال زكريا توفيق آنف الذكر، التأكيد على أنّ "مصر أمة مستقلة لها تاريخها وحضارتها وشعبها". وكان يرى الخلاص من الاستعمار الإنجليزي الذي جاء، في رأيه، نتيجة "لاستعمار تركي أطول أمداً" هو بانسلاخ مصر عن الاستعمارين، والنهوض من خلال دوافع وطنية ذاتية وقومية.

رفض السيد رئاسة مصر التي عُرضت عليه مؤمناً بأن كلاً يناضل من موقعه

ووفق الأحداث السياسية في حياته؛ درج عديدون على اتهامه بأنه صاحب قومية (شوفينية)، فهو -وفق تقريرٍ نشر عنه في صحيفة "الغد"، بتاريخ 5 تموز (يوليو) 2011- رفض حتى "أيّة ردود فعل مصرية على مهاجمة إيطاليا لليبيا، العام 1911". منطلقاً في ذلك من خلافه مع الزعيم المصري، مصطفى كامل، الذي كان يناصر الخلافة العثمانية، فبرأي السيد، كانت مصر نفسها تعاني من الإنجليز واحتلالهم، والعثمانيون المنهارون سياسياً واقتصادياً، كانوا ينسحبون مخلفين وراءهم احتلالات تنخر جسد الوطن العربي، فالأجدر، في رأي السيد، كان "إنشاء وطن مصري قوي ومستقل"، قبل الخوض في الشؤون العربية.

اقرأ أيضاً: بيرم: حكاية تونسي تزعّم شعراء العامية في مصر

ومن هذا المنطلق؛ بدأت الاتهامات لأحمد لطفي السيد بالشوفينية القومية، لكن وعبر تاريخ مصر الحديث، طالته تهم أخرى، مثل "الليبرالية"، وذلك لمطالبته بإطلاق التعدديات والحريات السياسية والاجتماعية في مصر، خصوصاً في مجالي التعليم والثقافة، كما أنّه كان ضدّ تخوين أيّ مفكرٍ أو ناشطٍ مصري، مهما اختلف معه في الرأي.

مفكرٌ متهم
كانت حياة أحمد لطفي السيد، حافلة بالجدل والهجوم المتكرر كالذي لاحقه إثر قيامه بضم الفتيات لأول مرة إلى الجامعة المصرية (جامعة القاهرة لاحقاً) بعد أن أصبح رئيسها، وكان قد أسهم في تأسيسها، وذلك لإيمانه بحق النساء في التعليم، إضافة إلى رؤيته من خلال كتاباته الصحفية ومؤلفاته، حول طبيعة السياسة والسلطة والاجتماع في مصر؛ إذ كان يؤكد أنّ "السلطة يجب أن تقتصر على الدفاع عن أمن الوطن، وتأمين مناخ من التنوع والحريات، إضافة إلى إنشاء قضاء عادل، وألا تتدخل لأبعد من ذلك في شؤون المواطنين، إلا من خلال هذا العقد القائم بينها وبينهم، وإلا فإن استخدمت القوة أو القمع، فهي لا تمتلك الحق في حكم الناس".

أسهم في تأسيس جامعة القاهرة وكان أول من سمح للفتيات بالدراسة الجامعية

ويمكن القول إذاً: إنّ ليبرالية اجتماعية سياسية، هي التي ظهرت ملامحها في فكر السيد، إضافة إلى قوميته، لكنّه ظلّ متهماً بالانسلاخ عن الأمة، لأنّه اعتبر العثمانيين مجرد احتلال، لكنه لم يؤمن بقومية عربية جامعة.

كان أول من أدخل الفتيات إلى التعليم الجامعي في مصر بعد ترأسه جامعة القاهرة، وعمل على دعم الحريات والتعددية والقضاء

ورغم ذلك، كان السيد أول من ردّ على اللورد كرومر، الحاكم الإداري للسلطات الاستعمارية البريطانية في مصر، حتى العام 1906، فبعد خروجه من منصبه، هاجم كرومر المصريين والعرب، فردّ عليه السيد آنذاك، بمقال مطوّل، وصف فيه ذكاء العرب، وترجماتهم، وفهمهم للفلسفة والفكر والإنسانية. وكانت جريدة "الجريدة" في وقتها، منبراً للإصلاح والوطنية المصرية، تحت إشراف السيد، الذي كان كذلك، ووفق المصادر ذاتها، يتيح للشباب الكتابة في الجريدة، وتعلّم فنون الصحافة والتفكير، وخوض الشأن العام. فلُقّب بأستاذ الجيل، لاهتمامه بثقافة الشباب وفكرهم.
وإضافة إلى ذلك؛ تتصدر رواية عرض الضباط الأحرار عليه رئاسة مصر، بعد ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 قصص حياته؛ حيث رفض هذا العرض. بحجة "البقاء في العمل العام من موقعه الخاص، والبعد عن تولي السلطة التي لا يحتاجها من هو في مثل عمره وإنجازاته"، وفق مقال نشر في صحيفة "الشروق" العام 2017.

اقرأ أيضاً: محمد يونس "مُقرض الأمل" الحالم بهزيمة الفقر وتمكين الإنسان
وترأس أحمد لطفي السيد، منذ 1945، مجمع اللغة العربية في مصر، ومع حكومة إسماعيل صدقي، العام 1946، شارك بمنصب وزير الخارجية وعضو لجنة المفاوضات بين مصر وبريطانيا، غير أنّ تلك الحكومة فشلت، فخرج من الوزارة، ولم يشترك بعد ذلك في أعمال سياسية أخرى. واكتفى بمنصب رئيس مجمع اللغة العربية حتى وفاته، كما كان عضواً في كثير من المجامع العلمية، مثل: المجمع العلمي العراقي، والمجمع العلمي المصري، والجمعية الجغرافية المصرية.
وله مؤلفاتٌ عديدة، منها: "قصة حياتي"، و"تأملات في الأدب والفلسفة"، و"مبادئ في السياسة وعلم الاجتماع"، كما ترجم كتب أرسطو: "الأخلاق"، "الكون والفساد"، "الطبيعة السياسية".
وبعد تجاوزه التسعين من العمر بقليل، توفَّي أحمد لطفي السيد في وطنه مصر، العام 1963، وذلك قبل أن يشهد هزيمة 1967، وقبل وفاته بفترة، تلقى تهمة بأنه "ديمقراطي"؛ حيث كان الشعار المرحلي السائد في مصر آنذاك، ينادي "بسقوط الديمقراطية من أجل بقاء الحرية"، في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر!

اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن روكس العزيزي؟
تجاوز السيد كونه مثقفاً، ليكون مفكراً ومصلحاً اجتماعياً يعلي بالدرجة الأولى من شأن العقل، حتى أن الشاعر والكاتب كامل الشناوى اختار أن ينعاه بمقال عنونه بـ"عقلي يجهش بالبكاء"، وفي هذا السياق وصفه طارق الشناوي بمقال نشرته صحيفة "المصري اليوم" بتاريخ 20 نيسان (إبريل) 2019، بأنّه "حقاً كان أستاذاً للعقول، يحركها نحو الديمقراطية، فهو صاحب مقولة (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية) رغم أنّ كل الممارسات التي نعايشها في حياتنا، تؤكد أنّ كل اختلاف كان عمقه الحقيقي ووقوده الكامن في الصدور هو الرأي"!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية