أردوغان… والأحلام والأوهام

أردوغان… والأحلام والأوهام


06/01/2020

خيرالله خيرالله

ليس هناك أسوأ من إضاعة الفرص، خصوصاً عندما يكون المرء سياسياً استطاع بلوغ الموقع الأول في بلده. في النهاية، تبقى الأحلام أحلاماً والأوهام أوهاماً، بل تصبح الأوهام متورّمة. يحدث ذلك عندما لا يمتلك الزعيم السياسي القدرة على فهم حدود ما يستطيع عمله انطلاقا من الإمكانات الحقيقية لبلده، وليس من تصورات لا علاقة لها بالحقيقة والواقع.

هذه حال الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، ملك إضاعة الفرص، الذي كان في استطاعته لعب دور محوري طليعي على الصعيد الإقليمي، بدل الدخول في لعبة تدفع تركيا ثمنها غاليا.

بدتْ تركيا قبل ما يزيد على عشر سنوات مهيّأة لأن تلعب دورا إيجابيا في كلّ مجال من المجالات في المنطقة مع اقتراب تخلّصها، هذه السنة، من معاهدات واتفاقات فرضت عليها قيودا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمتها فيها. لكنّ أردوغان فضّل على ذلك أن تتحوّل تركيا مجددا إلى رجل المنطقة المريض. تماما كما حال إيران في ظلّ نظام الوليّ الفقيه الذي أسسه آية الله الخميني في العام 1979 والذي رفع شعار “تصدير الثورة”!.

لم تكن تركيا مضطرة، بعد مرور قرن على انهيار الدولة العثمانية، إلى الوصول إلى مرحلة تعود فيها إلى وضع الرجل المريض بعدما بدت في مرحلة معيّنة قادرة على أن تقدّم نموذجا يحتذى به. لكنّ أردوغان فضّل الدخول في لعبة المزايدات التي يتقنها الإخوان المسلمون، مثلما يتقنها نظام الملالي في إيران.

تحوّل أردوغان، قبل إصابته بداء العظمة، رمزا للصعود التركي في ظلّ نظام يعتمد على الوسطية بكلّ ما تعنيه الكلمة من اعتدال إسلامي تبدو المنطقة في أمسّ الحاجة إليه. لكنّ السنوات الأخيرة، جعلت منه رمزا لمشروع توسّعي آخر لا يقلّ خطورة عن المشروع الإيراني الذي ليس لديه ما يصدّره غير الخراب والبؤس… والغرائز المذهبية.

قاد هذا العقل المنحرف أردوغان إلى التدخل في ليبيا. يدعم هناك مجموعات ميليشيوية متطرّفة تصلح لكلّ شيء، باستثناء إعادة بناء دولة دمرها التناحر بين مجموعات مسلّحة. ما الذي يمكن أن يؤدي إليه إرسال سوريين للقتال في ليبيا إلى جانب ميليشيات متطرّفة موجودة حاليا في طرابلس؟ ما الذي يفيد إرسال قوات تركية إلى الأراضي الليبية؟ ما الفائدة من اتفاق مع حكومة فايز السرّاج في شأن الحدود البحرية تعترض عليه دول عدّة مطلة على البحر المتوسّط، من بينها مصر واليونان وقبرص؟

كان في استطاعة الرئيس التركي أن يجعل من بلاده قاسما مشتركا بين كلّ الدول المطلة على البحر المتوسّط، بما في ذلك الدول الأوروبية، بدل أن يصبح موضع حذر من الجميع. لكنّ المشكلة تكمن في أن الرجل يرفض الاستفادة من تجارب الماضي القريب، بما في ذلك تجارب الداخل التركي حيث انفضّ عنه كلّ الذين يمتلكون حدّا أدنى من المنطق من رفاقه في حزب العدالة والتنمية. على رأس هؤلاء عبدالله غول وأحمد داود أوغلو.

على سبيل المثال وليس الحصر. ما الذي جناه أردوغان في العام 2010 من خطبه الحماسية عن فكّ الحصار على غزّة غير الرضوخ لما تطالب به إسرائيل التي تنفّذ منذ ما يزيد على عشر سنوات حصارا محكما على القطاع. هبّ أردوغان لمساعدة حركة “حماس”، التي هي جزء لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين، والتي تواطأت مع إسرائيل من أجل بقاء الحصار. لم يستوعب الرجل أنّ “حماس” هي المستفيد الأوّل من الحصار الإسرائيلي، نظرا إلى أنّه يضع أهل غزّة المساكين تحت رحمتها من جهة، وتحت ما تسمح إسرائيل بإدخاله إليهم من جهة أخرى.

أرسل أردوغان وقتذاك سفنا عدّة لفكّ الحصار عن غزّة. تصدت لهم إسرائيل. قتلت أتراكا كانوا على إحدى تلك السفن. في نهاية المطاف بقي الحصار وسعى الرئيس التركي إلى إصلاح العلاقات مع الدولة العبرية.

لم يفوّت أردوغان فخّا إلّا وسقط فيه. كان في استطاعته لعب دور المنقذ في سوريا، فإذا به يحوّل تركيا إلى مشكلة سورية. لابدّ من الاعتراف بأن تركيا آوت آلاف السوريين الذين هجّرهم نظام يشنّ حربا على شعبه. لكن التردّد التركي الذي رافقه كلام كبير، لم يجد ترجمة له على أرض الواقع، جعل تركيا بمثابة بيدق تتلاعب به إيران وروسيا، بدل أن تكون لها سياسة واضحة بصفة كونها الدولة الأقرب إلى السوريين وإلى أهل حلب وإدلب بالتحديد. كانت النتيجة أن تركيا صارت جزءا من الأزمة السورية بكل تعقيداتها وامتداداتها، بما في ذلك الجانب الكردي منها، بعدما كانت في مرحلة معيّنة مدخلا إلى حلّ سياسي. حلّ يتوج بالانتهاء من نظام قمعي أقلّوي صار عمره نصف قرن يحتقر السوريين ويذلّهم يوميا.

بعدما فشل أردوغان في سوريا، من الطبيعي أن يفشل في كلّ مكان آخر، بما في ذلك في إسطنبول المدينة التي احتضنته والتي خسر فيها الانتخابات البلدية الأخيرة. من يفشل في إسطنبول لا يمكن أن يربح في ليبيا. كلّ ما فعله أردوغان أنّه فعل كلّ ما يمكنه أن يزيد الأزمة الليبية تعقيدا. الأكيد أن هناك أخطاء كبيرة ارتكبها قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر. لكنّ الأكيد أيضا أن تركيا التي تمارس سياسة مبنية على أحلام كبيرة من نوع استعادة مجد الدولة العثمانية تواجه مشكلة كبيرة من النوع الذي تواجهه إيران. تختزل هذه المشكلة بأن لا مكان لسياسة توسعية تقوم على اقتصاد ضعيف من جهة، وعلى ابتزاز أوروبا والولايات المتحدة من جهة أخرى. هناك ابتزاز لأوروبا عن طريق إغراقها باللاجئين السوريين وهناك ابتزاز لأميركا عن طريق شراء أسلحة روسية. حسنا اشترت تركيا منظومة “أس-400” لصواريخ مضادة للطائرات. ما نتيجة ذلك؟ هل صارت حليفا من الندّ للندّ لروسيا… أم صارت أداة صالحة للاستخدام روسيا وإيرانيا؟

كان في استطاعة رجب طيّب أردوغان دخول لعبة الاستفادة من حقول الغاز في البحر المتوسط ونقل تركيا إلى مكان آخر، إلى مصاف الدول التي تنتمي إلى القرن الواحد والعشرين. فضّل البقاء في أسر عقد الماضي من دون أن يسأل نفسه ولو مرّة واحدة لماذا تراجع الاقتصاد التركي وهربت الرساميل من البلد؟

مثل هذا السؤال الذي يفترض بأردوغان أن يطرحه على نفسه يحتاج إلى شجاعة. لا يمتلك السياسيون الذين حولوا نفسهم أسرى لفكر الإخوان المسلمين، الذين لديهم شبق لا حدود له إلى السلطة، مثل هذه الشجاعة. هؤلاء لا يفكرون سوى بأنفسهم بدل أن يفكروا في مستقبل بلدهم لا أكثر ولا أقلّ.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية