أزمة سد النهضة: ماذا يُخفي حديث إثيوبيا عن نقض الاتفاقيات الاستعمارية؟

أزمة سد النهضة: ماذا يُخفي حديث إثيوبيا عن نقض الاتفاقيات الاستعمارية؟


05/05/2021

رغم تعقد أزمة سدّ النهضة، بعد عقد من المفاوضات دون جدوى، إلا أنّ قراءة الأزمة من منظور تاريخي ماضوي، ومنظور تفاعلات دول حوض النيل حول المياه بعد الاستقلال، تجعل الأزمة يسيرة الحلّ، بل وكل قضايا المياه في دول حوض النيل، شريطة توافر إرادات سياسية لهذه الدول لتحويل النهر الدولي من مجال للصراع إلى التعاون والتنمية، فالأمر الواقعي الواضح أنّ إمكانيات المياه في دول الحوض تكفي إذا استُغلت جيداً لتلبية احتياجات كلّ الدول، حاضراً ومستقبلاً، وليس من المياه والطاقة فقط، بل كرافد تنموي يجمع دول الإقليم، ويحقّق استفادة حقيقية لكلّ شعوبه، لكن منذ متى تكون مشكلة أفريقيا في نقص الموارد؟

الاتفاقيات الاستعمارية

كثر الحديث الرسمي الإثيوبي عن رفض الاتفاقيات الاستعمارية بشأن المياه مع مصر والسودان، وصرّح وزير الخارجية، في 16 نيسان (أبريل) الماضي، بأنّ بلاده "لن تقبل باتفاقية تعود إلى الحقبة الاستعمارية".

ولم تكن مثل هذه التصريحات تثير جدلاً كبيراً في السودان على المستوى الرسمي من قبل، لكن نظراً لتداخل اتفاقيات المياه والحدود، خصوصاً بين إثيوبيا والسودان ومصر، باتت مثل هذه التصريحات دائمة الحضور على لسان مسؤولي إثيوبيا تنذر بعواقب خطيرة، ما دفع وزارة الخارجية السودانية، إلى القول، في بيان رسمي مطلع الشهر الجاري، "من الأعراف المستقرة في العلاقات الدولية التزام الدول والحكومات بالاتفاقات والمعاهدات الدولية التي وقعتها الانظمة والحكومات السابقة لها".

تسيطر على إثيوبيا عقلية توسعية لا تعترف بالاتفاقيات الدولية، كما حدث في الفشقة

وأكّدت الوزارة أنّ "التنصّل من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية بإطلاق التصريحات الصحفية وتعبئة الرأي العام المحلي ضدّها لأسباب سياسية محلية، إجراء يتّسم بعدم المسؤولية ومن شأنه أن يسمّم مناخ العلاقات الدولية، ويجعلها عرضة للإرادات المنفردة ويشيع فيها الفوضى ويقوّض أسس حسن الجوار".

وتابع البيان: "الادّعاء الإثيوبي مغالطة صريحة للوقائع التاريخية، فقد كانت إثيوبيا دولة مستقلة ذات سيادة وعضواً فى المجتمع الدولي وقت إبرام تلك الاتفاقيات، بينما كان السودان خاضعاً للاستعمار الثنائي.

ترغب مصر في زيادة حصتها من المياه، عبر مشاريع مشتركة مع دول الحوض، تعزز مكاسب الطرفين، بدلاً من ضياع المياه في التبخر والمستنقعات

وحذّرت الخارجية السودانية من تبعات مثل هذه التصريحات، بما فيها "المساس بالسيادة الاثيوبية على إقليم بني شنقول الذي انتقلت اليها السيادة عليه من السودان بموجب بعض هذه الاتفاقيات بالذات".

ويقول الباحث الأنثروبولوجي، والمختص في الشؤون الأفريقية، خليل منون؛ أنّ "المقصود بالاتفاقيات الاستعمارية هي التي وُقّعت بين القوى الاستعمارية الكبرى، خصوصاً بريطانيا وفرنسا، لتنظيم عملية الحكم غير المباشر داخل ممتلكاتهم في القارة الأفريقية، وهي اتفاقيات لم تراعِ السيولة العرقية والاقتصادية والسياسية للممالك والسلطنات ما قبل العهد الاستعماري، لكنّها صارت أمراً واقعاً، والرجوع عنها يجلب أضراراً تفوق بقاءها".

وفي الاجتماعات التأسيسية لإنشاء كيان أفريقي جامع، حمل اسم "منظمة الوحدة الأفريقية" منذ عام 1963 حتى عام 2002، حين حلّ اسم "الاتحاد الأفريقي" بديلاً، طُرحت مسألة الحدود بين الدول، ويحكي مؤسس ورئيس مركز البحوث العربية والأفريقية، حلمي شعراوي، عن تفاعل الاجتماعات التأسيسية مع هذه المسألة، من خلال حضوره مرافقاً في وفد مصر بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر.

وزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق المهدي

ويقول شعراوي، في حديثه لـ "حفريات"؛ إنّ الزعيم الغاني كوامي نكروما، وأول رئيس لها بعد الاستقلال (1960-1966)، أثار مسألة حقّ بلاده في ضمّ إقليم التوجو المجاور لمبررات تاريخية لديه، وأثار ممثلون آخرون مطالب حول الحدود وتثبيتها، فتحدث عبد الناصر، وأوضح أنّ الاجتماع يهدف لتأسيس الوحدة الأفريقية، ولا تجوز البداية بحديث عن مطالب متبادلة في الحدود، وطالب بالتأكيد على "الاعترافات المتبادلة بالاتفاقيات التي خلّفها الاستعمار، وما وصلت إليه القارة من أمر واقع إلى حين الوصول إلى الوحدة الشاملة"، ووافق الحضور على ذلك، وتمّ تضمين هذا في الميثاق التأسيسي للمنظمة.

ونصّ القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي لعام 1999، على ذلك، وجاء في المادة الرابعة بعنوان "المبادئ"، في الفقرة (ب)، ما يلي "احترام الحدود القائمة عند نيل الاستقلال".

المطالب الإثيوبية

وتقصد إثيوبيا بحديثها عن الاتفاقيات الاستعمارية الجزء الخاص بقضية الحقوق التاريخية لمصر والسودان في مياه النيل بشكل أساسي، وهي سلسلة اتفاقيات وقعتها بريطانيا نيابة عن مصر والسودان مع إثيوبيا بصفتها دولة مستقلة، ومع فرنسا وبلجيكا كدول احتلال، واتفاقيات وقعتها حكومة مصر مع بريطانيا كدولة احتلال لدول أخرى، وأخرى وقعتها دول احتلال نيابة عن دول لم تكن مصر بينهم، وتنقسم إلى؛ اتفاقيات الهضبة الإثيوبية، واتفاقيات الهضبة الإستوائية.

الأولى تخصّ إثيوبيا وإريتريا والسودان ومصر كدول الحوض الشرقي للنيل، وهو مصدر 85% من حصة مصر والسودان المائية، ومنها؛ بروتوكول روما لعام 1891، بين كلّ من بريطانيا وإيطاليا، التي كانت تحتل إريتريا، وتعهّدت إيطاليا في المادة الثالثة من الاتفاقية بعدم إقامة أية منشآت لأغراض الريّ على نهر عطبرة يمكن أن تؤثر على تصرفات النيل.

واتفاقية أديس أبابا لعام 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا، تعهّد فيها الإمبراطور منليك الثاني بعدم إقامة، أو السماح بإقامة، أيّة منشآت على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط من شأنها أن تعترض سريان مياه النيل إلا بموافقة الحكومة البريطانية والحكومة السودانية مقدماً، وهي اتفاقية ترسيم الحدود بين إثيوبيا والسودان في الأساس، وأيضا اتفاقيات؛ لندن 1906، وروما 1925.

مؤسس ورئيس مركز البحوث العربية والأفريقية، حلمي شعراوي

ومع دول الهضبة الاستوائية، وهي بقية دول حوض النيل، وتقدّم 15% من حصة مصر والسودان المائية، هناك اتفاقية لندن 1906 بين كلّ من بريطانيا والكونغو، بخصوص المياه الواردة للسودان، واتفاقية عام 1929 بين مصر وبريطانيا، والأخيرة تمثّل؛ السودان وأوغندا وتنزانيا، واتفاقية لندن الموقعة لعام 1934 بين كلّ من بريطانيا نيابة تنزانيا، وبلجيكا نيابة عن رواندا وبورندي، وتتعلق بنهر كاجيرا، ومصر ليست طرفاً فيها.

اقرأ أيضاً: مصر تبرم صفقة عسكرية مع فرنسا... ما علاقة سد النهضة؟

إضافة إلى اتفاقية 1953، الموقّعة بين مصر وبريطانيا نيابة عن أوغندا بخصوص إنشاء خزان أوين عند مخرج بحيرة فيكتوريا، وبين السودان ومصر اتفاقيتَا 1929، و1959 المكملة، التي نصت على؛ احتفاظ مصر بحقّها المكتسب من مياه النيل وقدره 48 مليار متر مكعب سنوياً، وكذلك حقّ السودان المقدر بأربعة مليار متر مكعب سنوياً، وتوزيع الفائدة المائية من السدّ العالي، والبالغة 22 مليار متر مكعب سنوياً، ويحصل السودان على 14.5 مليار متر مكعب، وتحصل مصر على 7.5 مليار متر مكعب ليصل إجمالي حصة كلّ دولة سنوياً إلى 55.5 مليار متر مكعب لمصر، و18.5 مليار متر مكعب للسودان.

اقرأ أيضاً: سد النهضة الإثيوبي: الأسئلة الأكثر تداولاً

وسعت إثيوبيا للالتفاف على الحقوق التاريخية لمصر والسودان عبر توقيع اتفاق عنتيبي، الذي وقّعت عليه دول الحوض، عدا مصر والسودان والكونغو، لكنّ إثيوبيا أهملت هذا المسار لاحقاً بعد أن وجدت أنّ مصالحها في فرض أمر واقع بسدّ النهضة، ومع عودة الدبلوماسية المصرية لفعاليتها الأفريقية لم يعد مرجحاً إحياء مسارات تتعلق بحوض النيل دون مشاركة فاعلة منها، إلى جانب وجود أطروحات جديدة برعاية مصرية حول التنمية وتعزيز موارد نهر النيل، جعلت الأطروحات الإثيوبية تتوارى.

خطورة السياسة الإثيوبية

يوضح حلمي شعراوي خطورة نقض الاتفاقيات التي تركها الاستعمار من جانب واحد بقوله: "إثيوبيا أول المتضررين، فبتوقيعها معاهدة مع بريطانيا عام 1897 ضمّت إقليم الأوجادين الصومالي".

وأضاف خليل منون، في حديثه لـ "حفريات": "إثارة إثيوبيا لمسألة الاتفاقيات الاستعمارية حول مياه النيل الأزرق، ودول الحوض يهدد بمخاطر كبيرة على القارة ككل، لوجود اتفاقيات من زمن الاستعمار تنظم أنهاراً أخرى، إلى جانب أنّ التخلي عن اتفاقية استعمارية حول المياه من جانب واحد سيدفع دولاً أخرى للتخلي عن مثيلاتها بشأن الحدود، وهذا كفيل بتفجير القارة".

قائدا أركان جيشي مصر والسودان يحضران اختتام فعاليات التدريب المشترك نسور النيل-2

إلى جانب ذلك؛ إثيوبيا لم تكن محتلة عند توقيع اتفاقية عام 1902، التي حصلت بموجبها على ترسيم حدود، وضمّت أراضي سودانية، مثل بني شنقول، مقابل عدة بنود لضبط العلاقة بين الطرفين، كان من بينها مسألة عدم إقامة منشآت على النيل الأزرق وروافده، وهو ما أشار إليه وزير الريّ المصريّ؛ بأنّ أرض السدّ هي ملك للسودان ومصر، في عهد الحكم الخديوي.

وتعلم إثيوبيا أنّ أحداً لن يقبل بزعمها، لكنّها، بحسب الباحث منون، تستثمر خطاب "الاتفاقيات الاستعمارية" لمخاطبة النخب التي تتبنى الروح الأفريقية "Pan Africanism" المعاصرة، التي تستند إلى مفاهيم تشكك في أصالة الشعوب في شمال أفريقيا وانتمائهم الأفريقي، وتحصر الهوية الأفريقية في مصطلحات مثل "الزنوج" و"الشعوب الأصيلة"، ولذلك تخاطبهم إثيوبيا ليمثّلوا قوة ضغط على حكوماتهم لتبني الموقف الإثيوبي.

الباحث خليل منون لـ "حفريات": إثيوبيا توظف التناقض المعاصر بين مفهوم العروبة و الأفريقانية داخل السودان الذي يشهد حراكاً مماثلاً، لاستقطاب الآذان ضدّ مصر

وأردف منون؛ بأنّ نشأة المفهوم كان في الشتات الأفريقي في الغرب، رداً على العنصرية ضدّ أصحاب البشرة السوداء، ثم توسّع المفهوم مع دول ما بعد الاستقلال ليشمل الجميع، وكانت هناك أطروحات تناقش مسألة الشعوب الناطقة بالعربية والأفريقانية، لكن مع الوقت انغلقت مجموعة البان على مفاهيم الجذور والأصول الشعوب الأصلية، الذي يتلاقى بشكل أو بآخر مع مفهوم الصهيونية، حتى أنّه ظهر مصطلح "الصهيونية الأفريقية"، ومن هنا نفسر وجود قرابات مع إسرائيل.

ويرى منون أنّ إثيوبيا توظف التناقض المعاصر بين مفهوم العروبة و الأفريقانية داخل السودان الذي يشهد حراكاً مماثلاً، لاستقطاب الآذان السودانية ضدّ مصر، في أزمة سدّ النهضة.

ومن مفارقات السياسة الإثيوبية، بحسب منون، أنّها ترفض بشكل قاطع خروج ملف أزمة السد خارج البيت الأفريقي، بينما لا تمانع خروج ملف الحدود مع السودان.

الباحث في الأنثروبولوجيا، والشؤون الأفريقية، خليل منون

ويزيد من تعقيد مسألة المياه التوجه الدولي نحو الاستثمار في المياه، وتحويلها إلى سلعة لإنتاج الطاقة وربما بيع المياه، وكتب حلمي شعراوي حول ذلك، مشيراً إلى انعقاد مؤتمر المياه الدولي في لاهاي عام 2000، والذي تناول قضايا تسعير المياه، ودخول الشركات الدولية بمساعدة البنك الدولي وغيره في سوق استغلال المياه في القارة الأفريقية، وهو الأمر الحاضر في سدّ النهضة من خلال شركاء دوليين، سواء بشكل مباشر أو في مشروعات مرتبطة بالسد، وكذلك في مشروعات نهر الكونغو العملاقة.

وبشكل عام، تتطلب الاتفاقيات الاستعمارية الخروج من دائرة الجدل حول صحتها، والانتقال إلى مفهوم تعزيز المكاسب، ففي قضية المياه، تهطل على إثيوبيا أمطار تقدَّر بحوالي 900 مليار متر مكعب، بينما حصة مصر 55 مليار متر مكعب فقط، وتستهلك الماشية الإثيوبية، التي تقدّر بـ 100 مليون رأس حوالي 84 مليار متر مكعب من المياه، بما يساوي حصة مصر والسودان.

اقرأ أيضاً: مصر تكشف أكاذيب إثيوبيا في أزمة سد النهضة... وهذا ما قالته

ومن النيل الأزرق؛ لدى إثيوبيا 150 مليار متر مكعب في الخزانات والسدود على فروعه وبحيرة تانا، بخلاف 74 مليار متر مكعب وراء سدّ النهضة حال اكتمال التخزين.

ومقابل الطرح الإثيوبي هناك طرح مصري عاد بقوة في الأعوام الأخيرة؛ بدأ بتوقيع اتفاق المبادئ، عام 2015، والاعتراف بحقّ إثيوبيا في بناء سدّ النهضة، وفق شروط منها الاتفاق على عدم الإضرار واستكمال الدراسات حول أمان السد والاتفاق الملزم على الملء والتشغيل، وتريد مصر حلّ أزمة السد بالتفاوض كي لا يكون عقبة أمام رؤيتها الشاملة للتنمية التشاركية لموارد المياه في دول الحوض، والتنمية الاقتصادية والتكامل بشكل عام.

الإمبراطور هيلا سيلاسي والرئيس عبد الناصر

وترغب مصر في زيادة حصتها من المياه، عبر مشاريع مشتركة مع دول الحوض، تعزز مكاسب الطرفين، بدلاً من ضياع المياه في التبخر والمستنقعات، فهي تضطر إلى تدوير 98% من مياه الصرف الصحي والزراعي للزراعة مرة ثانية، واستيراد مواد زراعية تساوي 34 مليار متر مكعب من المياه، بينما حاجتها الحقيقية تبلغ 114 مليار متر مكعب لديها 55.5 مليار فقط.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية