أمين معلوف يأخذنا إلى نهاية حضارتنا في "إخوتنا غير المتوقعين"

أمين معلوف يأخذنا إلى نهاية حضارتنا في "إخوتنا غير المتوقعين"


25/11/2020

سوسن الأبطح

خلال نحو شهر، كتب الرسام الصحافي «ألكسندر»؛ الشخصية الرئيسية في رواية أمين معلوف الجديدة «إخوتنا غير المتوقعين»، يومياته، كأنه الشاهد الأخير على زمن قد لا تبقى منه كائنات تخبر عنه. الكتاب برمته تسجيل لوقائع عاشها الرجل. ومع أن الفترة الزمنية التي يتحدث عنها قصيرة، لكن البشرية شهدت خلالها انقلاباً جذرياً، لا عودة ممكنة لما قبله.

الرواية صادرة بالفرنسية عن «دار غراسيه في باريس» باللغة الفرنسية، ولم تبصر النور بالعربية بعد، لكن دار نشر «أنطوان» في بيروت قررت أن تصدرها في طبعة بيروتية، بسعر مخفض للبنانيين كي تتاح لهم قراءتها بالفرنسية، بسعر مقبول، وهو ما يجعلها متاحة اليوم كما أي كتاب لبناني.

رحلة إلى الجحيم

صحيح أن أمين معلوف اختار نزعة إنسانية جنحت دائماً في كتبه الأخيرة إلى التحذير من مغبة التغيرات الكونية التي تبدو مبهجة، وتخبئ خلف مباهجها شراً كثيراً، إلا إنه هذه المرة يقدم لنا حكاية الذهاب إلى الجحيم، ويجعلنا نعيش سقوط رمز النظام العالمي، بموافقة ورضوخ رئيس الولايات المتحدة الأميركية؛ المتخيل بطبيعة الحال؛ هاوارد ميلتون، الذي يجد نفسه، رغم انقسامات كبيرة في الرأي، ومعارضين شرسين له، مضطراً للاستسلام. لكن لمن؟ وفي مواجهة من؟ إنهم ليسوا الصينيين، أو الروس، أو الهنود، أو الإيرانيين هذه المرة، بل قوة غامضة وذات بطش.

هذا هو المفصل الذي يسحب الرواية من واقعيتها، ويدخلها في متخيل الأعداء الآتين من عالم آخر؛ لهم خصوصيتهم ومنطقهم، وغرائبياتهم التي تشكل أحد عناصر قوتهم الضبابية.

«ألكسندر»، الذي بلغ منتصف العمر، كان قد قرر الانسحاب من صخب الحياة اليومية ولجأ إلى جزيرة أنطاكيا المهجورة التي اشترى والده الغالبية الساحقة من أراضيها، رغبة في الانعزال فيها، ولم يتمكن من تحقيق غايته. ويقرر «ألكسندر» أن يلبي هذه الرغبة، يساعده على ذلك أنه يمارس عمله في الرسم والنشر، حيث بفضل الإنترنت، ووصول الأخبار طازجة إلى كل بقعة، لم يعد للمكان من أهمية. لكن ما كان يخشاه ويتوقعه يبدو أنه قد حدث. فقد انقطعت الكهرباء، وإرسال تليفونه الجوال، ولم يعد من إنترنت أو أي خبر يأتيه من الخارج عبر الراديو. وفي هذه اللحظة التي يعتقد فيها أن كارثة كبيرة حمقاء قد وقعت، باشتعال حرب أو صدام نووي كبير، لا بد واصل إليه حيث هو، يلجأ إلى «إيف سان جيل»؛ وهي الساكنة الوحيدة معه على هذه الجزيرة التي تملك تلك البقعة الصغيرة التي لم يتمكن والده من شرائها. وإذا كان هو قد انسحب إلى الجزيرة ليحتضن العالم، فإن «إيف» (أي حواء) - ولاسمها دلالته في عزلة، تجمع رجلاً وامرأة وحدهما - قد لجأت إلى هنا هرباً من اللاجدوى... روائية لم يصدر لها غير كتاب واحد، وتشعر بحنق من كل ما يدور حولها. هي ترى أن «العالم، في السنوات الأخيرة، أصبح مجرد ساحة معركة للجشع والكراهية، حيث صار كل شيء مغشوشاً من فن، وفكر، وكتابة، ومستقبل». لذا يحتاج الكوكب إلى أن «يبدأ من الصفر». وتتمنى لو تعيش لترى «الانحلال النهائي لحضارتنا».

غلاف الرواية

المخلوقات الغامضة

يطول انقطاع الخدمات عن الجزيرة الأطلسية، ويصبح ساكنا أنطاكيا في عزلة تامة. يتحين «ألكسندر» عودة النبض المتقطع إلى تليفونه الجوال ليتواصل مع «مورو» صديقه القديم الذي يعمل مستشاراً للرئيس الأمريكي، ويعلم منه أن حرباً كونية مدمرة كانت فعلاً على وشك أن تقع لولا أن جهة لا تزال مجهولة، منعت وصول الأوامر ببدء الاعتداء الكارثي إلى كلتي الجهتين المتصارعتين.

الجهة الغامضة ذات مواصفات غريبة. أعضاؤها الذين يظهرون بأعداد قليلة، لا يريدون سوى ردع الجنون، ونزع الأسلحة النووية والصواريخ المدمرة، وإعادة البشرية إلى شيء من الصواب. المفاوضات مع الرئيس ميلتون تبدو صعبة. لكن «أصدقاء أمبيدوكليس»؛ وهذا هو اسمهم، ليسوا بحاجة إلى أسلحة فتاكة لإخضاع البشرية لطلباتهم، فكلما ازداد رفض مطالبهم، عادوا وقطعوا الخدمات الرئيسية عن سكان الأرض، ووضعوا الجميع في مواجهة عجزهم. تلك هي أسلحتهم. القليلون من بينهم الذين يبدأ الناس باكتشافهم، إما آتون من مكان غير محدد، وإما كانوا يعيشون بين الناس بوجه آخر متوارٍ. هم مسالمون، نبلاء، حكماء. نكتشف تدريجياً أنهم من سلالة الحضارة الإغريقية، وتلك الفترة المتوهجة القصيرة التي استمرت نحو سبعة عقود، عرف خلالها هؤلاء علوماً وطوروا معارف، وحققوا إنجازات فلسفية مذهلة، وسرعان ما بدأت حضارتهم في الانحدار. إنهم أولاد النور الذين اختبأوا في الظلمة؛ وها هم يعودون.

الذهول أمام المعرفة

وإذا كان الجزء الأول من الرواية يبدو بطيئاً، إلا إن الأحداث تتسارع في النصف الثاني، مع وصول مراكب الإخوة غير المتوقعين الاستشفائية، حاملة المعالجين، حيث يتبين أن لهم معارف طبية؛ يشعر الناس أمامها بأنهم كانوا يعيشون في عصر الجهل والظلمات... حتى «ميلتون» نفسه الذي كان على مشارف الموت، تعاد له الحياة، وسط دهشة عائلته ومواطنيه.

وتحت ضغط الشارع المذهول بمعارف «أصدقاء أمبيدوكليس» وقدراتهم العلمية التي تثير الدهشة، وشفائه الشخصي، يضطر «ميلتون» للتنازل، ويلجأ معارضوه لاستخدام العنف. لكن هذا لن يغير من قرار الرئيس شيئاً الذي ينتصر في النهاية؛ لمن نجّوه من الموت.

فرقة من الحكماء؛ «أقل وحشية منا، وأكثر موثوقية، وأكثر احتراماً لمصير الضعفاء. لكنهم أقوياء إلى درجة مثيرة للخوف». هكذا لا تكفي الحكمة وحدها لتجعل سكان الأرض يأمنون زوارهم الغرباء. فالقوة حتى لو وُظفت في الخير، فلا بد من أن تتحول إلى سلطة في النهاية، وللسلطات الجبارة مخالبها وقبضاتها. هذا ما تحاول أن توحي به الرواية، التي لا توصلنا إلى أجوبة شافية، بقدر ما تترك باب الإنسانية مفتوحاً على مغامرة جديدة.

معلوف المستشرف

ومع أن أمين معلوف يؤكد أن الرواية لم تكتب من وحي ما أحدثه فيروس «كورونا»، وما رافقه من انهيارات اقتصادية وعزلة، ومراجعات، وأنها كتبت قبل الجائحة، إلا إن ملامح هذه المحنة وتبعاتها، نجدها في حياة «ألكسندر» و«إيف»، كل منهما منقطع إلى حياة يعيشها شبه وحيد، ويأتي اللامتوقع ليحيل الجزيرة المنسية إلى مكان تتدافع نحوه الجموع بسبب رسوّ سفينة استشفاء لـ«أصدقاء أمبيدوكليس» على شواطئها، ثم دهشة البشر، وضعفهم أمام الوافدين الجدد، وتظاهرهم من أجلهم بعد أن تبين لهم أنهم يحملون الترياق لكل علة. فليس من سلطة أكبر من سلطة من يمتلك بيده سر الشفاء.

«حضاراتنا لم تذبح ذبحاً جباناً؛ بل أفلست ببساطة»؛ تقول «إيف». وما هو واضح لـ«ألكسندر» أن «ظهور (أصدقاء أمبيدوكليس)، مع أدويتهم المتقدمة ومستشفياتهم العائمة، قد أدى، في جميع أنحاء العالم، إلى اضطراب في الأولويات والقيم وخلخلة في هرمية سلمها».

عن "الشرق الأوسط" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية