أي مستقبل ينتظر الأطفال الذين تركتهم داعش وراءها؟

أي مستقبل ينتظر الأطفال الذين تركتهم داعش وراءها؟


16/10/2018

ترجمة: محمد الدخاخني


من الصّعب تخيّل أنّ هاتين الفتاتين الصّغيرتين- في فستانيهما الجميلين وجدائلهما- الّلتين كانتا تتحدّثان عن الدّمى، قد استُخرجتا قبل عامين من تحت أنقاض غارة جويّة قتلت آباءهما الّذين كانوا من: المقاتلين الدّواعش قساة القلب.

ما من شيء يربط بين سارة (11 عاماً) وليلى (9 أعوام) سوى أنّ مصائرهما متشابهة على نحو مخيف. فكلتاهما تنتمي إلى والدين كانا جزءاً من الكادر المتشدّد للجماعة الإرهابيّة العالميّة الّتي قاتلت حتّى آخر لحظة في مدينة الموصل العراقيّة.

وقد نجت الفتاتان الصّغيرتان بأعجوبة من الضّربات الصّاروخيّة الّتي قصفت مخابئ داعش في المدينة القديمة بالموصل، موقع المعارك الأكثر دمويّة لهجوم الجيش العراقيّ على أكبر معقل للجماعة. وتعيش كلتاهما الآن في دار الزّهور للأيتام الموجودة بالمدينة، وهي عبارة ملجأ يسعى إلى تقديم الرّعاية للأطفال الّذين تركتهم داعش وراءها.

إنّ كلتيهما تواجه وصمة عار ساحقة وقد رُفِضَتَا من قِبل أقاربهما بسبب انتماءات آبائهما الجهاديّة

وتحظى الفتاتان، الّلتان كانتا خائفتين من التّحدّث أو الّلعب عندما وصلتا لأوّل مرّة، بأسرٍ ممتدّة تعرف مكانهما. لكن شأنهما شأن معظم أيتام داعش هنا، فإنّ كلتيهما تواجه وصمة عار ساحقة وقد رُفِضَتَا من قِبل أقاربهما بسبب انتماءات آبائهما الجهاديّة.

"أريد من عمّاتي الّلواتي في كركوك المجيء إلى هنا ورؤيتي وإعادتي معهنّ. ذاك حلمي"، تقول سارة فجأة، بينما تلعب خَجِلة بطرف ثوبها.

هذا الإعلان يُفاجئ لحظيّاً أمل عبدالله، نائبة مدير دار الأيتام.

اقرأ أيضاً: الأطفال وجذور التطرف الفكري

"إنّها المرّة الأولى الّتي تقرّ فيها بوجود أقارب أحياء لها"، تشرح أمل بهدوء. "ذات مرّة اتّصل أحد أعمامها للتّحقّق من وجودها لكنّه رفض المجيء لأخذها. ويجب أن نتابع هذا الأمر".

عمل صعب بالنّسبة إلى موظّفي دار الأيتام

ظروف عمل شاقّة

إنّه عمل صعب بالنّسبة إلى موظّفي دار الأيتام، الّتي كانت في يوم من الأيّام ثكنةً عسكريّة استخدمتها داعش لإيواء الجنود المراهقين خلال حكمها الدّمويّ الّذي امتدّ لعامين في شمال العراق.

وكان قد أعيد ترميم المبنى وأعيد تزيينه على عجل في الرّبيع الماضي وافتُتِح من أجل رعاية عشرات الأطفال بمجرّد طرد الجهاديّين من المدينة.

كانت داعش قد قامت بتجنيد آلاف الأطفال في صفوفها، وكثيراً ما أجبرتهم على القتال

والآن يعيش هنا 33 طفلاً، 24 منهم من الإناث. ويبلغ عمر أصغر النّزلاء بضعة أشهر فقط. وكان لدى المركز عدد من يتامى داعش الأجانب الّذين طالبت بهم عائلاتهم بصورة عامّة ويجري الاحتفاظ بهم بعيداً عن الظّهور العلنيّ من أجل سلامتهم.

ويعاني كافّة الأطفال الموجودين من الصّدمات النّفسيّة ويحتاجون إلى رعاية متخصّصة.

لكن المركز يعاني بدوره من نقصٍ في عدد الموظّفين، ويعاني أيضاً من نقصٍ كبير في التّمويل. وكان قد بدأ، في الصّيف الماضي، يتلقّى تمويلاً حكوميّاً خصّص أكثر بقليل من مليون دولار لما مجموعه عشرة مراكز مختلفة ترعى ضحايا الحرب، بما في ذلك مراكز لمبتوري الأطراف البالغين. ويقول مدير الدّار، غزوان محمّد، إنّ هذا لا يكفي. فلا يمكنهم الاعتماد على التّبرعات المحليّة بسبب وصمة العار المرتبطة بداعش.

اقرأ أيضاً: رحلة نفسية في رؤوس مغتصبي الأطفال والمتحرشين بهم

"إنّنا في حاجة ماسّة للحصول على الدّعم. فنحن نتعامل مع حالات خاصّة تحتاج إلى الكثير من الموارد، الكثير من المال. إنّنا بحاجة إلى العون حتّى نتمكّن من مواصلة وظائفنا ومنح الأطفال حياة أفضل"، يقول للإندبندنت.

 يُعاني هؤلاء الأطفال من اضطرابات نفسيّة شديدة

كيف قامت داعش باستهداف الأطفال؟

غالباً ما يُعاني هؤلاء الأطفال من اضطرابات نفسيّة شديدة، وفي بعض الحالات، غسيل الدّماغ.

وكانت داعش قد قامت بتجنيد آلاف الأطفال في صفوفها، وكثيراً ما أجبرتهم على القتال، والمشاركة في عمليّات الإعدام خارج نطاق القانون، بل جعلت منهم مفجرين انتحاريّين. وفي الموصل، أخبر السّكّانُ الإندبندنت كيف قامت الجماعة باستهداف الأطفال والشّباب بحملات دعائيّة عبر "النّقاط الإعلاميّة" الّتي كانت منتشرة في كافّة أنحاء المدينة والّتي قامت بتشغيل مقاطع فيديو تمجّد عمليّات الذّبح والمعارك بشكل متكرّر.

من بين المشكلات الشّائعة بين الأطفال التبوّل في الفراش، والمشكلات النّفسيّة الّتي تخرج في شكل سلوكيّات غاضبة

ويقوم فريق دار الأيتام، الذي يضم أطبّاء نفسيّين، بمراقبة القادمين الجدد لمدّة شهر ثمّ يضع الأطفال ضمن برنامج دعم نفسيّ اجتماعيّ. ومن بين المشكلات الشّائعة بين الأطفال التبوّل في الفراش، والمشكلات النّفسيّة الّتي تخرج في شكل سلوكيّات غاضبة، والخرس، والعنف، والأرق.

"بعضهم عدوانيّ للغاية ويرفض الحضور إلى الصّفّ الدّراسيّ، وبعضهم لا يريد أن يأكل"، تضيف أمل.

"ويرفض الأطفال الّذين خضعوا لعمليّات غسيل الدّماغ المشاركة في الحفلات أو الألعاب الّتي ننظّمها لأنّهم يعتقدون أنّها محرّمة. إنّه لمن الشّاق إزالة الضّرر الّذي لحق بهم".

يرفض الأطفال الّذين خضعوا لعمليّات غسيل الدّماغ المشاركة في الحفلات أو الألعاب

صدمات نفسيّة وتشتّت عائليّ

من الصّعب تحديد هويّة الأطفال وأسرهم؛ لأنّه غالباً ما يتمّ جلبهم بشكل عشوائيّ مع معلومات قليلة حول خلفيّاتهم بعد صدور أحكام قضائيّة. وقد جرى العثور على معظمهم مهجورين من قِبل الوالدين أو متجوّلين في شوارع الموصل على يد الشّرطة العراقيّة أو السّكان المحليّين الّذين يقومون بأخذهم إلى مخيّمات النّازحين.

ومن جانبها، طالبت دار الأيتام بعدم تصوير أيّ من الأطفال، خشية أن يتمّ التّعرّف عليهم باعتبارهم ذوي صلة بداعش ومن ثمّ يجري تجنّبهم من قِبل المجتمع.

كما طالب العاملون الاجتماعيّون بتغيير أسماء الأطفال وعدم إجبارهم على استرجاع الصّدمة النّفسيّة.

وتعود أصعب الحالات إلى الأطفال الرّضّع الّذين ولدوا في ظلّ حكم داعش للموصل؛ لأنّه ما من شهادات ميلاد قد أصدرت لهم، ومن ثمّ فإنّ البدء في التّوثيق الورقيّ من الصّفر لمثل هؤلاء الأيتام يعدّ كابوساً حقيقيّاً. كما كان لدى بعض الأطفال آباء وأمّهات لكنّهم انفصلوا أثناء الرّحلة من الموصل.

طالبت دار الأيتام بعدم تصوير أيّ من الأطفال، خشية أن يتمّ التّعرّف عليهم باعتبارهم ذوي صلة بداعش

وكانت فتاة (5 أعوام) من الّلواتي فقدن أقاربهن في مخيّم للنّازحين قد ادّعت عائلتان منفصلتان، واحدة إيزيديّة وأخرى عربيّة، انتسابها لهما. وتقول أمل إنّه يجب على الدّار إرسال اختبارات الحمض النوويّ المكلّفة إلى بغداد لمحاولة التّعرف على الآباء الحقيقيّين.

"إنّه أمر صعب للغاية. فهناك الكثير من المفقودين. وهذه العائلة الإيزيديّة كانت تتّجه من دار أيتام إلى أخرى بحثاً عن ابنتهم المفقودة"، تضيف.

ومزيج الخلفيّات هذا يعني أيضاً أنّ هناك مزيجاً من الأطفال الّذين كان آباؤهم في داعش والّذين قُتِل آباؤهم على يد داعش. وقد تسبّب هذا في توتّر عندما وصل الأطفال الّذين يعانون من صدمات نفسيّة، لا سيّما بين الأطفال الأكبر سنّاً الّذين ربّما كانوا قد أصبحوا مُردكلين بالفعل والّذين غالباً ما يكونوا عدوانيّين.

اقرأ أيضاً: أطفال مدارس قرآنيّة في تونس يحلمون بأنّ يكونوا أئمة مساجد

"إنّنا لا نفصل بينهم. على العكس، نحاول كسر الجدار بين أولئك الّذين استهدفتهم داعش وأولئك الّذين كان آباؤهم مع داعش"، تقول نجلا عليّ، إحدى المعلّمات، من داخل فصلها الدّراسيّ الملوّن بابتهاج والمليء بالقطع الفنّيّة والمشغولات اليدويّة.

"وضعناهم في مكان لا يُفترض بهم ولا يُسمَح لهم فيه بالتّحدّث عن الأمر. فهذه ليست غلطتهم - فهم مجرّد أطفال".

عاهات جسديّة

تبادلت النّسوة أطراف الحديث بينما كنّا نتّجه نحو دار الحضانة حيث يجري الاعتناء بـ 11 طفلاً رضيعاً في أسرّة خشبية مبطّنة الجوانب. وكان من بين الرّضع "أسوأ حالة" موجودة داخل دار الأيتام.

في العام الماضي، عُثر على الطّفل الرّضيع حميد، الّذي لم يتجاوز ثمانية أشهر، بين بقايا البنايات المهدّمة على طول الخطّ الأماميّ.

وكانت داعش قد تركته كدرع بشريّ خلف حاجز من المتفجّرات لمنع القوّات العراقيّة من دخول الحي.

تعود أصعب الحالات إلى الأطفال الرّضّع الّذين ولدوا في ظلّ حكم داعش للموصل

"عرف الجيش العراقيّ أنّه لا يستطيع الوصول إليه: فقد كان فخّاً. ومن ثمّ اضطر الجنود إلى تركه تحت أنقاض الخطّ الأماميّ. وعندما عادوا في اليوم التّالي وجدوا كلباً يحاول تمزيقه وأكله"، تقول أمل.

الصّبي، الّذي بقي حيّاً، جرى إنقاذه في النّهاية لكن ذراعه كانت قد بترت. وقامت السّلطات بإحضاره إلى دار الأيتام حيث أصبح أحد قصص النّجاح النّادرة للمركز.

"لقد رتّبنا الأمور ووجدنا عائلة تقوم بتبنّيه الشّهر الماضي"، تضيف أمل بفخر.

على أنّ طفلة أخرى، اسمها إيمان وعمرها 12 شهراً فقط، لم تكن محظوظة. فقد جرى سحبها من تحت أكوام من الخرسانة الصّيف الماضي، وكان عمرها شهر واحد فقط.

اقرأ أيضاً: الحوثيون يجنّدون الأطفال والتحالف العربي يؤهلهم

ولا أحد يعرف ما إذا كان والداها مقاتلين أو مدنيّين محاصرين في تبادل لإطلاق النّار. هناك انحناء في عمودها الفقريّ ومشكلات في عظامها. وتصرخ في سريرها عندما ترى دعامة الظّهر التي أحضرها الموظّفون لوضعها فيها.

"تبكي لأنّها تعلم أنّها ستتألّم، ولكن علينا أن نفعل ذلك"، تقول أمل.

"معظم الأطفال غير مرضى والأسر الّتي ترغب في تبنّيهم تتقدّم بطلب إلى القاضي. ولكن مع إيمان..."، تقول أمل ثمّ يتلاشى صوتها.

فرص التّبني منخفضة للغاية

عودة إلى سارة وليلى

بالنّسبة إلى سارة وليلى، فإنّ فرص التّبني منخفضة أيضاً للغاية.

فكلتاهما تتشبّث بمعلّمات الدّار، الّلواتي يعاملوهنّ كما الأمّهات، وتتحدّث بحماس عن المشغولات اليدويّة الّتي يقمن بها في المدرسة.

"حضرت عائلة ليلى إلى هنا لمقابلتها والتّحقّق من وجودها. قلنا، 'لمَ لا تأخذوها معكم؟ فلا مستقبل لها هنا'"، يقول صلاح حسين علي، وهو باحث اجتماعيّ يحاول ربط الأطفال بعائلاتهم الأوسع.

"لكنّهم قالوا إنّ أهل القرية لن يقبلوا بوجودها لأنّ والدها كان مقاتلاً داعشيّاً وحشيّاً عَمِل على إيذاء الكثير من النّاس. فتساءلتُ لماذا يجب أن تكون هي وحدها في العائلة من يعاقب على ذلك. لماذا تمكّن الإخوة السّبعة لهذا الرجل من العودة إلى بيتهم؟".

لكن الأسرة لم تقدّم أيّ جواب وغادرت.

اقرأ أيضاً: "داعش" يستغل "الأطفال اللاجئين"

في غضون ذلك، اتّصل عمّ سارة مرّة واحدة ولم يُعاود ذلك أبداً. ويتحدّث الموظّفون بهدوء حول محاولة تحديد مكان العمّة الغامضة في كركوك.

ويقوم العاملون في الدّار بإثناء الأطفال عن العودة إلى الأحداث الصّادمة في ماضيهم ويقولون إنّهم يريدون أن تُمحى كلمة داعش من أذهانهم. لكن ليلى تذكر "حياتها من قبل" وخوفها من صوت الطّائرات بسبب الغارات الجويّة والقصف. وتقول إنّها تريد أن تكون معلّمة مثل النّساء الّلواتي يعتنين بها.

وتقول سارة، الّتي كانت تراودها في البداية فكرة أن تصبح معلّمة أيضاً، فجأةً، إنّها تريد أن تصبح طبيبة.

"رأيت أشخاصاً عديدين يعانون من إصابات... كانوا مرضى"، تضيف، فيما تهزّ قدميها ذهاباً وإياباً على الكرسي الّذي يجعلها تبدو ضئيلة جدّاً.

"وأريد أن أكون طبيبة حتّى أنقذهم".

المصدر: بل ترو، الإندبندنت



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية