إذاعة "صوت مصر العروبة": محاولات البعث العراقي اختراق وعي المصريين

مصر

إذاعة "صوت مصر العروبة": محاولات البعث العراقي اختراق وعي المصريين


23/06/2019

في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي؛ شهدت المنطقة العربية عدة تطورات سياسية، وبالأحرى أزمات متواترة، تشكلت في أعقاب الانتصار العسكري لمصر على إسرائيل، في تشرين الأول (أكتوبر) 1973، ثم قرار الرئيس السادات زيارة القدس، وعقد معاهدة كامب ديفيد، الأمر الذي أثار غضب عواصم عربية، قررت مقاطعة القاهرة، والهجوم الإعلامي والسياسي ضدّها.
أزمات سياسية ومواقف متباينة
وفي خضم اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، دعت المملكة العربية السعودية، إلى عقد قمة طارئة في الرياض، في 16 تشرين الأول (أكتوبر) العام 1976، تلتها قمة القاهرة، بعدها بتسعة أيام، للتصديق على قرار القمة الأولى، بوقف إطلاق النار بين جميع القوى والفصائل اللبنانية، لكنّ الخلافات العربية كانت قد بدأت تتراكم، وتنذر بتصدعات جمّة، وتعطّل إمكانية أيّ تعاون أو عمل عربي مشترك.

اقرأ أيضاً: كيف تحول حزب البعث في العراق من الأيديولوجيا إلى العائلة؟
وبينما أعلن الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، زيارة القدس، مطلع عام 1977، طالب صدام حسين، بالردّ على ذلك الأمر ومقاومته، عبر الدعوة إلى عقد قمة عربية "طارئة" في بغداد، 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1978، وقررت قمة بغداد مقاطعة مصر، ونقل مقر الجامعة العربية إلى تونس.

الرئيس المصري الراحل، أنور السادات
وإثر هذه الحوادث المحتدمة، وسياقاتها الإقليمية المعقدة، بكلّ ما تمخض عنها من مواقف متباينة، اندلعت حرب إعلامية شرسة بين القاهرة والعواصم العربية، خاصة في ظلّ هجرة عدد كبير من النخبة السياسية والثقافية المصرية، من التيار اليساري، بجناحيه القومي والماركسي، في ذروة الخلاف مع النظام، وفصل عدد كبير منهم من وظائفهم، وغلق الصحف التي كانوا يعملون بها، وهي الفترة المعروفة بـ "حملة إطفاء المصابيح الثقافية"، إضافة إلى اعتقال البعض الآخر؛ فشكلوا المعارضة المصرية في الخارج، وتمثل جزء كبير منها، في ما عرف بـ "الاتحاد العام لطلاب وشباب مصر".
البعث والاصطياد في الماء العكر
كانت العاصمة العراقية، بغداد، في ظلّ قبضة النظام البعثي، محطة استقر فيها العديد من الكتّاب والفنانين والسياسيين المصريين، وبينما كان الحزب يعمل وفق أهدافه الأيديولوجية والسياسية، على "تجنيد" عناصر جديدة باستمرار، وهو ما يعرف بعملية "الكسب الحزبي"، كي يتمكّن من تشكيل تنظيمات تابعة له، في كلّ قُطر عربي، كما تفصح عن ذلك أدبياتهم، وفي مقدمتها: "المنهاج السري لحزب البعث العراقي"، بدت الفرصة التاريخية استثنائية، لاستقطاب النخبة المصرية، المتواجدة في بغداد، والضغط من خلالهم على النظام المصري، والهجوم عليه، بهدف تمرير الأفكار البعثية إلى الشارع المصري، عبر خطاب إعلامي مؤدلج ومتقن.

حملت الإذاعة ذات الخطاب السياسي والدعاية الأيديولوجية المفخخة التي تتراوح بين شعارات "القومية" و"المقاومة" و"تحرير فلسطين"

دشّن البعث العراقي، في أعقاب القمة العربية الطارئة، عام 1978، إذاعة "صوت مصر العروبة"، والتي أشرفت على تأسيسها القيادة القومية في حزب البعث، وتعدّ القيادة القومية في البعث أعلى مرحلة تنظيمية، وأكثرها حساسية وخطورة، يسبقها القيادة القُطرية.
ويشير الصحفي المصري، سليمان فرحات، أحد القيادات البعثية المصرية، والذي تولى مسؤولية الإذاعة الموجهة لمصر، في كتابه "يوميات بغداد السرية"، إلى أنّ نصّ القرار الذي اطلع عليه، حول إنشاء الإذاعة جاء على هذا النحو: "تتشكل لجنة الإعلام المصري من: الكاتب المصري، أحمد عباس صالح، رئيساً، وعضوية كل من: عبد المنعم الغزالي، ومحمد عفيفي مطر، وأحمد عز الدين، والرفيق سليمان فرحات، والرفيق فاضل الشاهر، على أن تتولى هذه اللجنة مسؤولياتها للإشراف الكامل على الإذاعة، اعتباراً من أول أيار (مايو) العام 1988".
مصريون في فخّ البعث العراقي
تبدو الأسماء المصرية التي شكّلت عصب الإذاعة، وعمودها الفقري، الذي تولى عدة مهمّات إعلامية وثقافية، كانت موجهة للقاهرة، هي ذاتها العناصر التي انتمت للحزب، وتأسست من خلالها النواة الأولى، لما عرف بـ "مكتب مصر"، داخل التنظيم البعثي، وهي الهيئة المسؤولة في الوقت ذاته، عن تمرير الأفكار البعثية وبناء قاعدة لها في الداخل المصري.

طه يس رمضان، الذي شغل منصب النائب الأول لصدام حسين
الاجتماعات الحزبية التي انعقدت بتكليف من طه يس رمضان، الذي شغل منصب النائب الأول لصدام حسين، وجهت بضرورة أن تتولى الإذاعة مقاومة ما أسمته بـ "منهج الصلح مع العدو الصهيوني"، كما يذكر فرحات.
بيد أنّ الأمر الخفي والمستتر، وراء الإذاعة، كما يرد في الكتاب، هو أنّ القيادة القومية بالبعث العراقي "قدرت أن يدير الحزب الإذاعة بنفسه، ومن خلال الكوادر المصرية التي انضمت إليه، فهي وإن أنشئت بناء على مقررات القمة، لمقاومة منهج السلام، لكنّ الحقيقة الأهمّ؛ أنّها تصدر من عاصمة البعث، الذي يعمل جاهداً كي يصبح له في مصر دور فعال، ولأغراض تخدم ضرورة تأسيس تنظيم بعثي مصري، داخل الحدود المصرية".

اقرأ أيضاً: حزب البعث السوري: تجربة خمسة عقود من الحكم.. ما أبرز التحولات؟
وفي هذا الشأن، يستطرد صاحب "الحرب العراقية الإيرانية... صورة من قريب"، بأنّ "طه يس رمضان، قرر فصل الإذاعة عن المكتب الثقافي للبعث، بعد أن عملت ضمن هيئاته، لمدة ثلاثة أشهر، وإلحاقها في تبعية مباشرة بمكتب "تنظيم مصر"، الذي تشكل من عناصره الجديدة، وكوادره المصرية المؤسسة، والتي تواجدت في تلك الفترة بالعراق، وأضحى بمقدورها إدارة العمل، والتواصل مع النخبة المصرية، في الداخل والخارج.
الهجوم على عبد الناصر
تمكّن البعث العراقي، بالفعل، من استقطاب أسماء مصرية مهمة، في مجالات عديدة، مثل: الفنان عبد الغني قمر، والمخرج كرم مطاوع، والشاعر محمد عفيفي مطر، وغيرهم من الأسماء المؤثرة.

الفنان عبد الغني قمر
توجهت الإذاعة إلى القاهرة، وفق خريطة برامجية جرى إعدادها بدقة، من قِبَل أعضاء مكتب مصر، في حزب البعث؛ إذ كانت الإذاعة تبدأ بتقديم برنامج بعثي مباشر، ينقل إلى المستمع المصري أفكار الحزب، بشكل موجه، وذلك بقراءة فصل من كتاب "المنهاج الثقافي"، فضلاً عن كتيبات بعثية أخرى، تعرض من خلالها سيرة مختصرة عن تاريخ البعث، ومواقفه التي يرونها نضالية، وأنّها جاءت تلبية لتلك المهمة، جرى خلال عام من تاريخ بثّ الإذاعة، إضافة برنامجين، الأول بعنوان: "مفاهيم قومية"، والثاني: "أيام عربية".

توجهت الإذاعة إلى القاهرة وفق خريطة برامجية جرى إعدادها بدقة من قِبَل أعضاء مكتب مصر في حزب البعث

وفيما يبدو أنّ فلسفة البعث العراقي، التي حاول صدام حسين، بعد الاستيلاء على السلطة، عام 1979، أن يملأ بها الفراغ العربي، ويستعيد الزخم القومي والعروبي، الذي بدأ يتلاشى في تلك الفترة، وذلك عبر حشد كلّ الإمكانيات الإعلامية، والأدوات الثقافية والفنية، لصنع شخصية قيادية فذة، يكون هو في قلبها، فعمد من خلال إذاعة صوت مصر العروبة، إلى الهجوم ليس فقط على الرئيس الراحل السادات، ومشروعه للسلام مع إسرائيل، ولكن تصفية الفكر القومي الناصري، والهجوم على عبد الناصر، حيث يظلّ المشروع القومي "بعثياً"، وفقط.
هاجمت الإذاعة، في أحد برامجها، عبد الناصر، ورأت أنّ البعث و"القائد البعثي"، يملك من الإمكانيات الأيديولوجية والتنظيمية والمادية، ما يمكنه أن يحقق للأمة العربية ما عجز عنه جمال عبد الناصر. كما يذكر القيادي البعثي المصري في مذكراته.
ويلاحظ أنّ قصة تلك الإذاعة لا تختلف عن غيرها، من تلك الأذرع الإعلامية التي مازالت سيرتها حية وقائمة، تتغير فقط السياقات التاريخية والسياسية؛ لكن الأهداف والوسائل متطابقة، تحمل ذات الخطاب السياسي، والدعاية الأيديولوجية المفخخة، التي تتراوح بين شعارات "القومية" و"المقاومة" و"تحرير فلسطين"، بيد أنّها تمارس التضليل من خلال أجهزتها الإعلامية، وتكرس لحكمها، وتأبيد سلطتها، ومشروعيتها، بصورة ناعمة، أحياناً، ومتوحشة وقمعية، أحياناً أخرى.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية