إذا كان التطرف ينام بين جنبات التراث فمن يوقظه؟!

إذا كان التطرف ينام بين جنبات التراث فمن يوقظه؟!


19/08/2018

يظل التطرف حبيس الكتب والرؤوس إلى أن يأتي السياسي ويوقظه من سباته فيعطيه سيفاً أو متفجرات...، والتاريخ حافل بالشواهد على توظيف السياسة للتطرف الديني، لكن هذا التوظيف بلغ ذروته في العقود الثلاثة الأخيرة، ما جعل الإرهاب ظاهرة تختلف جذورها الفكرية –المستمدة من الماضي- عن مسبباتها السياسية الراهنة، تحليل ظاهرة الإرهاب بتحميل التراث الديني المتطرف المسؤولية دون علاج الأسباب يشبه وضع العربة أمام الحصان.

يظل التطرف حبيس الكتب والرؤوس إلى أن يأتي السياسي ويوقظه من سباته فيعطيه سيفاً أو متفجرات

تقول أُم في شهادتها عن تفجير مترو موسكو 2004: "هذا الصبي "الانتحاري / الاستشهادي".. وآخرون.. لقد نزلوا من الجبال وجاؤوا إلينا"، ثم تقول على لسانهم: 'إنكم لا ترون كيف تقتلوننا؛ فلنجرب أن نفعل هذا عندكم"، لم تُغيِّب الحادثة الأليمة عقل هذه الأُم، على الرغم من أن ابنتها أصيبت فيها بجروح خطيرة غيّرت مسار حياتها؛ لقد طرحت الأم السؤال المركزي: لماذا؟ وتوصلت إلى أن "الإرهاب بيزنس" كما جاء على لسانها في كتاب (زمن مستعمل) لسفيتلانا أليكسييفيتش. بهذا المنطق عبّر الفيلسوف ميشيل أونفري "بأن على فرنسا أن تكف عن قصف المسلمين لكي تتوقف "داعش" عن ارتكاب التفجيرات في قلب باريس"، فقامت عليه الدنيا لأنّه أرجع الإرهاب إلى مصادر سياسية.

اقرأ أيضاً: عنف الإرهاب وتركة التراث الفقهي

تحليل الإرهاب من منظور فكري يسهم في فهم الظاهرة وإيجاد الحلول، هكذا فعل فتحي المسكيني قائلاً: "إنّ الإرهاب ليس عنفاً عادياً، بل هو نمط غريب من الرغبة الصريحة في "قتل الدولة"، وليس هذا الشخص أو ذاك"، لكن الرغبة في قتل الدولة لا تنتج من فراغ، في كتابه (الهويات القاتلة) لم يكن أمين معلوف يتحدث عن نظرية المؤامرة، وهو يعزو الإرهاب في الجزائر -في تسعينيات القرن العشرين- إلى ميراث الاستعمار، بقدر ما كان يحلل الميراث القبيح الذي خلَّفه الاحتلال للجيش الوطني، يقول: "تستطيعون قراءة عشرة مجلدات ضخمة عن تاريخ الإسلام منذ البدايات ولن تفهموا شيئاً مما يجري في الجزائر، اقرأوا عشر صفحات عن الاستعمار والتحرر فتفهمون ما يجري بصورة أفضل".

اقرأ أيضاً: مصر: الإخوان والإرهاب من تراث الماضي

كما ربطت حنا أرندت الإرهاب بسياسة الأنظمة الشمولية: "تكمن العلاقة الفارقة للنظام الشمولي في أنّ الرعب والإرهاب يُستخدمان وإنما كأدوات اعتيادية وواسعة الاستخدام لقيادة الجماهير. ولتحقيق هذا الهدف يغذى دائماً، ويعاد إنتاج مناخ الحرب الأهلية"، لكن هذه النظرة التحليلية للإرهاب تختفي وراء كم الكتابات التي تصف الواقع وتتجاهل الجذور التي يمكن الكشف عنها بسؤال "لماذا؟".

اقرأ أيضاً: تراثُ قتل وذبح وفتن أم تراث حب؟

تتناول الصحافة الغربية الإرهاب من زوايا مختلفة؛ مقالة لماكس فيشر بعنوان (كيف يُغيِّر الإرهاب نتيجة الانتخابات؟) تشير إلى أنّ دراسات توصلت إلى أنّ التفجيرات التي تحدث قبيل الانتخابات تسهم في زيادة النقاط لصالح الأحزاب اليمينية، وهيئة تحرير الصحيفة نفسها كتبت مقالاً بعنوان (الحروب الخارجية والإرهاب) يبحث في الصلة بين الحروب الخارجية والإرهاب.

وفي مقالة نشرتها "الإندبندنت" عقب تفجيرات مانشستر كتب باتريك كوكبيرن: "الصلة بين مرتكبي هجمات 11 أيلول (سبتمبر) والولايات المتحدة والسعودية في دعم الجهاديين الذين يقاتلون الشيوعيين في أفغانستان في الثمانينيات لا يمكن إنكارها، كما لا يمكن إنكار العلاقة بين تفجيرات مانشستر واستعمال الحكومة البريطانية للسلفيين الجهاديين في المملكة المتحدة للتخلص من القذافي".

اقرأ أيضاً: الإخوان يدمرون التراث الإصلاحي ويضرون الدين والمجتمع

يتحدث كوكبيرن هنا عن بريطانيين من أصول ليبية أُعيدت إليهم جوازات سفرهم لمحاربة القذافي في العام 2011، ويقول: "من غير المرجح أن يعودوا مواطنين نموذجيين"، ويصل إلى نتيجة مفادها أنّه "لا ينبغي أن يكون هناك أي غموض حول السبب والنتيجة التي أدّت إلى تفجيرات مانشستر؛ فالأخطاء نفسها ارتكبتها بريطانيا في العراق 2003، وأفغانستان 2006، وليبيا 2011، وفي سوريا خلال الفترة نفسها".

اقرأ أيضاً: تعثر مسار تنقية كتب التراث الإسلامي وأزمة المؤسسات الدينية

ليس كوكبيرن وحده من أدرك هذه الصلة، فـ"منذ يوم الإثنين الماضي فقط أدرك الناس في بريطانيا أن ما حدث في ليبيا في العام 2011 يؤثر بشكل كبير على الحياة في بريطانيا اليوم"، كما ذكر كوكبيرن، ثم يتحدث أحد المعلقين على المقالة عن مسؤولية رئيسة الوزراء تيريزا ماي التي سمحت لهؤلاء بالذهاب إلى ليبيا وارتكاب عمليات إرهابية ثم سمحت لهم بالعودة إلى بريطانيا عندما كانت وزيرة داخلية، وقد دار جدل حول علاقة التفجيرات بترجيح كفة تيريزا.

تراثنا ملغم بالإرهاب حال تراث بقية الأمم لكنّه في هذه المرحلة ليس أكثر من قنبلة بيد من يشعلها

يذهب كوكبيرن بالصلة أبعد من ذلك حين يقول: إن "مجزرة مانشستر المروعة تَسبب فيها العنف المندلع في منطقة شاسعة تمتد من باكستان إلى نيجيريا وسوريا إلى جنوب السودان، بريطانيا تقع خارج حدود مرجل هذه الحروب وسيكون من المستغرب إن لم نُصَب بشرارة هذه النزاعات الوحشية، هذه النزاعات مستمرة منذ أمد طويل لكن بقية العالم يتصرف كما لو كانت الحرب الدائمة هي الحالة الطبيعية في ليبيا والصومال وسوريا والعراق واليمن وجنوب السودان وشمال شرق نيجيريا وأفغانستان".

والحل من وجهة نظر كوكبيرن لن يكون محلياً ولا بتفسير ما حدث فقط ولا بالتخطيط لضبط وتحييد نسبة ضئيلة من السلفيين الجهاديين المتعصبين في المملكة المتحدة، فمثل هذه الإجراءات "ستفتقر دوماً للواقعية ما لم يتم وضعها وتنفيذها بفهم واسع للسياق الذي تحدث فيه"، ويؤكد كوكبيرن أنّ أي معركة لا يمكن خوضها والفوز بها "دون معرفة المكونات السياسية والدينية والعسكرية التي تجتمع معاً لإنتاج سلمان عبيدي وشبكة السلفية الجهادية الغامضة المجتمعة حوله".

اقرأ أيضاً: عبد الباسط هيكل: لا يمكن إحداث قطيعة معرفية مع التراث

وطالما وأن الدول الكبرى تسكت عما يحدث في العالم، "فالعنف الفوضوي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا غالباً لا يُذكر في وسائل الإعلام الغربية. وقد بدا أن مجزرة المدنيين في بغداد ومقديشو تبدو طبيعية وحتمية مثل الأعاصير في منطقة البحر الكاريبي أو الانهيارات في جبال الهيمالايا"، كما يرى كوكبيرن.

اقرأ أيضاً: مذبحة التراث على يد الإسلامويين

ما سبق مجرد عينات لكتابات تتعامل مع الإرهاب من منظور تحليلي يذكر السياق والأسباب، بينما يستسهل البعض ظاهرة الإرهاب فيربطونها بأصول فكرية لم تعد تربطها بالإرهاب الحاصل علاقة مباشرة أو قوية، تراثنا ملغم بالإرهاب، حال تراث بقية الأمم، لكنّه في هذه المرحلة ليس أكثر من قنبلة، من يشعل هذه القنبلة هذه مسألة أخرى تحتاج إلى وقفة مستقلة، وهنا يمكن أن نسأل: إذا كان الإرهاب ينام بين جنبات التراث فمن يوقظه!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية