إزالة أسماء السلاطين العثمانيين من شوارع القاهرة والرياض: ردّ الاعتبار للتاريخ

إزالة أسماء السلاطين العثمانيين من شوارع القاهرة والرياض: ردّ الاعتبار للتاريخ


18/06/2020

جدّد قرار أمانة الرياض في المملكة العربية السعودية بإزالة لوحات تحمل اسم السلطان العثماني، سليمان القانوني، من أحد شوارعها، السجال حول الموقف من التاريخ العثماني، واستأنف الجدل عن مجريات أحداثه وشخصياته، وذلك على خلفية محاولات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي يعمد إلى بعث ميراث قديم ومتوهم؛ ممثلاً في "العثمانية الجديدة" ومفاهيم "الخلافة"، مجدداً، ضمن ممارساته الإقليمية التي يترافق فيها السلاح مع دوره السياسي، بهدف كسر جدار في ذاكرة تاريخ بعض الدول والشعوب التي يستهدفها، لمدّ نفوذه، وتحقيق أغراضه التوسعية، الأمر الذي يمالئ فيه أنصاره من تيارات الإسلام السياسي.
أردوغان ورقص الذئاب
يكاد لا يختلف النهج التركي، من خلال أردوغان، الذي يستهدف التأثير في الخصوصية الثقافية المحلية لعدد من البلدان التي تتوغل فيها آلته العسكرية، كما هو الحال في سوريا وليبيا، أو ينشط فيها من خلال الأدوار التنموية والخدمية، كما في إفريقيا؛ إذ ينفّذ مخططات التغيير الديموغرافي، وإلغاء الهوية الوطنية بأخرى دينية، ضمن جملة الانتهاكات المرتكبة؛ ففي شمال شرق سوريا تمّ تغيير أسماء قرى بأخرى، تركية وعثمانية، ومن بينها قرية قسطل مقداد؛ حيث استبدلت بـ "سلجوق أوباسي"، وقرية "كوتانا" التي تغيّرت إلى "زافير أوباسي".

 

 

وعلاوة على ذلك؛ استعارت التنظيمات المسلحة والميليشيات المدعومة من أنقرة، أسماء سلاطين عثمانيين، تكنّت بها فيالقهم؛ مثل: "لواء السلطان مراد"، وحركة "نور الدين الزنكي".

 

 

مصادر تاريخية: في عام 1553م، تخلّص سليمان القانوني من ابنه الأكبر مصطفى، المرشح لخلافته في الحكم، وذلك إثر مكيدة

ولذلك، ليس مستغرباً قرار بلدية تاجوراء، الواقعة شرق العاصمة الليبية، طرابلس، بوضع اسم السلطان "سليمان القانوني" على أهم الطرق الرئيسة بالمدينة، والممتدّ من منارة الحميدية إلى جزيرة الدوران، المعروفة باسم "جزيرة إسبان"، حسبما أعلن، قبل أيام قليلة، رئيس المدينة، وهو ما يضيء على التبعية السياسية الليبية، في ظلّ الدور التركي المتنامي، عسكرياً وسياسياً، فيها، لجهة الحصول على ثروات شرق المتوسط.
دشّن مغردون في المملكة "هاشتاغ" وصفوا فيه السلطان العثماني بـ "المجرم"؛ حيث انبرى كثيرون في التنقيب عن تاريخه الدموي، فقال المدون السعودي، منذر آل الشيخ مبارك: "إظهار المجرم سليمان القانوني في غير صورته الحقيقية لم يكن عبثاً بل لأغراض خبيثة، من يتصور أن يظهر مجرم قتل ولده خنقاً وأربعة من أحفاده أمام والدهم، الذي هو ابنه، إنّه خليفة مسلم، أي فطرة سوية تقبل تمجيد قاتل كهذا".
ضدّ المستعمر القديم
سبقت القاهرة قرار الرياض باتّخاذ إجراء مماثل، قبل عامين تقريباً؛ إذ قامت الدولة بإزالة اسم سلطان عثماني آخر من أحد شوارعها، هو سليم الأول، في ضاحية الزيتون، شمال القاهرة، والذي ألحق مصر بالدولة العثمانية، بعد أن قضى على الدولة المملوكية، كما خاض حروباً وصراعات هائلة ضدّ كلّ من يهدّد حكمه وسلطته، ويعطل نفوذه السياسي، فأطاح بوالده وطارد إخوته فقتلهم، ومن ثم، انخرط في معارك أخرى خارجية، لتوطيد حكمه من المنافسين الإقليميين، فاتجه إلى الدولة الصفوية في إيران؛ حيث كانت تمثّل تهديداً من الناحيتين السياسية والأيديولوجية، بواسطة حكم الشيعة الإسماعيلية، الذي يقابله الجناح السنّي، كما صدرته الدولة العثمانية.

اقرأ أيضاً: عقدة أردوغان العثمانية و"الاحتلال المائي" للعراق
وبالرغم من هجوم أنقرة على قرار القاهرة الذي رأت أنّه "نزاع سياسي"، أو تسييس للتاريخ، وهو التوصيف نفسه الذي استعادته فيما يخصّ قرار الرياض، غير أنّها وضعت اسم الرئيس المصري المعزول، محمد مرسي، المنتمي لجماعة الإخوان، على أحد شوارعها، في مدينة سيواس، وسط تركيا، ووصفته بـ "الشهيد"، كنوع من المكايدة السياسية من جهة، ومغازلة للتيار الإسلامي المتحالف معها في تركيا، من جهة أخرى، وهو أمر لا يختلف كثيراً عمّا سبق أن فعلته طهران؛ إذ وضعت في أحد شوارع عاصمتها اسم خالد الإسلامبولي، الذي شارك في اغتيال الرئيس المصري الراحل، محمد أنور السادات، قبل أن يتمّ تغييره عام 2004.

 

 

بيد أنّ تصريحات صحفية للباحث المصري، محمد صبري الدالي، وأستاذ التاريخ المعاصر، في جامعة حلوان، الذي قدّم مقترحاً بتغيير اسم السلطان العثماني من شوارع القاهرة، ردّ فيها على محاولات البعض التعسفية للربط بين هذا الإجراء والخلاف مع تركيا؛ حيث شدّد على أنّه "لا يصحّ إطلاق اسم مستعمر لمصر"، مؤكداً أنّ السلطان العثماني "أفقد مصر استقلالها وحوّلها لمجرد ولاية من ولايات الدولة العثمانية، إضافة إلى قتله آلاف المصريين خلال دفاعهم عنها، وإعدامه طومان باي، آخر سلطان مملوكي".
حكم التاريخ
وبالعودة إلى المصادر التاريخية؛ فإنّ المؤرخ المصري، ابن إياس، والذي يعدّ شاهداً على أحداث تلك الفترة التاريخية، كشف هو الآخر، أو بالأحرى وثّق، دموية سليم الأول، والمعروف بأنّه قتل إخوته وأبناءهم، في سبيل تصفية كلّ المنافسين المحتملين على السلطة من أمامه؛ حيث قام بقتل حاكم مصر، طومان باي، شنقاً على باب زويله، ومثّل بجثته، كما علّق جثته لمدة ثلاثة أيام، إمعاناً في التعذيب والإذلال لرفضه الاستسلام أمام جيش الدولة العثمانية.

 

 

اقرأ أيضاً: العثمانيون حاربوا عمر المختار .. وأردوغان يحارب أحفاده
ويذكر ابن إياس: "عند باب زويلة توقف ركب السلطان الأسير، طومان باي، كان بحراسة 400 جندي من الإنكشاريين، وكان مكبلاً فوق فرسه، وكان الناس في القاهرة قد خرجوا ليلقوا نظرة الوداع على سلطان مصر، وتطلّع طومان باي إلى (قبو البوابة)، فرأى حبلاً يتدلى، فأدرك أنّ نهايته قد حانت، فترجل، وتقدم نحو الباب بخطى ثابتة، ثم توقف وتلفت إلى الناس الذين احتشدوا من حوله عند باب زويلة، وتطلع إليهم طويلاً، وطلب من الجميع أن يقرؤوا له الفاتحة ثلاث مرات، ثم التفت إلى الجلاد، وطلب منه أن يقوم بمهمته".
أما سليمان خان، المعروف باسم سليمان القانوني، عاشر السلاطين العثمانيين، فلا تكاد سيرته الدموية تختلف عن سابقه كثيراً؛ حيث يتقاسم كلاهما ملامح مشتركة، نتيجة ما فرضته طبيعة المرحلة من اعتبارات عديدة، تتمثل في مؤامرات القصر والخلافة، وأحلام التوسع؛ فقد حكم لمدة بلغت 46 عاماً، كما تورّط في قتل أحد أبنائه بتوصية من زوجته الجارية الروسية "روكسلانا"، والذي اشتهر بافتتانه وحبّه الجمّ لها، وذلك حتى تتمكّن الأخيرة من تهيئة مقعد الحكم والخلافة لابنها، بدلاً من غيره من زوجة أخرى.
دموية العثمانيين
وفي السياق ذاته، تذكر بعض المصادر التاريخية، أنّه، في عام 1553م، قام سليمان القانوني بالتخلص من ابنه الأكبر مصطفى، المرشح لخلافته في الحكم، وذلك إثر مكيدة تسربت له، بواسطة وزرائه، ومن خلال زوجته الروسية، تشير إلى أنّ ابنه يدبر انقلاباً ضد السلطان العثماني.

سبقت القاهرة قرار الرياض قبل عامين تقريباً؛ إذ أزالت الدولة اسم سلطان عثماني آخر من أحد شوارعها

وإلى جانب النقاط السوداء التي تملأ سجل "القانوني"، والذي حاز اللقب لاهتمامه بالقانون والعدالة، دون أن يحقق منهما شيئاً، بل ظلت فجوات تعري تناقضاته، تأتي أحداث ووقائع نقل أجزاء من الحجر الأسود الملصق بالكعبة إلى إسطنبول، لتعكس العقلية البراغماتية ذاتها، والتي لا تراعي سوى شحن وسائل القوة الرمزية والمعنوية، بهدف ملء خزائن السلطة العثمانية.
وكما هو معروف في تاريخ الخلافة العثمانية، فإنّها رهنت الولايات التابعة لحسابها، بينما استولت على ميراثها التاريخي والثقافي إلى مركز الخلافة في "الأستانة"، بهدف تحقيق نهضتها، وذلك بالدرجة نفسها التي جردتهم فيها من استقلالها وحضارتها؛ ففي مصر، مثلاً، يرجح الباحثون أنّه تمّ نقل آلاف العمال المصريين، ونحو 53 مهنة مصرية إلى تركيا، بشكل قسري وبالقوة، حيث وجّه العثمانيون، خلال أربعة قرون، إلى نقل كلّ ما هو ثمين في حضارات القاهرة والشام والحجاز، وفي مقدمتها الآثار المحمدية، كما ظلت مصر تدفع الجزية لتركيا، حتى عام 1952.

 

ما هي حجّة أردوغان لدعم الإرهابيين؟
اللافت أنّ وكالة "الأناضول" لم تنف حادثة نقل أجزاء "صغيرة"، كما تشير، من الحجر الأسود إلى تركيا، في عهد سليمان القانوني، لكنها حاولت تبرير وتأويل ذلك عبر حيل عديدة، لطالما لا يمكن التحايل على واقعة موثقة في التاريخ، فقالت: "نقل أجزاء صغيرة من الحجر الأسود إلى إسطنبول في عهد سليمان القانوني هي واقعة ثابتة لا يمكن إنكارها؛ حيث إنّ المعماري العثماني المشهور، سنان (القرن السادس عشر الميلادي)، قام بتثبيت أربعة أجزاء منها في جامع "صوقوللو محمد باشا" في إسطنبول، أما القطعة الخامسة، فهي ما تزال مثبتة في ضريح السلطان سليمان القانوني، بينما توجد القطعة السادسة في مسجد أسكي في مدينة أدرنة".
وإلى ذلك، غرّد المحلل السياسي السعودي، خالد الزعتر، عبر حسابه في موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"؛ بأنّ "سليمان القانوني يحاول الأتراك إضفاء هالة القداسة عليه، وهو كان سفاحاً لم يسلم منه أقرب الناس له، وهو ابنه، حيث أمر بإعدامه خنقاً، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل سارعت زوجته روكسلان لخنق طفل ابنه الرضيع".

اقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون.. حملات لتمجيد الاحتلال العثماني وتلميع أردوغان
وفي حديثه لـ "حفريات"، يرى الباحث والكاتب السياسي، عبد القادر الجنابي؛ أنّه ينبغي على دول المنطقة العربية الوقوف ضدّ السياسة التركية، المتمثلة بشخص رئيسها أردوغان؛ حيث يحلم الأخير بإعادة الخلافة العثمانية وأمجادها المزعومة، وفق أطر حديثة، عن طريق التدخلات العسكرية في ليبيا، وقصف شمال الأراضي العراقية، إضافة إلى دعم التيارات السياسية والتنظيمات المصنفة إرهابية، مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتونس.
وتابع: "على الدول العربية وضع حدّ لطموحات أردوغان، الذي يحاول التغلغل باسم الشعارات الإسلامية، بيد أنّ حقيقته القومية المتعصبة والراديكالية تعكس محاولته زعزعة استقرار المنطقة برمتها، كما يفعل في الداخل السوري والعراقي والتونسي والليبي، وبالتالي، فإن تغيير ومراجعة أسماء الشوارع والمرافق الحياتية التي سميت بأسماء ورموز تركية، ليست لها صلة حقيقية بقيم التنوع والثقافة واحترام مبادئ العدالة، يعدّ أمراً ضرورياً".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية