إيران .. أقل من دولة أكثر من ثورة

إيران .. أقل من دولة أكثر من ثورة


26/07/2021

منذ 42 عاماً وإيران يتداخل فيها أو يتجاذبها عاملان كبيران هما "الدولة" والثورة"، فهي تصدر نفسها للعالم على أنها ثورة إسلامية وليست دولة، وهذا أكبر مأزق تضع فيه دولة نفسها، باعتبارها تصنع مساحة للعداء والاستعداء والخلاف، أكبر من قدرتها واستطاعتها على المواجهة، وإن بدت نوعاً ما دولة متماسكة وقوية، لكنها ليست بالقوة التي تحاول الظهور بها، وليست متماسكة كما تبدو من بعيد، إنما هي كتلة ملتهبة من الأوهام. وهم الدولة ووهم الثورة معاً.

منذ عام 1979 وإيران لا تتعامل مع العالم على أساس أنها دولة، بكل ما للدولة من دلالات ومعايير وعناصر ومحددات وأحكام وظروف وفلسفة وخيارات، وأصبحت تتعامل على أساس الثورة بكل ما في الثورة من دلالة وخيارات وفلسفة ومنهج وفكر وتفكير. وأصبحت بذلك الثورة تشكل نقيضاً للدولة في إيران، ليس على صعيد الخطاب، بل على صعيد الممارسة، إذ تشكل كل ممارسات إيران السياسية حالة تناقض مع فكرة الدولة القابلة للحياة والنمو، إلا أن إيران منذ ذلك التاريخ أخذت تتراجع كدولة لحساب محاولة التقدم كثورة.

 

منذ عام 1979 وإيران لا تتعامل مع العالم على أساس أنها دولة، بكل ما للدولة من دلالات ومعايير وعناصر ومحددات وأحكام وظروف وفلسفة وخيارات

 

هذه الحالة الصاخبة من التجاذب بين الدولة والثورة، ومرور كثير من الوقت ومعه الكثير من القلق والخوف والفقر والتسلط والاستبداد، خلق في الداخل الإيراني اتجاهاً عاماً نحو الثورة، ولكن ليست الثورة التي تتبناها الدولة، إنما هي الثورة من أجل الحياة، ومن أجل الخلاص من العيش بعقود طويلة ومرة في أتون الصراعات والحروب ورهن الدولة والشعب فيها من أجل مصلحة النظام الثوري الحالم.

لا يعيش المواطن الإيراني حالة الدولة، ولا يتمتع بميزات الدولة، وقد يحاول أن يقول إنه في اللادولة تماماً، إنها أشبه بجامع كبير باعتبارها دولة دينية، وأشبه بحسينية واسعة الجدران باعتبارها طائفة متغولة بأفكارها على أية فكرة أو أفكار أو طوائف أو يقين أو إيمان، وأشبه بالأيديولوجيا الغاضبة، الساخطة، المتسلطة التي لا تقبل بالرأي والاختلاف أو التنوع أو التعايش.

صحيح أن في إيران حكومات وانتخابات ورئيس ووزراء وسياسة داخلية وخارجية وعلاقات واتفاقيات وتعاوناً وأمناً وجيشاً ومؤسسات ونقداً ومصارف وصناعة وتجارة وغير ذلك كثير من علامات الدولة، إلا أن كل ذلك محكوم بمرجعية الطائفة كنظام أيديولوجي، وليس بمرجعية الدولة كنظام سياسي.

 

يعيش الإيرانيون حالة الثورة أكثر مما يعيشون حالة الدولة، والذي لا يبدو واضحاً لرموز الثورة وملاليها وعمائمها

 

لهذا يعيش الإيرانيون حالة الثورة أكثر مما يعيشون حالة الدولة، والذي لا يبدو واضحاً لرموز الثورة وملاليها وعمائمها أنهم لا يدركون للآن أن حالة الثورة تنمو في اتجاهات مختلفة، وليس فقط في اتجاه الثورة التي ولدت من فوق اللحى ومن تحت العمائم، ثمة ثورة وثمة ثورة مضادة في كل مجتمع يعيش البؤس والحرمان والجوع والتخلف الفكري، والتسلط والقمع والحروب التي كان يمكن أن لا يكون له فيها ناقة ولا جمل، فما شأن الإيرانيين بالعراق، وما شأنهم في سوريا وفي لبنان وفي اليمن، إلا أنهم ضحية شبه دولة، يغامر ملاليها  بكل ما لديها من مقومات وعناصر ورؤى لصالح رؤية واحدة مستلبة ومصادرة لصالح قوى دولية وحروب بالوكالة ونزاعات وأزمات مفتعلة.

الثورة بالنسبة للإيرانيين بدأت ومنذ زمن بالتحول من المفهوم التقليدي الجامد الذي نمَّطه لهم الفقيه، وولي الفقيه، وكتب وخطب آيات الله، إلى مفهوم آخر، أوسع وأكثر حركة، حتى لو كانت هذه الحركة في الهوامش والمناطق المعتمة التي تحاول إنارة ضوء للمجتمع كي يعيش حالة الثورة التي يريد، والثورة التي تنتج الدولة.

على مستوى الحرية، ثمة ثورة، وعلى مستوى الفقر ثمة ثورة، وهما أقوى ثورتين يمكن لمجتمع محاط بأسلاك شائكة موصولة بالكهرباء الصاعقة، أن ينتجهما ولو بعد حين، طالما يعيش حالة من البؤس والخذلان والضعف والعنف والخوف الشديد على الحاضر ومستقبل الأجيال التي مازالت تتوالد في ظل ثورة لم تصنع شرطاً واحداً للحياة والعيش بحرية وأمن وسلام، بقدر ما صنعت شروطاً للحرب والموت والخوف.

ما في داخل المجتمع الإيراني أكثر من مجرد بؤس ورفض واحتجاج خجول، إنه غضب سيصير يوماً ما ثورة مضادة، وعوامل ذلك ومحركاته كثيرة، الفقر والقمع من الداخل، ومن الخارج ما يقارب من 50 محطة تلفاز وإذاعة تبث التحريض وتحرك مشاعر البؤس وتوقظ كوامن الغضب.

 

عشرات الأعوام من خبرة الاحتجاجات تستطيع أن تعلم الإيرانيين درس الحياة والنضال من أجل دولة بكامل تفاصيلها

 

وتاريخياً، لم تمهل الاحتجاجات ولم يمهل الغضب الشعبي، نظام الثورة والخميني إلا عشرة أعوام فقط، ففي عام 1989 بدأت ما سمي في حينه بالفتنة، وهو تاريخ حساس في الداخل الإيراني، كان له ما بعده، حيث بقيت الاحتجاجات تتكرر، ولو كل عشرة أعوام مرة، أي في عام 1999، حيث اندلعت احتجاجات وثورة غضب شعبي إصلاحي نتيجة إغلاق السلطة مقر صحيفة إصلاحية، وبعد عشرة أعوام أخرى كانت احتجاجات تزوير الانتخابات وبعد عشرة أعوامٍ أخرى كانت احتجاجات أسعار  الغاز والبترول، واليوم تندلع أزمة المياه على شكل احتجاجات بدأت في الأحواز، ثم ما لبثت أن تعدت هذه الجغرافيا الإيرانية المحاصرة إلى مدن إيرانية أخرى.

عشرات الأعوام من خبرة الاحتجاجات تستطيع أن تعلم الإيرانيين درس الحياة والنضال من أجل دولة بكامل تفاصيلها، وليس من أجل ثورة تحتكر كل خيارات المجتمع والشعب بالحياة والنمو والاستقرار.

سنبقى نسمع ونرى ونشاهد مشاهد احتجاجات حية داخل إيران، حتى يتحقق أحد أمرين، إما انتهاء فترة صلاحية الثورة التي هي على شكل دولة، أو أن تسقط الدولة تماماً، أو ما يتبقى من الدولة، فتحدث الثورة البديلة



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية