إيران وجعبة الحاوي الأمريكي

إيران وجعبة الحاوي الأمريكي


30/07/2019

تتواصل الضغوط الأمريكية على إيران عبر مختلف أدوات "حروب اللاعنف". وكلما صعّدت واشنطن حملة الضغوط على طهران عبر العقوبات الاقتصادية، ومحاولات خنق الاقتصاد الإيراني، يواصل الحرس الثوري الإيراني محاولاته لزعزعة استقرار سوق النفط العالمي، وإلحاق الأضرار باقتصادات المجتمع الدولي.

اقرأ أيضاً: إيران تواصل تهديداتها للأوروبيين.. تصريحات جديدة

وليس معروفاً على وجه الدقة، ماذا تُخفي جعبة الحاوي الأمريكي من مفاجآت جديدة بالنسبة لطهران، لكنّ المؤكد هو أنّ "الحفاظ على الزخم" يعدُّ من أبرز التحديات التي ستواجهها واشنطن كلّما طال أمد هذه المواجهة. ولا تحتاج طهران في المقابل إلى تأكيد أو إثبات قدراتها في عنصر المبادرة هذا، كونها اتخذت منذ البداية تموضعاً دفاعياً في المواجهة. وسوف يتعين على صانع القرار في البيت الأبيض إذا ما أراد الفوز بهذه المواجهة، أن يبحث دائماً عن طرق جديدة، لتشديد الخناق على طهران في حملة الضغوط القصوى هذا من جهة، وأن يعمل على إثبات نجاعة إجراءاته من جهة أخرى. بينما "النجاح" في هذه المواجهة بالنسبة لطهران، يتلخّص في البقاء على قيد الحياة، أو بمعنى أدقّ، الاستمرار في إثبات فعاليّة النظام، وسيطرته في الداخل الإيراني.

استقدام راند بول يأتي فقط في سياق تنويع الأصوات التي تتوجه بها الولايات المتحدة إلى إيران

ما يبدو أنّها حقيقة، حتى الآن، تفيد بأنّ وتيرة التصعيد الأمريكي تراجعت مؤخراً؛ فقد جاءت الإجراءات الأمريكية الأخيرة ضد إيران مترددة، وقليلة التأثير. وكان من اللافت أن تتراجع واشنطن عن فرض عقوبات على وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، سبق أن أعلنت واشنطن عنها، بدعوى إبقاء أبواب الدبلوماسية مفتوحة أمام الحلول السياسية.

وفي إطار مواصلة الضغوط على إيران ووكلائها الإقليميين، أدرجت الولايات المتحدة الأمريكية أسماء نائبَيْن لبنانيين، ومسؤول أمني في "حزب الله" على لائحة العقوبات الأمريكية. وأصدرت الأرجنتين قراراً باعتبار "حزب الله" جماعة إرهابية، وهو ما قيل بأنّه جاء استجابةً لطلب أمريكي.

اقرأ أيضاً: تركيا.. لماذا أصبحت مقصد المستثمرين الإيرانيين؟
وردّاً على احتجاز طهران عدداً من ناقلات النفط العابرة من مضيق هرمز، أعلنت واشنطن عن عقد مؤتمر دولي حول أمن الملاحة في البحرين، ودعت إلى إطلاق برنامج (الحارس) لحماية الملاحة الدولية. وأُعلن أيضاً عن نشر مزيد من القوات الأمريكية في المملكة العربية السعودية. والحقيقة أنّه لا يمكن النظر إلى مجمل هذه الإجراءات في إطار التصعيد المقابل، بل الواضح بأنّ واشنطن تسعى فقط إلى الحفاظ على الزخم.

اقرأ أيضاً: إيران تستبق اجتماع الدول الموقعة على الاتفاق النووي بهذه الإجراءات

ومن جهة أخرى، ظهرت الساحة السورية، وكأنّها المكان المفضل عند الأمريكيين والإسرائيليين لتوجيه الرسائل القاسية إلى إيران طوال عدة شهور ماضية. ولم يمنع الاتفاق الثلاثي (الأمريكي-الروسي-الإسرائيلي) الذي حصل في القدس المحتلة، إسرائيل من مواصلة استهداف القوات الإيرانية والقوات الموالية لها، لكنّه، على الأغلب، حدَّد نطاقاً جغرافيّاً لها. ويبدو أنّ طهران تحققت تماماً من عدم صوابية الاعتماد على موسكو، فيما يتعلق بمجابهة الاشتراطات الأمنية الإسرائيلية المُتطلِّبة جدّاً. لكنّ رهانات طهران على حلفائها في سوريا ما تزال مُبرَّرة؛ فلا يوجد ما يفيد بتغيير يُذكَر في موقف النظام السوري من العلاقة القوية مع طهران.

لعلّ الخيار الوحيد الذي يمكنه منح طهران تكافُؤاً إستراتيجيّاً معقولاً مع واشنطن هو امتلاك سلاح نووي

وفي واشنطن، جاء ظهور السيناتور، راند بول، المعارض البارز للمواجهة العسكرية مع طهران على مسرح الأحداث، مؤشراً على رغبة أمريكية بإبقاء الأبواب مفتوحة أمام الحوار مع طهران. وكان من اللافت أن يقول ترامب إنّه "يستمع إلى بول عندما يتحدث عن إيران". وبعيداً عن المبالغات الإعلامية الإيرانية التي تصف الحدث بأنّه يُنبئ عن تغيير مهم في سياسة واشنطن تجاه إيران، فإنّ استقدام راند بول يأتي فقط في سياق تنويع الأصوات التي تتوجه بها الولايات المتحدة إلى إيران.

ولعلّ أحد أبرز الاستنتاجات الرئيسة في المواجهة الحالية بين إيران والمجتمع الدولي، هو استمرار تراجُع الدور الأوروبي على المستوى العالمي، والذي يترافق، للأسف، مع تراجعٍ أكبر لِدَوْر المنظمات الأممية بشكل عام، ومجلس الأمن الدولي بشكل خاص. وعلى الرغم من الانخراط الأوروبي النشط في المسألة الإيرانية، لكنّ واقع الحال يقول إنّ أوروبا في حسابات اللاعبَيْن الرئيسَيْن في هذه المواجهة، وهما أمريكا وإيران، باتت أقل أهمية بكثير؛ فالولايات المتّحدة لم تُعر اهتماماً للتحذيرات الأوروبية بشأن الخروج من الاتفاق النووي، والاعتراضات الأوروبية على إعادة فرض العقوبات، معتمدةً في ذلك على انصياع الشركات الأوروبية. وإيران كذلك تجاهلت التحذيرات الأوروبية بشأن التخصيب، وإجراءات الخروج الجزئي من الاتفاق النووي، وجاءت حادثة احتجاز الناقلة البريطانية لتؤكد أنّ طهران تلمّست بالفعل، تراجُع قوّة وتأثير أوروبا في المسرح الدولي.

اقرأ أيضاً: ازدواجية التصريحات الإيرانية
وبينما يبدو، ظاهريّاً على الأقل، بأنّ روسيا تتجه إلى شكل من أشكال الحياد الإيجابي في هذه المواجهة، بات من الواضح أنّ اللاعب "الغائب-الحاضر"، والأكثر أهمية في هذه المواجهة بالنسبة لطرفَيْها الرئيسَيْن، هو الصين الشعبية. ولذلك فإنّ أنظار العالم باتت تتطلع لمعرفة ما ستتخذه بيجين من خطوات مستقبلية بشأن المسألة الإيرانية. وعلى الرغم من محدودية الخيارات الصينية في حماية إيران من حملة "الضغوط القصوى" الأمريكية حاليّاً، لكنّ المؤكد أنّ مروحة الخيارات الصينية ستتزايد مع الوقت، في حال تمكّنت إيران من الصمود لفترات طويلة في وجه العقوبات الأمريكية. ولذلك بات من المهم بالنسبة لمختلف دول المنطقة أن تقوم باستكشاف الموقف الصيني من هذه المواجهة، والعمل على التأثير فيه، بما يحفظ مصالح هذه الدول.

كلما صعّدت واشنطن حملة الضغوط على طهران يواصل الحرس الثوري محاولاته لزعزعة استقرار سوق النفط العالمي

تحاول إيران من خلال الأحداث الأخيرة الإيحاء بأنّها ليست خائفة، بل على العكس، فهي تريد أن تظهر وكأنّها تبادر إلى التصعيد. فيما يشير واقع الحال إلى أنّها تمارس شيئاً أشبه بالهروب إلى الأمام. وهي تنجح من خلال رسائل التحدي هذه في تعزيز حُجَّة دُعاة مواصلة الضغوط على إيران في الولايات المتحدة.
هناك الكثير من السراب الزائف في هذه الحلبة؛ إذ تبدو حسابات الإيرانيين التكتيكية، فيما يتعلق بقياس ردود الفعل الأمريكية والغربية المتوقعة، حتى الآن، وكأنّها دقيقة إلى حدٍّ كبير. وتبدو الأخطاء قليلة جداً في العمليات الميدانية التي نفذها الحرس الثوري في الخليج العربي وبحر عُمان أيضاً. وبطبيعة الحال فإنّ أي تصعيد إيراني يمرّ من دون ردّ غربي، لا شك أنه يُعزّز سيطرة النظام داخلياً، ويقوّي مكانة إيران كلاعب إقليمي، تستطيع قوى دولية وازنة مثل روسيا والصين المراهنة عليه. وهذا مما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في تقييم حاصل المواجهة. لكنّ حسابات الإيرانيين الإستراتيجية تبدو مرتبكة إلى حدّ كبير، خلافاً لحساباتهم التكتيكية؛ فطهران لا تمتلك خطة بديلة عن سياسة "الصبر الإستراتيجي" التي تنتهجها، والتي تعرف جيداً بأنّها ستنتهي بانهيار اقتصادي شامل إذا قوبلت بإصرار أمريكي.

اقرأ أيضاً: صراع طائفي مذهبي في نيجيريا.. ما علاقة إيران؟!

ولعلّ الخيار الوحيد الذي يمكنه منح طهران "تكافُؤاً إستراتيجيّاً" معقولاً مع واشنطن هو امتلاك سلاح نووي. لكنّ هذا الخيار يُعدُّ في الظروف الحالية أشبه بمحاولة انتحار؛ لأنه سيقود حتماً إلى إجماع دولي كامل ضدّ إيران، كما أنّ آلة الردع الأمريكية-الإسرائيلية حاضرة، ومُطّلعة على البرنامج النووي الإيراني جيداً، وتُراقب بدقة متناهية كل تطور يجري فيه. وهي تمتلك يداً طائلة، ولن تحتاج إلى الكثير من المبررات للضرب بقوة، في حال ظهر بالفعل ما يشير إلى اقتراب إيران من إنتاج قنبلة نووية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية