إيران وعبء الفصائل العراقية

إيران وعبء الفصائل العراقية


19/04/2020

حسن فحص

عند قراءة الحدث العراقي الذي تتسارع تطوراته السياسية بشكل لافت، وما انتهت اليه من اخراج المرشح لرئاسة الوزراء عدنان الزرفي بوحي هبط في ساعة حاسمة واعتماد خيار المرشح الاشكالي – شيعيا – مصطفى الكاظمي ليكون بدلا منه وله في عملية تشكيل الحكومة الجديدة المنتظرة، يمكن ومن باب البرغماتية المحضة، ان نقف وقفة شفقة على حال اللاعب الايراني الذي اضطر ان يستخدم الجزء الاكبر مما تبقى له من رصيد تأثير على الساحة العراقية ليصل الى هذه النتيجة واعادة تصويب المسارات بما يخدم اهدافه في عملية الصراع المحتدمة بينه وبين الادارة الامريكية.

هذه القراءة لا تحاول من قريب او بعيد الانحياز لواحد من طرفي الصراع، وانما قد تحمل كما كبيرا من الانحيار والميل للعراق واهله، مصدرها محبة او تعاطف او شراكة في الهم والمصير والمسار لا تخالطها مصلحة او فائدة. والسبب في الاشفاق على حال اللاعب الايراني يعود الى انه يتعرض لعملية استنزاف كبير لمصادر قوته، وان المستنزف ليس سوى القوى والفصائل الموالية له او المحسوبة عليه وعلى معسكره، والتي من المفترض بها ان تكون رافدا وداعما له في مسار وعملية بسط نفوذه وتكريس وترسيخ سيطرته على هذه الساحة.

مما لا شك فيه ان مراكز الابحاث الايرانية، خاصة تلك التابعة لمؤسسة حرس الثورة، عكفت مبكرا على دراسة المجتمع العراقي وتركيبته البشرية والحضارية وتوزيع انتماءاته الحضرية والبدوية، ولم تترك شاردة او واردة الا وتوقفت عندها في تشريح هذا المجتمع، معتمدة على تراكم خبرات ودراسات أسس لها علم الانثروبولوجيا والمدونات البريطانية التي تغلغل مندوبوها الساميون وموظفو اداراتها في نسيج هذا المجتمع ورصدوا كل تفاصيله وتراكبيه ومكوناته الفكرية والاجتماعية والثقافية والدينية. وقد زاد من اهمية هذا التوجه تطورات الحرب العراقية الايرانية ووجود اعداد كبيرة من العراقيين الفارين او المبعدين في ايران وما يمثلونه من تنوعات التركيبة العراقية بكل مستوياتها وميولها ونوازعها.

ويبدو ان مسار التراكم الذي راهنت عليه طهران في عملية التأسيس لدورها ونفوذها على الساحة العراقية من خلال القوى والاحزاب المقربة منها او الموالية لها او المتحالفة معها، قد اصطدم بأزمة عدم قدرة هذه الجماعات على فهم او التقاط الاشارات الكامنة وراء المواقف الايرانية في ما يعني التمدد الاقليمية او الصراع مع الولايات المتحدة الامريكية، ولعل التخبط الذي وقعت فيه هذه الفصائل في التعامل مع ارتفاع اسهم خيار الكاظمي لتشكيل الحكومة بعد تلاشي الامال بامكانية ابقاء عادل عبدالمهدي في موقفه، يكشف حجم الازمة الايرانية.

ففي الوقت الذي ذهبت طهران لخيار التصعيد المدروس مع واشنطن على خلفية اغتيال الجنرال قاسم سليماني، وجدت هذه الفصائل فرصتها لتوظيف ذلك في تصفية حساباتها الداخلية، بغض النظر عن كونها تشكل احد ابرز الاهداف الامريكية سياسيا لجهة العمل على الحد من تأثيرها على الدولة ومؤسساتها والعملية السياسية عامة، وصولا الى تحجيم دورها. فحولت هذه الفصائل موقفها المعتمد على الموقف الايراني بالانتقام لمقتل سليماني الى منصة للانطلاق نحو الامساك بمفاتيح تشكيل الحكومة باعتبارها الجهة التي تسمي المكلف او توافق عليه، ولم يسلم الكاظمي من هذه التصفية عندما وجهت له تهمة المساعدة في عملية الاغتيال. الا انها سرعان ما وجدت نفسها في ازمة مصداقية عندما انتقلت من التخوين والرفض الى الموافقة وتسهيل التكليف والتأليف، الا ان هذا التغيير لم يأت نتيجة قناعة او براغماتية مارستها هذه الفصائل، بل نتيجة التزام بتوجيهات عليا هبطت عليها وحياً وأمراً من طهران التي وجدت في عملية الدفع بالكاظمي الى الواجهة على الرغم من تحفظاتها عليه أهون الشرين مقابل السماح للإدارة الامريكية بتسهيل وصول الزرفي.

ويمكن القول ان موقف الفصائل من عملية تكليف وتشكيل الحكومة يخضع لعاملين اساسيين، الاول الجانب المحاصصاتي وحجم التمثيل داخل مؤسسة الحكومة والدولة الذي شكل ميزان القبول والرفض باتفاق جميع الفصائل التي  سبق ان وضعت شروطا على اي مرشح اتفقت على تسميته ما قبل الكاظمي والزرفي، اما العامل الثاني وجودي لدى جزء من هذه الفصائل التي تعاملت مع التكليف، وخصوصا الكاظمي، من منطلق عقائدي بعيدا عن الحسابات السياسية والمصلحية، وقد يكون ذلك عن غير قناعة وانما انسجاما مع الشعارات التي ترفعها وتتبناها.

هذه التطورات والسرعة في تبديل المواقف والتردد بين الرفض والقبول، يكشف ان الفصائل العراقية مازالت عاجزة عن فهم، او مقصرة عن مجارات، المستويات البراغماتية التي يعمل بها العقل الايراني، اي انها مازالت غير قادرة على التمييز بين التكتيكي والاستراتيجي في المواقف الايرانية في تعاملها مع التطورات التي تشهدها الساحتان العراقية والاقليمية، خصوصا في علاقتها مع غريمها الحميم الادارة الامريكية.


الا ان العبء الاساس الذي تواجهه القيادة الايرانية في التعامل مع فصائل العراقية الموالية لها تكمن في تركيبة الشخصية العراقية التي عبر عنها عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي بشكل دقيق عندما وصفها باعتبارها "شخصية ازدواجية تحمل قيماً متناقضة " مضيفا في تحليل هذه الشخصية بالقول ان " العراقي سامحه الله اكثر من غيره هياما بالمثل العليا والدعوة اليها في خطاباته وكتاباته، ولكنه في الوقت نفسه من اكثر الناس انحرافا عن هذه المثل في واقع حياته... وانه اقل الناس تمسكا بالدين واكثرهم انغماساً في النزاع بين المذاهب الدينية، فتراه ملحداً من ناحية وطائفياً من ناحية اخرى"، ويخلص الوردي الى مفهوم يؤكده بان العراقي " ليس منافقاً او مرائياً كما يحب البعض ان يسميه بذلك، بل هو في الواقع ذو شخصيتين، وهو اذ يعمل بإحدى شخصيتيه ينسى ما فعل آنفا بالشخصية الاخرى، فهو إذ يدعو إلى المثل العليا أو المباديء السامية، مخلّص في ما يقول، جاد في ما يدّعي، أما اذا بدر منه بعدئذٍ عكس ذلك، فمردّه إلى ظهور نفس أخرى فيه لا تدري ماذا قالت النفس الأولى وماذا فَعَلتْ".

وبناءً على هذه القراءة للوردي يمكن فهم جدلية الازمة الايراني في التعامل مع حلفائها من الفصائل والاحزاب العراقية، التي مازالت عاجزة ايضا عن التمييز بين ما هو ديني وما هو ايديولوجي في تعاملها مع طهران ونظامها، ففي جانب من ولائها لايران ترى ان الاطاعة والتبعية للرؤية السياسية الايرانية تدخل في صلب البعد الديني من منطلق عقائدي يرى ان "الاسلام دين عبادته سياسة وسياسته عبادة" وجرى ترسيخه على مدى العقود الماضية. ومن جهة اخرى تمارس هذه الفصائل اعلى مستويات المصلحية الضيقة التي لا تتسع للايراني ولا حتى لمفهوم المواطنة والوطنية، بل تستهدف تحقيق المكاسب على حساب البلاد والعباد والدين والعقيدة والتحالفات التي من المفترض ان تكون استراتيجية، وهنا يكمن العبء الايراني الذي بات مجبرا على التدخل المباشر لناحية التخفيف من حدة الحضور العقائدي في تسيير العملية السياسية وايضا من اجل لجم غلواء المصالح والمصادرة وما فيهما من أثمان تدفعها طهران على طريق الحفاظ على مواقعها ونفوذها وسيطرتها.

عن "المدن"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية