احتفاءً بمنحنيات النساء ممتلئات القوام

المرأة

احتفاءً بمنحنيات النساء ممتلئات القوام


06/09/2018

"أهدي هذا لكل امرأة شعرت أنها أقل من المستوى الكافي. أهدي هذا لكل شخص جعلني أشعر بالسوء تجاه نفسي، لكل شخص استخدم وزني كوسيلة ليكسرني".

كانت هذه كلمات "مريم نزار" التي تصدرت صورتها إلى جوار "ماري بارمكي، وماكرينا مجلي"، غلاف مجلة What Women Want أو "ماذا تريد النساء"، لعدد شهر  آب (أغسطس) الماضي، احتفاءً بالنساء ممتلئات القوام، اللاتي يجدن تحديات شخصية واجتماعية في تقبل المجتمع لهنّ والتي بدورها تنعكس على تقلبهن لذواتهنّ.

تفيض كلمات مريم بمرارة تجسد حالة العديد من النساء في العالم العربي، اللاتي أصبح جمالهن تحت تصنيف الوزن المثالي والشكل المثالي وكل المعايير الرأسمالية التي وضعتها آليات السوق كمواصفات للسلعة المثالية، وهو ما يعيدنا بدوره إلى الحفر في تاريخ هذا الصراع الذي تعيشه النساء كل يوم مع أنفسهنّ أمام المرآة، والتمعن في النظرة التاريخية للجسد الأنثوي ومآلاته الحاضرة في عالمنا اليوم.

غلاف مجلة What Women Want أو "ماذا تريد النساء"

منحنيات النساء والتطور

لم ينشغل الإنسان البدائي بالتجمل، ولم يكن يعرف المرآة أو أدوات التجميل والنظافة المستحدثة، كل ما يهمّه أن يجد طعام يومه ويخرج للصيد أو لالتقاط الثمار ليطعم أطفاله وامرأته التي بدورها قائمة على رعاية صغارها. ويخبرنا عالم الأحياء الأمريكي، ديفيد بينبريدج، في مقال له نشرته صحيفة "ديلي ميل"، أنّ بدانة النساء ومنحنيات أجسادهنّ كانت المصدر الرئيسي لتعزيز فرص بقاء الإنسان، فبينما يخرج الرجل للصيد وينحل جسده إثر صراعه مع الطبيعة، عزز التطور أجساد النساء بخاصية الاحتفاظ بالدهون، وبالتالي امتلاء أجسادهن فيصبحنّ أكثر صموداً أمام المجاعات من الرجال، وتتحسن قدرتهنّ على تغذية الصغار، لهذا نجد العديد من الأبحاث النفسية والاجتماعية تؤيد فكرة انجذاب الرجل للأنثى ذات المنحنيات، وتفضيلها عن الأنثى النحيفة، وتلك أحد الأفكار التطورية التي ترسخت في ذهن الرجال، حيث مثلت له الأنثى الممتلئة رمزاً للخصوبة والجمال، وظلت تلك الفكرة عالقة في ذهن الرجال كصفة تطورية حتى بدايات القرن العشرين، التي بقيت فيها منحنيات أجساد النساء سر جذب الذكر إليها فهي تعطي إشارة إلى دماغه بأنّ تلك المرأة تستطيع إنجاب أطفال أصحاء.

أنتوني ليتل: بفضل بدانة النساء نجت البشرية من خطر الانقراض

وبالنظر إلى شق آخر من التطور، فقد كشف بحث نشرته مجلة Nature  عن اضطرابات الأكل لدى النساء، والتي يصاب بها حوالي 90% من السيدات حول العالم في ثقافات مختلفة، بأنها لم تصنّف كمرض، بل هي من البقايا التطورية لدى النساء، ففي فترات الرخاء التي عاش فيها الإنسان الأول، التهمت النساء المزيد من الطعام، لتخزينه بداخل أجسادهنّ حتى يستطعن الصمود لأطول فترة ممكنة أمام موجات الجفاف، وأحداث المجاعات التي غالباً ما كان معظم ضحاياها من الرجال.

اقرأ أيضاً: المرأة في خطاب اللامساواة: العفة القهرية وعنف الفقهاء

ويضيف عالم الوراثة الأمريكي أنتوني ليتل أنّه بفضل بدانة النساء نجت البشرية من خطر الانقراض، فقد حافظت تلك المنحنيات على غذاء الصغار، وحفظ النسل من قوى الطبيعة التي لم يروضها البشر بعد. وبالنظر إلى الحضارات القديمة تحديداً فيما يعرف أنثربولوجياً "المجتمعات الأمومية"، تجسدت الآلهة الأنثى على شكل دمى وتماثيل لامرأة ممتلئة الصدر والفخذين، عرفت باسم الدمى العشتارية، وهي أكثر الدمى الأنثوية شهرة في التاريخ الأنثربولوجي للحضارات الشرقية القديمة، حيث عشتار آلهة الحب والخصوبة، والتي تحمل مهام إضافية أوقات النزاعات فتصبح آلهة الحرب والحكمة، وهكذا الإنسان القديم الذي عاش في رحاب الجسد الأنثوي الذي كان رمزاً للحب والخير وسر الحياة.

بعض الحضارات القديمة جسّدت الآلهة الأنثى على شكل دمى وتماثيل لامرأة ممتلئة

أنثربولوجيا الجسد والحداثة

في كتابه "تاريخ الجمال" يسرد عالم النفس والمؤرخ الفرنسي جورج فيغاريلو، البدايات الأولى للاهتمام بالجسد الأنثوي في عصر النهضة الأوروبية؛ حيث حلّت فينوس محل العذراء في فن التصوير النهضوي، واحتلت المرأة منذ القرن السادس عشر الصدارة في اللوحات المدروسة، وأشهر الأمثلة على  ذلك كانت اللوحة المبهرة للسيدة جان داراغون (Jeanne d`Aragon )؛ حيث أراد الملك فرانسوا الأول الحصول على صورتها، باعتبارها رائعة الجمال، وكما يتبّين من لوحتها فقد كانت نموذج المرأة المثالية ممتلئة الوجه والصدر، وأصبحت تلك اللوحة الشهيرة مصدر التأليه وتمجيد الشعراء وأيقونة الجمال الأنثوي في عصرها؛ حيث ركزّت لوحات تلك الحقبة على رصد النصف العلوي من النساء ذات الوجوه الناضرة والصدور الممتلئة، والتركيز على جمال العين التي اعتبرت رمز الإشعاع والنور وانعكاساً حقيقياً لمقدار ما لدى الأنثى من جمال.

العديد من الأبحاث النفسية والاجتماعية تؤيد فكرة انجذاب الرجل للأنثى ذات المنحنيات وتفضيلها عن الأنثى النحيفة

مفهوم الجمال الحديث استحوذت عليه المرأة وحدها، ولم يشهد عصر النهضة الأوروبية نموذج الجمال الرجالي، كما في العصور السالفة، والتي تميّزت بتجسيد جمال أجساد الرجال، فنحتت التماثيل الإغريقية بهيئات رجال مفتولي العضلات، شديدي القوة، أما التماثيل الأنثوية فقد عكست منحنيات جسد المرأة وتمايلاتها الطبيعية، والتي تعكس الجمال الفطري للمرأة، في نظر القدماء، فيما يتحقق جمال الرجل المنشود فقط بالعضلات المفتولة، ما أكد أنّ المرأة كانت تجسيد الجمال الحقيقي لدى الحضارات القديمة.

اقرأ أيضاً: يوم المرأة في بيت الطاعة!

اعتبر فنانو عصر النهضة أنّ الأنثى مبعث الجمال في مختلف أشكالها، ففي القرن السابع عشر، عكست اللوحات (قامات النساء) كأنساق جمالية جديدة، فقامة ولية العرش البريطاني طويلة ومستديرة وباذخة ومفصلة بإحكام، وقامة ملكة إسبانيا محررة وممشوقة بأطراف طويلة وقامة دقيقة للغاية وضامرة في أسفلها، وقامة الآنسة دو بوسي ممشوقة ومستقيمة وذات أبعاد متناسقة، كذلك تغيرت النظريات الفيزيائية، فلم تعتبر (النظر أو العين) فانوساً يبعث النار بل عُدّ عاطفة ووداً إنسانياً ونوراً، وزالت من القواميس الأدبية والفلسفية التمثلات والأوهام، وأصبح النظام الديكارتي قائماً على علاقة الجمال الأنثوي بعالم موضوعي.

يتم تنظيم مسابقات لملكة جمال البدينات، كأحد السبل لمواجهة تنميط الجمال

أنثى العصر الحديث

في سابقة هي الأولى من نوعها، تم إيقاف ثماني مذيعات مصريات عن عملهن في اتحاد الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) لحين خفض أوزانهن، واللاتي أقمن دعوة لمقاضاة الإدارة التي استخدمت العنف لسبب غير مبرر؛ مهنياً أو أخلاقياً، ولا ترى أي منهن أنها غير طبيعية، فكلهن سيدات على شاكلة الكثيرات من المصريات، حسبما صرحن به لجريدة "اليوم السابع" المصرية. ونددت العديد من الحقوقيات بتلك الواقعة باعتبارها أحد أنواع العنف الواقع على المرأة، وضجت الصحف العربية بالخبر، إلّا أنّ ما صرحت به المذيعات كونهنّ الشكل المعتاد والسائد للنساء في مصر، يحمل رمزية العنف ضد كل نساء المجتمع، باعتبار أنّ الدولة قد وضعت معايير خاصة تحدد شكل المرأة المقبول اجتماعياً، وهو ما يُحيلنا بدوره إلى تاريخ تسليع جسد الأنثى الذي بدأ منتصف القرن العشرين؛ حيث المجتمع الصناعي الذي تحدده آليات السوق، ويصبح كل شيء قابلاً للتسليع، وقد بدأ هذا النمط عقب الحرب العالمية الثانية في أوروبا وانتقل بدوره إلى العالم العربي، ورسخ الإعلام تلك الصورة عن طريق الإعلانات والملصقات وجمال الفنانات غير الحقيقي، الذي يظهر للجمهور عبر شاشات خادعة تعمل على إخفاء طبيعة الجسد الأنثوي التي أصبحت (ديفوهات) في مجتمعاتنا المعاصرة.

اقرأ أيضاً: المرأة.. يوم واحد يزاحم معاناة مستمرة

المغنية الأمريكية سيارا هاريس، تصدرت صورتها غلاف مجلة "فايب" عام 2008، ونظراً لتغيير المجلة في صورتها عن طريق برامج الفوتوشوب، تم إصلاح الصورة بحيث تخفي أية تعرجات جسدية، لا تطابق مواصفات جماليات السوق المطروحة عالمياً، وهو ما اعترضت بشأنه المغنية؛ حيث أوضحت في تصريح لها عبر مجلة "فوغ"، أنّها غير راضية عما فعلته "فايب" في صورتها، وأنّها أرادت الاحتفاء بطبيعتها الجسدية كما هي وأرادت إهداءها لكل النساء، حتى يعلمن أنّ أجسادهن جميلة. يمكن إرجاع بدايات الأمر إلى ما ظهر في أمريكا في القرن الثامن عشر وهو نظام جراهام الغذائي الذي حث جميع النساء على استخدام حمية غذائية تقشفية خالية من التوابل والمنشطات والأطعمة التي تؤدي إلى عسر الهضم، وتم الترويج لها حتى أصبحت نمطاً غذائياً سائداً قبل سيادة نظام وليام بانتينغ الذي عرف من علماء الاجتماع بأنه هوس مضاد للبدانة الصحية، وهو تبني نظام غذائي غني بالبروتينات، وفي بدايات القرن العشرين في أمريكا بدأ نظام حساب السعرات الحرارية كأساس لحياة تتبنى النحافة وتعتبر البدانة الصحية أمراً مثيراً للاشمئزاز.

الإباحية وإعلام ما بعد الحداثة

على امتداد النصف الأخير من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، بدأت الفضائيات في غزو عالمنا، وشاركها في ذلك الإنترنت الذي اعتبر وسيلة لنيل كل ما هو ممنوع، وعملت آليات الانفتاح الاقتصادي على ترسيخ ثقافة الإعلانات كجزء أساسي من عملية الترويج السلعي التي تتبناها النظم النيوليبرالية، فأصبحت الإعلانات تتصدر شاشات التلفاز، وملصقات الشوارع، ولا تخلو من وجود فتاة فاتنة بمساحيق التجميل للترويج لأية سلعة كانت، باعتبار أنّ صورة تلك الأنثى هي الأكثر جذباً للمنتج من السلعة نفسها، فترسخّت عبر السنين صور في المخيلة للنموذج الذي يجب أن تصبح عليه النساء، والقالب الجمالي الذي ينتفي في حالة الشذوذ عنه، واتسعت المخيلة وعبرت حدوداً أكبر بعد اكتساح المواقع الإباحية عبر فضاءات الإنترنت ليصبح الجنس ذاته سلعة، وبالتالي فإنّ هناك نموذجاً جديداً للجنس المثالي من قبل امرأة مثالية، تكرسه تلك الصور في ذهن المتفرج.

شكل العلاقات بين الرجل والمرأة تغير بفعل تأثير المواد الإباحية والإعلامية على رضا الرجال والنساء عن أنفسهن

وقد أجرى الباحثان الأمريكيان في علم النفس "إيرين هاتون وماري نيل تراوتنر" بحثاً استغرق سنوات، حول التغيّر في شكل العلاقات بين الجنسين على مدار الأربعين عاماً الآخيرة؛ أي منذ منتصف السبعينيات إلى عام 2016. النتائج التي نشرتها شبكة الـBBC  أوضحت بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ شكل العلاقات بين الرجل والمرأة قد تغير بفعل تأثير المواد الإباحية والإعلامية على رضا الرجال والنساء عن أنفسهن، فمن جهة النساء زادت مشاكل اضطرابات الطعام حرصاً على الوصول للجسم المثالي، وزادت نسبة إخفاق الرجال في عملية الرضا الجنسي بين الشريكين، وهو بلا شك نتيجة التوقعات المغلوطة والعيش في الفضاء الإباحي الذي يخلق فانتازيا من نوع درامي في أذهان الرجال والنساء، وإذا تمكنّت الجماهير من السيطرة على استهلاك المواد الإباحيّة،  فبلا شك سيتعرضون للمواد الإعلامية التي لا تقل خطورة في التأثير على الجنسين معاً حول أنفسهن والشريك.

كتاب "تاريخ الجمال من عصر النهضة الأوروبية إلى أيامنا"

نماذج من المقاومة النسائية

في سياق العنف الموجه ضد النساء الطبيعيات، والاستمرار في محاولات تنميطهنّ عن طريق عمليات التجميل ونحت الجسد، وترويج المنتجات التجميلية للجسد والوجه، كأطر أساسية لعملية رسملة الطبيعة الأنثوية، قامت موجات احتجاجية جمالية من النساء الغربيّات، فظهرت في القرن الواحد والعشرين عارضات الأزياء البدينات، وكذلك تم إنتاج خطوط أزياء تناسب جميع النساء من كل الأحجام، وقد أخذت البرازيل المبادرة في هذا الصدد، وبدأت بعقد مسابقة ملكة جمال البدينات منذ عام 2008، وتبعتها العديد من دول العالم، وبالنظر إلى الوطن العربي الذي تبنى ذات النهج لاحقاً، بدأت كلٌ من تونس ومصر والمغرب ولبنان في تخصيص خطوط أزياء تناسب النساء البدينات، وتنظيم مسابقات لملكة جمال البدينات، كأحد السبل لمواجهة هذا النوع من تنميط الجمال الشكلي.

اقرأ أيضاً: المرأة العاملة والمساواة الزائفة

وفي عام 2013 أجرت المصورة الكندية إيميلي لورين مشروعاً فوتوغرافياً يضم صوراً لـ40 امرأة  من أحجام وجنسيات مختلفة، دون إجراء أية تعديلات على الصور، حيث حاولت من خلال مشروعها التركيز على جمال أجساد النساء كما هي والتباهي بها وحث النساء على عقد مصالحة مع أية اختلافات جسدية عن النمط السائد، كما حرصت على توضيح كيف استغلت الرأسمالية أجساد النساء وعدم رضاهنّ عن طبيعتهن في الترويج لمنتجات لا تجدي نفعاً من أجل حصد المزيد من الربح، على حساب الملايين من نساء العالم. وبالرغم من أنّ تلك التجارب لم تؤتي بثمارها بعد، والتي تعيد صياغة وعي النساء بأجسادهنّ واستغلالها من جانب المجتمع، إلّا أنّها خطوات على الطريق تنبؤ بتعالي صيحات النساء اللائي يتعرضنّ لعنف نفسي واجتماعي لا لشيء إلّا لطبيعتهن التي حافظت على بقاء الجنس البشري، وصمدت أمام قسوة الطبيعة.

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية