استثمار في حقل ألغام.. كيف تسعى تركيا لتعزيز نفوذها في لبنان؟

استثمار في حقل ألغام.. كيف تسعى تركيا لتعزيز نفوذها في لبنان؟


10/08/2020

إسلام أبو العز

بدا من الواضح أن هناك تعمد لدى أنقرة  في تسعير صراعات المنطقة، لاعتبارات شديدة التعقيد والتركيب تجمع ما بين الداخل والخارج، وخاصة لحاجة أردوغان لإدارة مشاكله الداخلية اقتصادياً وسياسياً، وتعويض خسارة 10 سنوات من الحرب في سوريا دون الوصول لحد أدنى يجمع أهداف أمنية واقتصادية وسياسية لمشروعه الصدامي الآخذ في التمايز حتى عن أفكار “العثمانية الجديدة” في طورها المهادن منذ مطلع الألفية؛ والتي تحورت في طورها الأردوغاني إلى الصدام والارتهان والتهديد واللعب على حافة الحرب كمنهجية لا تستشعر خطراً من مد نفوذها إلى ساحة ملتهبة وخطرة مثل لبنان، وتوظيف هذا النفوذ على نحو متعدد الاستخدام على مستوى أكثر من ملف على غرار ما يحدث في طرابلس الغرب بليبيا.

وبالإشارة إلى ذلك، يستعرض هذا التقدير موقع لبنان على خارطة الطموحات التوسعية الأردوغانية، التي تتمايز عن مرحلة “العثمانية الجديدة” في تجاوزها للتوسع الجغرافي والإثني والايدلوجي، واحتلال الفراغ الناتج عن الانكماش الأميركي في المنطقة عبر وكلاء محليين إلى حدود الصدام المباشر، والاستثمار في بؤر صراع مستدامة وخلق موطئ قدم في ساحة ملغومة مثل الساحة اللبنانية تنظر إليها أنقرة على أنها تعويض عن خسائرها في سوريا، وكفرصة لخلق معادلات سياسية واقتصادية في شرق المتوسط والمنطقة بشكل عام.


التدخل في لبنان كدلالة على توحش الأردوغانية

يشي تصاعد وتيرة الحوادث والأخبار حول نشاط تركي متزايد في لبنان خلال الأسابيع الأخيرة، بأن هناك تفعيل لمتغيرات كبيرة في استراتيجية توسع أنقرة في شرق وجنوب المتوسط لا تقف عند حد الضغط من أجل الوصول لطاولة مفاوضات كما هو الحال في ليبيا حاليا وبخصوص غاز المتوسط.

حيث يتطور النشاط التركي إلى حالة من الارتهان لتهديد مفاده فرض أجندة “الأردوغانية” بشكل مباشر على القوى الإقليمية والدولية، والقبول بأنقرة كوريث ووكيل للمصالح الأميركية ومن موقع الشريك ولو كرهاً، أو إشعال المنطقة المشتعلة أساساً ولكن على نحو أكثر شمولاً وخطورة حتى من مفاعيل توسع تركيا في العِقد الماضي في الدول اللصيقة بحدودها وتحديداً سوريا والعراق، والتي تدرجت فيها أنقرة من إدارة وتوجيه صراع أهلي عبر وكلاء محليين إلى حرب بالوكالة ثم تدخل مباشر بنمط استعماري يتلاقى مع استراتيجية الوطن الأزرق.(1)

إلا أن الحالة اللبنانية بخصوصيتها الداخلية والإقليمية لا يمكن تبرير والقبول بالتدخل فيها عبر سرديات أنقرة التقليدية التي صورت مثلاً تدخلها المباشر في شمال سوريا وشمال العراق لأهداف أمنية لم يتحقق منها شيء فعلياً، وليست أيضاً جغرافيا سياسية رخوة يمكن بسهولة النفاذ إليها عبر وكلاء محليين وإقليميين ومن ثم ترقيتها لبطاقة متعددة الاستخدامات مثلما هو الحال في ليبيا، أو عبر مكون سياسي محلي استطاع في ظرف استثنائي المشاركة في صنع القرار مثلما الحال في تونس والمغرب، وتباعاً محاصرته والإطاحة به على النمط المصري. (2)

حيث معايير وممارسات التوسع الأردوغاني تجاه لبنان يعني تصعيد يخرج حتى عن حدود الصدام التركي المتصاعد في السنوات العشر الأخيرة، والذي يأتي كملمح رئيسي لمدى ذهاب “العثمانية الجديدة” إلى خيارات صدامية ومعادلات صفرية، منبعها تجمد قدرة أنقرة تحت قيادة أردوغان من فرض نفسه كقوة اقليمية وكشريك للقوى الكبرى ووكيل إقليمي لتنفيذ مصالحها وخاصة واشنطن على ضوء المتغيرات الجيوستراتيجية التي يشهدها العالم في ظرف دقيق لم يحدث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

يتضح السابق عمليا من مسار النشاط التركي في السنوات القليلة الاخيرة في مدن الشمال اللبناني، التي تعتمد فيها انقرة على تواجدها الاقتصادي والثقافي في حواضن سُنية، وسعي لتطويره عبره تضفيره بمدينة طرابلس والتطورات السياسية الاخيرة فيها، سواء المتعلقة بالمشهد اللبناني وتحولاته الجذرية حالياً، أو المشهد الاقليمي الذي لا ينفصل عن مشهدية غاز شرق المتوسط والتي تحتل فيه ميناء طرابلس اهمية من حيث الفرصة التي توفرها جغرافية الميناء وامكانياته التي تجعل المدينة على خارطة المنافسة فيما يخص غاز شرق المتوسط.(4)

لبنان كاستثمار جاهز للأردوغانية

 إن الاهتمام التركي بلبنان منذ صعود تيار الإسلام السياسي لسدة الحكم في تركيا أوائل الألفية الجديدة، كان ضمن تفعيل استراتيجية “صفر مشكلات” التي مثلت العنوان العريض لتوجه تركيا شرقاً كبديل عن طموح الانضمام للاتحاد الأوروبي والغرب، وهو التوجه الذي أتى وقتها بسلاسة وعلى أرضية برجماتية غير صدامية وعبر القوى الإقليمية سواء في سوريا أو السعودية، ومن خلال وكلاء كل من البلدين في لبنان.

حيث اتسمت هذه المرحلة بنمو الاستثمارات الاقتصادية التركية في لبنان دون تجلي سياسي لهذه القدرة الاقتصادية التي تخطت اتساع التبادل التجاري بين البلدين لاتفاقيات تعاون متنوعة في مجالات الطاقة والسياحة والنقل البحري، وذلك كرافد لتطور العلاقات الاقتصادية بين دمشق والرياض من جهة وأنقرة من جهة أخرى. (5)

أما المرحلة التالية والتي أتخذ فيها التوجه التركي نحو المنطقة طابع صدامي عنيف بالحد الأدنى بعد 2011، فإن هذه السلاسة البرجماتية السابق ذكرها جرى تبديلها بنمط يعتمد على إثارة الاستقطاب الهوياتي والتناحر الاجتماعي وصولاً للاقتتال الأهلي ثم حرب بالوكالة فالتدخل المباشر.

 وهي المراحل التي يختصرها لبنان بسبب طبيعته البنيوية القائمة على توازن بين رعاة مكوناته الاجتماعية في المنطقة عبر اتفاق الطائف 1990، والذي اختل على مدار السنوات العشر الماضية ودخل في مرحلة إنعاش متكررة لم تفلح في تجنب الانهيار الوشيك هناك بدافع من زيادة حدة الصراع والاستقطاب الإقليمي والدولي وصفرية المعادلات الحاكمة له حالياً.

 وهو الأمر الذي مثل فرصة استثمار شبه جاهز لتمدد تركيا هناك وبشكل يتوافق مع خبرتها في التدخل في المنطقة وإثارة النزاعات، وذلك في بلد يعد بمثابة الساحة التي تتصارع فيها القوى الإقليمية على حافة الحرب بشكل مستدام، فلماذا لا يتم ترقية النفوذ الاقتصادي والخدمي التركي هناك لنفوذ سياسي يزاحم القوى الإقليمية التقليدية هناك، وخاصة مع تحلل وشيك لنظام الطائف وتقليص السعودية لغطائها السياسي والاقتصادي هناك في السنوات الخمس الأخيرة.(6)

يمكن القول أن سيادة نمط اللعب على حافة الحرب في المنطقة بشكل عام، والذي تحترفه تركيا وتحتل موقع الريادة فيه، هو ما يجعل من لبنان مفترق طرق حتمي في سيرورة صراع المحاور الإقليمية، وينقلها من مستوى حرب الوكالة إلى مستوى الصدام المباشر، وهو ما جرى تجريبه عبر وكلاء مرات عديدة في السنوات الأولى للحرب في سوريا، ومحاولة تمددها نحو لبنان عبر الجماعات الإرهابية في المناطق الحدودية المتاخمة، ومحاولة ربطها بحواضن طائفية في العمق اللبناني.(8)

 النظر إلى السابق من زاوية اعتماد الأردوغانية نمط الصدام المباشر كبديل عن وكلائها المحليين سواء جماعة الإخوان في مختلف الدول العربية ومن لف لفهم، أو عبر الجماعات الوظيفية التي تقف على يسار الجماعة، يجعل مسألة التلويح التركي بالتوسع نحو لبنان استثماراً متعدد الاستخدام يتوافق مع تفعيل أنقرة لورقة لبنان والتعجيل بتحويلها لدولة فاشلة يسهل توظيفها والضغط بها في معترك جيوسياسية شرق المتوسط المستقبلية، وذلك في حال طورت تركيا الأردوغانية من تكتيكات توسعها لمدى أوسع وأكثر مباشرة وخطورة ويتماس مع الكثير من الملفات الملغومة والقوى الإقليمية والدولية المتنافرة التي تعد الساحة اللبنانية حلبة تصادمها.

 أي أن لبنان وباختصار مُخل يمثل الاختبار الفعلي للمرحلة الثانية من التوسع التركي في المنطقة، واختبار نجاعة رفع كفاءة هذا النمط وتطوره لمرحلة تتجاوز كل سوابقه من حيث الخطورة والمتغيرات الغير محسوبة الناتجة عنه، وابقاءه رهينة تسوية بين القوى الإقليمية والدولية خاصة بشرق المتوسط كحد أدنى. (9)

وبخلاف أهمية لبنان على النحو السابق وما يزيد فيما يتعلق بالصراعات الإقليمية والدولية؛ فإن وجود هذه الشروط في بلد يعاني من تفكك إلى حد انهيار وإعادة تركيب اجتماعه وليس فقط نظامه السياسي او الاقتصادي تعد عامل جذب للنفوذ التركي على النمط الأردوغاني الذي لن يضطر في الحالة اللبنانية إلى تفكيك مؤسساتية الدولة مثل الحال في ليبيا ولا خلق استقطاب هوياتي مثلما الحال في تونس ومصر، ولا حرب وكالة عبر جماعات محلية واجنبية في دولة جوار مثل سوريا. (10)


استشراف شكل ومخاطر التدخل التركي في لبنان

 أولى ملامح التوسع الأردوغاني تجاه لبنان بمراحلها المختلفة بما فيها مرحلة الحرب في سوريا هو الاعتماد على أخطاء الأخريين، أي القوى الإقليمية التي تشتبك -بطبيعة الحال- بدرجة أو بأخرى في لبنان، وأخر وأهم هذه الأخطاء هو تحلل أتفاق الطائف عملياً دون بديل توافقي له في المستقبل، والفساد البنيوي المتجذر في الطبقة السياسية المعبرة عنه، التي بات جزء كبير منها في السنوات الأخيرة في رحلة بحث عن راعي إقليمي أو دولي يستبق انهيار منظومة الطائف في مستقبل يبدو أن الكيان اللبناني ككل منذ نشأته في القرن ال19 على وشك التحلل ليس فقط في شكله السياسي ولكن الاجتماع اللبناني كله.(11)

هذا الظرف الذاتي الخاص بلبنان يهيئ تحقق سهولة خلق موطئ قدم لقوى إقليمية جديدة من خارج معادلة الطائف للتدخل في لبنان تحت أي دعاوى ليس أهمها الدعاوى الطائفية، التي كرسها وساهم في مأسستها أتفاق الطائف وجعلها بمثابة حائط صد لأي من هذه القوى لعدم النفاذ إلى لبنان إلى عبر بوابة الطائف.(12)

 أما المرحلة الراهنة فيرتهن تطور النفوذ التركي وتسعيره هناك بالتحولات الجذرية التي يمر بها الاجتماع اللبناني وصيغة التعايش الناتجة عن اتفاق الطائف، والتي تتخطى أزمة كورونا وأثار حصار وانهيار اقتصادي خانق، وعسكرة اجتماعية تتخطى أفق الطائف والتيارات والتحالفات السياسية المتغيرة دوما والناتجة عنه لمستقبل مجهول.

 فانهيار الطائف عملياً بوتيرة متسارعة بالتوازي مع سحب الرياض لمظلتها السياسية والاقتصادية في السنوات الأخيرة لم يشكل فقط فراغاُ لأي من القوى الإقليمية الطامحة لمد نفوذها هناك وعلى رأسها أنقرة، ولكن أيضاً يتناسب مع أنماط الصراع بين محاور المنطقة والتي باتت تعتمد على تفكك الكيانات السياسية ليس لمد نفوذها فقط واتباع سياسة قضم متواصلة ليست لبنان في معزل عنها إن لم تكن في القلب منها، ولكن يأسس لاعتيادية وسيادة نمط ما دون الدولة في البلاد التي تتصارع فيها وحولها القوى الإقليمية والدولية، والتي في حالة الأردوغانية وحتى العثمانية الجديدة تكون أنقرة قطب إقليمي يتحكم في كيانات وكانتونات ما دون الدولة بنمط شراكاتي عابر للحدود.(13)

هذا الأمر يتوافق أيضاً مع الخبرة التي تمتاز بها الأردوغانية في رعاية وكيل محلي بشكل براجماتي أو وظيفي في بلد ما، سواء كان من فصائل الإسلام السياسي وعلى رأسهم جماعة الاخوان، أو الجماعات الوظيفية العابرة للإيدلوجيا؛ والتي في الحالة اللبنانية وبسبب ضعف الإخوان في لبنان وهامشية فاعليتهم مقارنة بالزعمات الطائفية والجهوية حتى في “معاقل” السُنة التاريخية في شمال البلاد، فإنهم سيشكلون مركز الثفل في التواجد التركي هناك، بشكل دقيق وعملي ومباشر يتخطى مسألة ضرورة الاشتباك مع بنية اتفاق الطائف السياسية، لنمط شركاتي شبكي يعتمد في ظل تفكك الدولة ومؤسساتها وتشظي الاجتماع الطائفي حتى، على إدارة مباشرة لمصالح أنقرة هناك -ميناء طرابلس على سبيل المثال- دون الحاجة للاستغراق في واقع لبنان شديد التعقيد والتركيب ومجهولية مستقبله.(14)

تجريب هذا النمط في لبنان يأتي كتطور ناتج عن خبرة الأردوغانية في السنوات العشر الماضية في إدارة صراعاتها العابرة للحدود عبر وكلاء محليين تحت شعارات ضخمة وفضفاضة تبتعد تدريجياً عن المصلحة الأساسية التي تشتبك من أجلها أنقرة في بلد ما، وتجد نفسها متورطة في أحمال وأعباء هذه الرعاية ومستغرقة فيها

أي أن التدخل التركي في لبنان ليس فقط مجرد عملية إزاحة وقضم بين الرعاة الإقليميين -تركيا والسعودية في هذه الحالة- وعلى أرضية أتفاق الطائف، ولكن لخلق معادلة جديدة تستوعب الطرفين ولكن بآليات وتكتيكات جديدة خارج منظومة الطائف، التي حالت دون تطوير تركيا لنفوذها الاقتصادي والثقافي والاجتماعي في بعض المناطق اللبنانية على مدار السنوات الماضية لنفوذ سياسي تتهيأ له فرصة الأن التعبير عن وجوده داخل تيارات منظومة الطائف، ولكن من باب تغييرها والثورة عليها. (15)

إزاء هذا تتحرك الأردوغانية للتوسع في لبنان في اتجاهين أساسيين مع الاخذ في الاعتبار التحولات التي تحدث في لبنان الان:

 الأول: هو انتقال ثقل التمثيل السياسي الجهوي والاجتماعي للسنة للموالين لأنقرة كبديل للسعودية وبآليات لا تختلف كثيرا عن التي مارستها وتمارسها الاخيرة من حيث الاعتماد على خطاب طائفي امام اخر وعلاقة زبائنية ورعاية قائمة على توازن اقليمي تحت سقف الطائف.

 الثاني: وهو الأقرب للواقع ويتناسب مع مسألة تحلل اتفاق الطائف والبنية السياسية المعبرة عنه وخاصة في مدن وبيئة السُنة وتحديداً مدينة طرابلس ذات الوزن الاجتماعي والسياسي ومؤخراً ذات الزخم الثوري، والذي من السهل أم تشكل أنقرة الراعي والحاضن الإقليمي لتطوره في شكل تحول سياسي خارج سياق الطائف، والأهم هو توظفيه في سياق محددات المصالح التركية الدقيقة في لبنان مثل ميناء طرابلس ذو الأهمية الجغرافية والاقتصادية على مستوى محلي –بعد حادثة ميناء بيروت– وعلى مستوى إقليمي خاص بشرق المتوسط؛ أي أنه ليس شرط أن يتم تحول كامل لبنية السُنة السياسية في طرابلس أو لبنان عموماً في اتجاه تركيا، ولكن عبر مجموعات ورموز جامعة بمثابة ظهير محلي يتنوع بين السياسي والإعلامي والأمني تشكل مرتكز يحقق نسبة لا بأس بها من أهداف أنقرة في المستقبل القريب.(16)

عن "مركز الإنذار"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية