استيراد القمع: عن الأصل الروسي للاستبداد العربي

الاستبداد

استيراد القمع: عن الأصل الروسي للاستبداد العربي


14/10/2018

لم يكن أكثر السياسيين شعوذةً يمكن أن يتصور أنّ بعض أطياف اليسار العربي صارت معجبةً بـ"القوة الخالصة" الممثلة في روسيا بوتين، في تغييبٍ لأبسط مبادئ التحليل الماركسي في تشريح السلطة السياسية في روسيا المعاصرة والطبقة التي تحكم باسمها وموقعها في العالم وغاياتها.
إنّ زمناً يعجب فيه يسارٌ ما ببوتين لهو أكبر إهانة يمكن أن يقدمها القدر لمسيرة الماركسية عبر تاريخها كله. ولن يفيد هذا السياق التحجج بأنّ الديمقراطية "خداع برجوازي"؛ فـ"أبوعلي بوتين" حسب التسمية السورية، لا يحكم باسم الطبقة العاملة، بل كممثل لأوليغاركية روسية ذات نزعة قوميّة، لكنّ لذلك الإعجاب مثيلاً في تاريخنا العربي يتعين تقصّي طبيعته وسياقه.
ولأن الظرف السياسي العربي حالياً تسوده الحروب والصراع على امتلاك وسائل القمع والثورات والإرهاب وممارسات القهر الوطنية، يكون الإغراء كبيراً لفهم الجذور التاريخية للقمع العربي ووضع اليد عليها، بدلاً من إرجاع المسألة إلى طبائع الثقافة العربية ومن ثّم تحويلها إلى شاغل ميتافيزيقي لا سبيل لتحديده ولا مواجهته.

فهم السلطة عربيّاً
في سفره المنهجي مقدمات نظرية: لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني (1972) اعتبر مهدي عامل أنّ جهاز الدولة أداة في خدمة الطبقة المسيطرة، أو التحالف الطبقي المسيطر، ومن ثّم ينحصر دوره في منع أي تغيير في علاقة السيطرة الطبقية هذه. وإذا عجزت طبقة ما عن فرض هيمنتها الطبقية على التحالف الحاكم بشكل يعجز فيها ذلك التحالف عن السيطرة على بقية الطبقات الاجتماعية يتأزم الوضع السياسي ككل وتضطر الدولة تلقائيّاً لحسم الموقف والحد من دور الأحزاب السياسية، وعندئذٍ تبرز الدكتاتورية بشكلها السافر لإنجاز ما عجزت الديمقراطية عنه: الحفاظ على السيطرة السياسيّة وإدامة تجددها بشكل طبيعي. هذا الموقف الماركسي-اللينيني كان قد نعته ألتوسير بالطرح "الوصفيّ" تجاه الدّولة، وحاول تطويره، مميزاً بين سلطة الدولة وجهاز الدولة، ثم أجهزة الدولة القمعية وأجهزة الدولة الأيديولوجية.

مهدي عامل

لكنّ الوضع العربي يختلف قليلاً، فحين وصلت البرجوازية الصغيرة (ممثلةً بالضباط) في مصر والعراق وسوريا والجزائر إلى السلطة انتفى أي دور للأحزاب السياسية، بل وعجزت هي نفسها عن تكوين حزبها الخاص المستقل عن الدولة، في ظل تضخم دور الأخيرة الذي يعوض غياب ذلك الحزب، ويعود ذلك إلى العجز البنيوي الذي تعانيه تلك الفئة التي لا تصلح نهائياً كطبقة مهيمنة، حتى ولو سيطرت على السلطة، وذلك لأنها لا تحمل نظاماً جديداً في الإنتاج الاجتماعي مغايراً لنمط الإنتاج الرأسمالي التابع للمركز الغربي.

اقرأ أيضاً: ما رأي كارل ماركس بأحوال العالم اليوم؟
وعلى هذه الخلفية النظريّة يمكن القول إنّه حتى لو أنشأت البرجوازية الصغيرة حزباً، مهما كثر عدد أعضائه وكبر حجمه وتضخمت جثته البيروقراطيّة، كان قزماً سياسيّاً يتحطم بقرار وينزوي مع أول أزمة، كما حدث مع الاتحاد الاشتراكي في مصر مع مجيء السادات، ومع حزب البعث العراقي مع حرب الخليج الأولى، والبعث السوري الذي تحطم هيكله الأجوف مع الأزمة الأخيرة، وجبهة التحرير الجزائرية التي استوعبتها الدولة من الثمانينيات.
فَهِمَ مهدي عامل بدقة أنه حين تتمكن البرجوازية الصغيرة (بواسطة جناحها في الجيش) من انتزاع السلطة تلجأ إلى تحطيم الإطار الشرعي للحكم (الدستور، تعدد الأحزاب، الانتخابات) ولكي تستمر في الحكم تجد نفسها مدفوعةً اضطراراً إلى اللجوء المستمر للقمع المباشر بهدف شل حركة المجتمع وقواه الحيّة، وعلى ضوء تحليلات عامل الثاقبة، فإنه من المستحيل اعتماد الديمقراطية نهجاً للحكم على أساسٍ من هذا الوضع.

استيراد القمع
تحت حكم ستالين، واجه الاتحاد السوفييتي اختباراً صعباً بصدد العلاقة بين التنميّة والحرية السياسيّة، فانحاز للأولى مفضلاً نهجاً استبداديّاً كـ"نتاج للضرورة الحديديّة التي لا فكاك منها لولادة وتعضيد أقلية متميزة" بتعبير تروتسكي الذي أدرك بشكل مبكر للغاية خطورة البيروقراطيّة الصاعدة ممثلةً في ستالين والتي ستحكم بالحديد والنار من أجل الحفاظ على امتيازاتها السياسيّة والماليّة.

ستالين
والستالينيّة، كما حللها إسحاق دويتشر ببراعة بالغة، كانت نتاجاً لمجتمع في مرحلة تحوّل، غير متطور، وقبل صناعي عموماً، ومنشغل في تراكم بدائي اشتراكي، أي في عملية تصنيع سريع وتحديث يتمّان تحت هيمنة الدولة على أساسٍ من الملكية العامة لوسائل الإنتاج. وانتهى دويتشر إلى الستالينيّة، كنظام حكم وأيديولوجيا، كانت تمثل كل من تخلّف بيئتها القومية والتحول القومي لتلك البيئة، لذلك كانت مندفعة في استبدال أسلوب الإنتاج الفلاحي البدائي وطريقة الحياة الروسيين العتيقة باقتصاد عصري مخطط وتعليم جماهيري على نطاق واسع، وهو ما ستحاول التجارب التحررية استلهامه عربياً لاحقاً.

إنّ زمناً يُعجب فيه يسارٌ ما ببوتين لهو أكبر إهانة يمكن أن يقدمها القدر لمسيرة الماركسية عبر تاريخها كله

فخيار ستالين الاستبدادي أثّر بعمق على تفكير كل أنظمة العالم الثالث في الخمسينيات والستينيات وفي الثمانينيات مع البعث العراقي حين تصدوا للاختبار نفسه: التنمية أم الحرية السياسية، في ظرفٍ من التخلف الشامل الذي كان على روسيا أن تواجهه في عشرينيات القرن العشرين وجعل البلاشفة يعتقدون أنه من المستحيل بناء الاشتراكية انطلاقاً من مستوى شديد الانخفاض للقوى المنتجة وللتراكم الحضاري، ولابد من حلٍ جذري لمأزق شديد الصعوبة من هذا النوع، وكانت الستالينيّة هي الحل الذي فرض نفسه بقوة الدولة.
أما البلدان العربية فقد كانت تعي تخلفها جيداً وتكافح من أجل تجاوزه، وكانت الستالينيّة وصفةً مُجرَّبة للنجاح لذلك، وإذا أخذنا في الاعتبار أنّ حكم "القبضة الحديدية" الذي طبقه ستالين قد دفع بروسيا على مسرح التاريخ العالمي كقوة عظمى، فإنّ النموذج لم يكن فقط ناجحاً ومبرراً بل كان باهراً ومغريّاً ومرضيّاً، إلى أقصى حد ممكن، لطموحات القادة العرب في احتلال مكانةٍ ما في مسرح الأبطال ذلك، فصبّت الأنظمة الجديدة نفسها في قوالب ستالينيّة مكرورة، وإن في ظروفٍ اجتماعيّة وسياسيّة مختلفة.

اقرأ أيضاً: سفر برلك.. كيف عبر الوجدان الشعبي العربي عن استبداد الأتراك؟
فمن المؤكد أن تشرب الستالينيّة وإجادة تطبيقها كانا الشرط الأساسي للفاعليّة الثوريّة في العالم الثالث أجمع في حقبة التحرر من الاستعمار وما بعدها، لكن الأكثر تأكيداً أنّ الحضور الاستعماري في البلدان العربية بكل فجاجته واستفزازه للشعور والكرامة الوطنيّين وتهاون الأحزاب التقليديّة بشأن ذلك الحضور، أصبحا العاملين السلبيين اللذين تفاقمت بسببهما بسرعة الميول إلى سلطة قويّة، وليس هناك مانع جدي من أن تكون استبداديّة، بل قد يكون لهذا الطابع الاستبدادي جاذبيّة هائلة في ظل الشعور الشعبي الغريزي بأنّ الوطن ينبغي أن يتحرر ويُصان بكل قوة وبأي ثمن.
على أساسٍ من هذه الثقافة السياسية توسعت الدولة في وسائل القمع من شرطة ومخابرات وأجهزة أمن الدولة وشبكات المخبرين، بل إنّ الإمكانية القمعية للدولة كانت تخرج عن السيطرة أحياناً كما حدث أن قتلت الأجهزة الأمنية المصرية قائد الحركة الشيوعية شهدي عطية دون علم جمال عبد الناصر، ما وضعه في موقف حرج أمام الاتحاد السوفييتي.

وصل عدد أعضاء الحزب الشيوعي العراقي في الخمسينيات إلى مليون عضو

ورطة ستالين

خيار ستالين الاستبدادي تحوّل مع الانقلابات العسكرية في الخمسينيات إلى خبرة تاريخية قابلة للاستلهام الدائم؛ فالضرورة السياسية فرضت تحديثاً سريعاً للاقتصاد وهو ما يقتضي التخلي عن الحريات السياسية مع تقديم تبرير أيديولوجي قائم على إدانة "الحريات البرجوازية الزائفة" (حرية الرأي والتعبير، حرية الصحافة والنشر حرية التنظيم) ومن ثّم أصبح القمع فعلاً مؤسسياً ومفهوماً ومُبرَراً.
وصل الأمر إلى أن المتحمسين للأنظمة "الثورية" اعتبروا أنه لم يكن ممكناً حل المشكلات الاقتصادية إلا بإلغاء الميراث السياسي القائم على التعدد الحزبي نهائياً، وأنّ الاقتصاد المخطط لم يكن ليُكتب له النجاح إلا تحت أشد أنواع المركزية بطشاً، بهدف تصفية "الاحتياطي الاستراتيجي الكامن للإمبريالية في الداخل".

تكشف خيارات الحزبين الشيوعيّين في مصر والعراق أنّ تجربة تعدد الأحزاب والديمقراطية لم يكن لهما أساس عميق في المجتمع

وكان أول ما فعلته أنظمة ما بعد الحرب العالمية الثانية في العالم العربي هو القضاء على القوة الإستراتيجية للعمال (الحزب الشيوعي والنقابات) ومنع الفلاحين من التنظيم بهدف الحيلولة بينهم وبين المشاركة الفعلية في السلطة، وبالتأكيد القضاء على البرلمان، على شكليته الديمقراطية ومحدوديته السياسية، لضمان الحد الأقصى من المركزية.
ولم يكن الليبراليون وحدهم من وقعوا ضحية لـ "ورطة ستالين" بل دفع ثمنها الشيوعيون أيضاً، فتدمير الحركة الشيوعية المصرية لم يكن ممكناً إلا باقتناع كوادرها بأنّ الضباط الأحرار سينقلون المجتمع من اقتصادٍ ما قبل رأسمالي إلى التراكم البدائي الاشتراكي عبر الإصلاح الزراعي والتصنيع والإنتاج المخطط، ومن ثّم انخرط كوادر الحركة في تأييدهم وهو التأييد الذي وصل إلى حل الحزب الشيوعي ودمجه داخل الاتحاد الاشتراكي (القومي سابقاً) والذي هُمِّشَ الشيوعيون فيه تماماً، حتى إذا جاء السادات ومشى بممحاة الانفتاح على خيارات عبد الناصر لم يجدوا حزبهم الذي أودعوه مسبقاً أمانةً بيد السلطة!

اقرأ أيضاً: الاستبداد يحول الإقليم الصومالي الإثيوبي إلى سجن
ولم يقتصر الأمر على الشيوعيين المصريين وحزبهم الصغير، بل شمل أكبر حزب شيوعي في التاريخ العربي: الحزب الشيوعي العراقي الذي كان عدد أعضائه العاملين في الخمسينيات قد وصل إلى مليون عضو ومع ذلك سلّم السلطة لحزب صغير (البعث) معتقداً أنه سينفذ الحتمية التاريخية في التنمية ذاتها، إلا أنّ البعث نفّذ شيئاً آخر تماماً: مذابح مروّعة بحق الشيوعيين وملاحقات أمنية امتدت لعقود طويلة!
وتمت تلك الملاحقات بكفاءة عاليّة جعلتها تمتد لتشمل الشيعة والأكراد، ويعود الفضل في ذلك إلى الخبرة التي حصلت عليها أجهزة الأمن الداخلي من نظيرتها الروسيّة عقب توقيع اتفاقية تخابر بين العراق وروسيا بنهاية عام 1973 نصت على: إعادة تنظيم كل ما له صلة بالأمن الداخلي العراقي بناءً على توصيات "مقبولة"، وتدريب ضباط عراقيين في مدارس الـ "كي جي بي" والـ "جي آر يو" (المخابرات العسكرية السوفياتية) وأخيراً توريد معدات مراقبة واستجواب سوفياتية حديثة.
تكشف الخيارات الانتحارية التي أقدم عليها الحزبان الشيوعيّان في مصر والعراق، ومن ورائهما جماهير عريضة، شيئاً إضافيّاً، هو أنّ تجربة تعدد الأحزاب والديمقراطية المحدودة التي عرفتهما بعض البلدان العربية لم يكن لهما أساس عميق في المجتمع، بل إنّ الحكم البرلماني قد ارتبط في المخيّال السياسي الشعبي دائماً بممارسات فساد غير مقيّد؛ لتظل إشكالية التنمية/الحرية مفتوحة على احتمالاتٍ شتى، منها أن نفقد الاثنتين.

الصفحة الرئيسية