الأخوة الإنسانية أم القتل على الهويةِ؟!

الأخوة الإنسانية أم القتل على الهويةِ؟!


10/02/2021

رشيد الخيّون

«مدينة الكرامة: وهي التي قصد أهلها على أنْ يتعاونوا على أنْ يصيروا مكرمين ممدوحين مذكورين مشهورين بين الأُمم، ممجدين معظمين بالقول والفعل، ذوي فخامة وبهاء، إمَّا عند غيرهم وإمَّا بعضهم عند بعض، كلُّ إنسان على مقدار محبته لذلك، أو مقدار ما أمكنه بلوغُه منه»(الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة). تحدث الفيلسوف أبو نصر الفارابي(تـ: 339هجرية) عن نفسية المدن، وهذه أفضلها عنده، فمِنها تشرق السَّعادة، وكانت غاية الفيلسوف كيفية وصول النَّاس إلى «السَّعادات» وهي المرتبطة بـ «الصِّناعات». 
سُكان البسيطة كافة آملون وتواقون إلى العيش في مدن الكرامة والسَّعادة؛ مثلما نَظرَ إليها الفارابي وتمنى تحقيقها على وجه البسيطة، وإن كانت الفكرة خيالية عندما يُراد لها الوصول إلى ذروتها في إيجاد «المدينة الفاضلة»، ولا ضير أنَّ يكون الهدف الأعلى مثالياً، كي يُشغل النَّاسُ بالسّعي إليه. لكن مِن زمن الفارابي وما قبله وما بعده، أسمى الأفكار الإنسانية خرجت مِن تحت ركام المأساة. أقول: وهل كتب «فولتير»(تـ: 1778م) رسالة «التَّسامح» دون مأساة أسرة النَّجار البروتستاني بين الكاثوليكيين، في زمن شدة القتل على الهوية الدينية؟! 
صلة بذلك، لم تخرج فكرة «الأخوّة الإنسانية»، مِن «أبوظبي»، وتتبناها الأمم المتحدة، ليكون يوم توقيعها(4/2/2019) مِن قِبل بابا الفاتيكان وإمام الأزهر، وبحضور أربعمائة شخصية مِن الأديان والمذاهب المختلفة، يوماً عالمياً للأخوة الإنسانية، إلا بعد أن ضاقت البسيطة بساكنيها، حتَّى غلبت الكراهية على عواطف الناس، مِن هنا تأتي أهمية التوقيع على وثيقة تسترعي انتباه العالم لكارثة القتل على الهوية. 

جاء في مستهلها: «باسمِ الله الَّذي خَلَقَ البَشَرَ جميعًا مُتَساوِين في الحقُوقِ والواجباتِ والكَرامةِ، ودَعاهُم للعَيْشِ كإخوةٍ فيما بَيْنَهم ليُعَمِّروا الأرضَ، ويَنشُروا فيها قِيَمَ الخَيْرِ والمَحَبَّةِ والسَّلامِ، اسم النفس البشرية الطَّاهرة التي حرم الله إزهاقها، وأخبر أنه من جنى على نفس واحدة فكأنه جنى على البشرية جمعاء، ومن أحياً نفسا واحدة فكأنما أحيا النَّاس جميعاً»(نص الوثيقة). 
تبنت هذا المشروع دولة عمرها خمسون عاماً(1971-2021)، مدعوماً بصرح للديانات الإبراهيمية الثَّلاث: اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلاميَّة، وباستحداث وزارة خاصة للتسامح والتَّعايش، وهو عنوان جديد بين وزارات العالم، وإطلاق مسبار «الأمل» نحو المريخ. فقبل هذا التَّاريخ لا ملامح لمدنية ولا عمران، ومَن عاش ذلك الماضي أو سمع عنه، لا يمر على الصُّروح العمرانية، ومعارض الفنون، والجامعات، والمكتبات، والمستشفيات الرَّاقيَّة، إلا تأخذه الدَّهشة مِن محو أثر زمن «الرَّمل اليبيس»، حتَّى أنّ العام (1979) شاهد محمد مهدي الجواهري(ت: 1997)، وهو ابن الفراتين، آثار معاناة التأسيس عندما قال: «مِن الملح الأجاج مشى ريخاً/ يرقّص نخلةً شبمٌ برودُ/ يسيل بقاحلٍ عذبٍ فراتٌ/ وفي الرَّملِ اليبيس يرفُ عودُ»(أ فتيان الخليج/ أبوظبي 1979). بينما تنهار بلدان الماء العذب والثروات الهائلة، فيسودها القتل على الهويَّة، مع أن الفارابي، نَظرَ لمدينة الكرامة والفاضلة، منذ ألف عام، مِن على شواطئ تلك الأنهار العظيمة. 
تبنت الأمم المتحدة وثيقة «الأخوة الإنسانيّة»، يوماً عالمياً، لكنَّ هذه الفكرة ما كان لها أن تأخذ مداها، وتقتنع بها القيادات الدِّينية الكبرى، لولا أن قيادة الدَّولة التي قدمت الفكرة قد حرمت التمايز بين الأديان والعقائد والأجناس، ومنذ التأسيس ظهر التجاور المريح بين المساجد والكنائس والمعابد، فمجمع الكنائس بجواره «مسجد مريم أم عيسى». حصل هذا بعد أن وضعت الأفكار والآمال في حجر التأسيس، وهي تُنفذ تباعاً. دولة أصبحت عائقاً أمام مشاريع الإسلام السِّياسي، وضد تأسيس «المدن الجاهلة»(الوصف للفارابي)، مدن تجيد إخضاع الدّين للسياسة والسّلاح، فشتان بين الدَّاعي إلى الأخوة الإنسانيَّة والدَّاعي إلى القتل على الهويَّة!

عن "الاتحاد" الإماراتية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية