الأدب العربي المغدور

الأدب العربي المغدور


23/01/2019

متى ولماذا وكيف جُرّد الأدب العربي من عمقه الفلسفي؟ هذه التساؤلات الضارية لا تنفك تستفز وعي كل أكاديمي تنويري أو ناقد نهضوي؛ إذ فيما يندر الوقوع على أكاديمي أو ناقد خلال العقود السبعة الأولى من القرن العشرين ولم يشتبك مع نصوص أو قضايا الأدب العربي من منظور استراتيجي فكري - بدءاً بطه حسين وليس انتهاءً بأحمد أمين- إذا بنا نعتاد لاحقاً وتدريجياً، أرتالاً من المقاربات الشكلانية السطحية المشغولة بالبعد الفني الجمالي البحت، دون أدنى اعتناء بالسياق الموضوعي العام أو السياق الذاتي الخاص.

قميص عثمان الذي يلوّحون به ممثّلاً بالخوف من إعادة بعث الحساسيات مبعثه مأساوية الحاضر العربي المشظّى مذهبياً وطائفياً

لقد قلب طه حسين طاولة الدراسات الأدبية في مستهل القرن المنصرم، حينما تصدّى لمعاينة الشعر الجاهلي من منظور ديكارتي سافر. ورغم الثمن الذي دفعه على الصعيد الشخصي جرّاء تحدّيه لمؤسسة الأزهر، إلا أنه نجح في توجيه الدراسات الأدبية وجهة فلسفية عقلانية منطقية ممنهجة، بعد أن حُنِّط الأدب العربي في متحف الإنشاء والأحاجي والألغاز. كما أسهم أحمد أمين في تسليط الأضواء على حقيقة انعدام أي إمكانية لتفهم وتحليل الأدب العربي، دون الإحاطة بالتيارات السياسية والفكرية التي وجّهت هذا الأدب وصَنَعتْه.
مع ذلك، فإنّ كثيراً من الأكاديميين والنقاد العرب الآن – ومنهم أساتذة تولّوا الإشراف على عشرات الرسائل الجامعية- يجهلون أو لا يريدون مواجهة حقيقة أن مبحث البلاغة العربية التقليدية بوجه عام ومبحث الإعجاز في القرآن الكريم بوجه خاص، ما كان لهما أن يستويا على سوقهما لولا ذلك الجدل الكلامي الخلاّق الذي أوقد شعلته المعتزلة ثم الأشاعرة، قروناً عديدة. ومن المؤسف أن يظل هؤلاء الأكاديميون والنقاد سادرين في غيّهم؛ فلا يكلّفون أنفسهم عناء الإشارة إلى البعد الاعتزالي الراسخ في شخصية الجاحظ أو البعد الأشعري الراسخ في شخصية عبد القاهر الجرجاني أو البعد الأرسطي الراسخ في شخصية قدامة بن جعفر، وإلى الحد الذي يمكن معه لعشرات الطلاب في الماجستير والدكتوراه، أن ينجزوا رسائل جامعية عن هؤلاء، وهم لا يحيطون بالحد الأدنى من فكر المعتزلة أو فكر الأشاعرة أو فكر أرسطو.

اقرأ أيضاً: المناهج في الوطن العربي بلا أفق ولا رؤية.. لماذا؟
حجة القائمين على مناهج التعليم الثانوي والجامعي في الوطن العربي، لا يمكن الاستهانة بمكرها المتوقّع؛ فهم يدّعون مثلاً أنّ الجيل الجديد من طلبة المدارس الثانوية والجامعات، هو بحاجة ماسّة إلى المعلومات والمعارف الأدبية الجمالية البحتة، وأنه في غنى عن أرخبيل التيارات السياسية والفكرية والمذهبية التي أغرقت الأدب العربي ومن شأنها – بزعمهم- تأجيج الحساسيات المذهبية!

القائمون على مناهج التعليم بالوطن العربي يدّعون أنّ الطلبة بغنى عن أرخبيل التيارات السياسية والفكرية والمذهبية التي أغرقت الأدب

وليس أسهل من الردّ على هذه الذريعة التجهيلية المتهاوية بأكثر من وجه؛ إذ علاوة على أن هذا التوجّه التسطيحي المتعمّد في التعليم يحرم ملايين الطلبة العرب في المدارس والجامعات من حق الإلمام بتاريخ إرثهم الفكري والفلسفي فضلاً عن حقِّهم المشروع في الربط بين الأدب والفكر والسياسة، فإنه يصادر حقهم التاريخي المشروع أيضاً في الإلمام بحقيقة أنّ هذه التيارات قد تعايشت وتكاملت لقرون عديدة دون التنكّر لواقع تصارعها أحياناً، ككل التيارات السياسية والفكرية التي تجاورت وتطاحنت في سائر الحضارات، كما أنّ إحاطتهم علماً بهذه التيارات كفيل بتحصينهم تاريخياً وفكرياً. ولو كان العكس هو الصحيح لضربت مؤسسات التعليم في أمريكا وفرنسا وبريطانيا صفحاً عن تدريس تاريخ الحروب الأهلية لطلبة المدارس الثانوية والجامعية. والأنكى من كل ما تقدم أن قميص عثمان الذي يلوّحون به ممثّلاً بالخوف من إعادة بعث الحساسيات، مبعثه في المقام الأول مأساوية الحاضر العربي المشظّى مذهبياً وطائفياً، ومن المؤكّد أنّ الأسلوب الأمثل لمحاصرة هذا التشظّي يتمثل في مواجهته والاعتراف به بدلاً من تجاهله وإنكاره.

اقرأ أيضاً: صورة التراث في المناهج.. ومواجهة التطرف
وللتدليل على مدى ضحالة معالجة النصوص والقضايا في مناهج الأدب العربي الراهنة، سواء على صعيد المدارس الثانوية أم على صعيد الجامعات، سأكتفي بالإشارة إلى همزية أبي نواس التي طار ذكرها في الآفاق:
(دع عنك لومي فإن اللوم إغراء  وداوني بالتي كانت هي الداء)
فالمشهور المتداول بين أساتذة وطلاب اللغة العربية وآدابها، فضلاً عن معظم المثقفين، أن هذه القصيدة تمثّل نموذجاً صارخاً لتهتّك أبي نواس واستهتاره الذي بلغ حد المجاهرة بالدعوة للانكباب على شرب الخمر، مع أنّ النسق المضمر في هذه القصيدة يمثل بياناً فكرياً سافراً، أراد أبو نواس من خلاله أن يشجب بكل ما أُوتي من بيان وبرهان، جميع أشكال الوصاية الفكرية التي راح المعتزلة يعطون أنفسهم الحق بممارستها على المجتمع بوجه عام، إلى درجة أنهم حوّلوه إلى نسق عقلاني محض، وأن يقطع حبل السُّرّة الذي يربطه بشيخ شيوخ المعتزلة أستاذه إبراهيم النظّام بوجه خاص، فضلاً عن إعلان القطيعة مع الطقوس الشعرية المتّبعة وفق الوعي الصحراوي، في ضوء الواقع المديني البغدادي الراسخ.

اقرأ أيضاً: محمد إقبال وحلم المعتزلة المتأخر أحد عشر قرناً
أليس غريباً أن تُدَرَّس هذه القصيدة التي اشتهرت في مصادر الأدب العربي القديم بـ (الإبراهيمية)، بوصفها نموذجاً للعبثية والعدمية، دون أي إشارة إلى حقيقة أن أبا نواس كان من ألمع تلاميذ النظّام، ثم ثار على عقلانيته المفرطة، فلم يدّخر وسعاً للتعبير عن موقفه الوجودي المتمثّل في اقتناعه بأن تحكيم العقل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الحياة، لا يعدو كونه خرافة جديدة من الخرافات التي جهد المعتزلة لمحاصرتها واجتثاثها؟!
(فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة  حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء)!

وحتى يدرك صانعو القرار في المؤسسات التعليمية العربية، خطورة تفريغ الأدب العربي من عمقه الإستراتيجي المتمثل في الفكر السياسي، سأكتفي بالإشارة إلى واقعة مؤلمة مؤدّاها اعتذار هيئة تحرير إحدى المجلات العربية المحكّمة المرموقة، عن عدم تمكّنها من نشر بحث رصين يتصل بتفسير الكشّاف للزمخشري – وهو من أعمق وأجمل التفاسير البلاغية للقرآن الكريم- لا لشيء إلا لأن المقيِّم - رغم إقراره بالمستوى الرفيع للبحث- قد أوصى بذلك بحجة أن الزمخشري معتزلي! فما كان من الباحث إلا أن أرسل للمجلّة المرموقة رسالة عتاب ختمها قائلاً: (يسعدني أن أحيطكم علماً بأنّ الجاحظ معتزلي أيضاً، وبأنّ العدالة تقتضي أن تعتذروا لكل من تحدّثه نفسه بالكتابة عن "البيان والتبيين" أو "الحيوان" أو "البخلاء")!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية