الأزمة الروسية ـ الأوكرانية... كيف تُعيد رسم خريطة أسواق الطاقة؟

الأزمة الروسية ـ الأوكرانية... كيف تُعيد رسم خريطة أسواق الطاقة؟


16/03/2022

بينما كانت أسعار الطاقة ترتفع بشدّة إثر زيادة الطلب مع دخول مرحلة نهاية جائحة كورونا مقابل الشحّ في العرض، جاءت الأزمة الروسية ـ الأوكرانية، وحساباتها الدولية، لتضيف أبعاداً سياسية على أزمات سوق الطاقة، بفعل الاتجاه الغربي لفرض العقوبات على واردات الطاقة الروسية، بحيث أنّها باتت تسهم في إعادة تشكيل ورسم خريطة الإنتاج والاستيراد لشحنات الطاقة حول العالم.

واردات الغاز الروسي... معضلة البديل

لم تنجح المساعي بإيقاف الاستيراد الأوروبي إمدادات الطاقة من روسيا بشكل عاجل، وهو ما يعود لأسباب عدّة، وذلك بشكل خاصّ على مستوى إمدادات الغاز الروسية، التي تعتمد أوروبا على نحو (40%) من احتياجاتها من الغاز عليها.

روسيا هي ثالث أكبر مصدّر للنفط والمنتجات البترولية في العالم

تزوّد روسيا دول أوروبا بحوالي (180) مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، بحسب تقديرات العام 2019، وهي كميات يصعب تعويضها ضمن المدى المنظور، وحتى على المدى المتوسط. والأسباب وراء ذلك متعددة؛ بدايةً من انخفاض كلفة وثمن وتكاليف نقل الغاز الروسي المنقول عبر الأنابيب، وفي أراضٍ سهلية باتجاه الدول الأوروبية.

في المقابل ترتفع كلفة الغاز المُسال، الذي يحتاج لمنشآت وعمليات خاصة من أجل تسييله وشحنه في السفن، ومن ثم إيداعه وتخزينه وإعادته إلى الحالة الغازيّة من جديد قبل ضخّه في الأنابيب. وتمتلك قطر كميات من الغاز المُسال الأكبر على مستوى العالم، ولكنّ إنتاجها هو في أقصى طاقة، وهو مرتبط بعقود طويلة الأجل، وخاصة مع الدول الآسيوية.

إقرأ أيضاً: الحرب الأوكرانية تعيد ملف الأسلحة البيولوجية إلى الواجهة.. ماذا تعرف عنها؟

أمّا الغاز الجزائري، فقد ارتفع حجم ضخّه إلى إسبانيا مطلع العام الحالي إلى حوالي (10) مليارات متر مكعب، وهي أقصى طاقة يستطيعها ضمن الممكنات الحالية، وضمن الإمكانات الحالية لغاز "ميد غاز" (Medgaz)، وكذلك فإنّ خط غاز "غالسي" - الذي ينطلق باتجاه شمال إيطاليا - يصدّر بأقصى طاقة له وهي (10) مليارات متر مكعب أيضاً. في حين تُصدر إلى الدول الأوروبية الأخرى حوالي (22) مليار متر مكعب عبر أنبوب "ترانسميد"، الذي تبلغ طاقته القصوى نحو (32) مليار متر مكعب، أيّ إنّ قدرة الجزائر على ضخ كميات إضافية لا تتجاوز الـ10 مليارات متر مكعب إضافية، وكذلك الحال بالنسبة إلى النرويج التي تضخّ الغاز بكامل طاقتها.

أمّا بخصوص بدائل الطاقة الأخرى، كالفحم الحجري، فهو خيار يتمّ تجنبه بسبب ما يُلحِقُه من ضرر بالبيئة، وتأثير على الالتزامات الأوروبية بتخفيض مستوى انبعاثات غازات الدفيئة، وكذلك الحال بالنسبة إلى النفط الذي تتجنّب الدول الأوروبية زيادة الاعتماد عليه للأسباب البيئية أيضاً.

وأمّا مفاعلات الطاقة النووية، فمعظمها في نهاية عمرها التشغيلي، وتحتاج إلى وقت طويل لإعادة الصيانة والتشغيل، وذلك بعد أن كانت الدول الأوروبية، باستثناء فرنسا، قد عمدت إلى التخلي عنها والتقليل من الاعتماد عليها خلال العقود الأخيرة؛ بسبب الأضرار الإشعاعية المحتمل وقوعها.

وبذلك، فإنّ الغاز الروسيّ يبقى الخيار الأساسي ضمن مزيج واردات الطاقة للقارّة الأوروبية، وبالتالي كانت النتيجة هي ارتفاع أسعار الغاز مباشرة بعد بدء الحرب؛ وذلك بسبب التهديدات بقطع الإمدادات؛ سواء أكان القطع المحتمل من قبل الروس كنوع من الضغط، أو من قبل الدول الأوروبية من قبيل العقوبات. وقد بلغ سعر الغاز الطبيعي مستوى قياسياً مع مطلع شهر آذار (مارس) 2022 في أوروبا والمملكة المتحدة، فارتفع السعر المرجعي للغاز "تي تي إف" (TTF) الهولندي بأكثر من 60% إلى مستوى قياسي بلغ (345) يورو للميغاوات/ساعة، في حين بلغ سعر الغاز البريطاني (800) بنس للوحدة الحرارية. وتخطت أسعار الغاز في أوروبا مع الـ10 من الشهر حاجز الـ (3200) دولار لكلّ ألف متر مكعب.

خطوط الغاز المنطلقة من الجزائر باتجاه أوروبا لا تستطيع زيادة الضخّ سوى بمقدار (10) مليارات متر مكعب

النفط... السعر الأعلى منذ عام 2008

بحسب بيانات النشرة الإحصائية السنوية لمنظمة أوبك لعام 2021، فإنّ روسيا هي ثالث أكبر مصدّر للنفط والمنتجات البترولية في العالم، إذ تصدر نحو (5) ملايين برميل من النفط الخام، و(3) ملايين برميل من المنتجات النفطية يومياً.

وفي عام 2021 استوردت الولايات المتحدة نحو (245) مليون برميل من روسيا. وفي عام 2021 مثّل النفط الروسي نحو (8%) من واردات الولايات المتحدة من النفط، بمعدل حوالي (672) ألف برميل في اليوم، في حين يمثل النفط الروسي نحو (30%) من واردات النفط للدول الأوروبية.

في عام 2021 مثّل النفط الروسي نحو (8%) من واردات الولايات المتحدة من النفط

وعلى الرغم من أنّ الواردات المباشرة من النفط الروسي تُشكّل جزءاً صغيراً من إجمالي ما تستهلكه الولايات المتحدة، فإنّ حظر واردات النفط الروسية ضغط على سعر النفط، وتأثرت السوق بأخبار الحظر الأمريكي على واردات الخام الروسي.

إقرأ أيضاً: زيارة وزير خارجية إيران لموسكو... هل تثمر عن تفاهمات حول مفاوضات فيينا؟

وجاء الحظر عبر قرار الرئيس الأمريكي حظر واردات النفط والغاز الروسية، وامتدّ كذلك إلى شركات مورّدة للدول الأوروبية، فأعلنت شركتا "شل" الأنجلو-هولندية، و"بي بي" البريطانية، أنّهما ستتوقفان عن جميع المشتريات الفورية للنفط والمنتجات الروسية، كذلك اتجه عدد من المصارف الأوروبية وشركات التأمين الأوروبية إلى الإحجام عن التعامل مع شحنات النفط الروسية، ورفض كتابة رسائل اعتمادات مصرفية لمشتري النفط الروسي.

وبسبب المخاوف من تقلص حجم المعروض من شحنات النفط، شهدت أسعار النفط ارتفاعاً كبيراً مباشرة مع صدور قرار بايدن، فصعد خام برنت القياسي العالمي لأعلى من (132) دولاراً للبرميل، ومن ثمّ لامس في 6 آذار (مارس) 2022 عتبة (140) دولاراً، وهو أعلى مستوى منذ العام 2008.

أسعار الوقود في إحدى المحطات بالولايات المتحدة في مطلع آذار 2022 تلامس الـ5 دولارات للجالون

التعويض بزيادة الإنتاج... خيار متعثّر

الحلّ لإعادة خفض أسعار النفط يكون عبر زيادة كميات الإنتاج، وهناك دول محدّدة هي القادرة على التعويض عن كميات النفط التي تنتجها روسيا، والدول الوحيدة القادرة على تعويض الإنتاج هي الدول الأعضاء في "أوبك" وبالتحديد السعودية والإمارات، إلّا أنّ هاتيْن الدولتين أكدتا حتى هذه الساعة على الالتزام باتفاقية "أوبك بلس" وآليتها الشهرية الحالية لضبط الإنتاج، وتملك هذه الدول طاقة إنتاج إضافية تُقدّر بما بين (2.5 إلى 3) ملايين برميل يومياً، لكلّ منها.

       لامس سعر البرميل في مطلع آذار 2022 عتبة (140) دولاراً، وهو أعلى مستوى منذ العام 2008

على صعيد آخر برزت مقترحات للانفتاح على إنتاج النفط لدول مفروض عليها هي الأخرى عقوبات، وتحديداً فنزويلا وإيران. ففيما يخصّ فنزويلا قام وفد أمريكي بزيارتها للبحث في موضوع رفع العقوبات عن البلاد، لكنّ المحادثات لم تسفر عن أيّ اتفاقات نهائية، ولا يبدو أنّها قد تسفر عن ذلك في أيّ وقت قريب. وفيما يتعلق بإيران، فقد طرحت فكرة الإسراع في التوصل إلى صيغة نهائية للاتفاق النووي مع إيران، وهو ما يسمح بضخّ من (2-3) ملايين برميل نفط يومياً في الأسواق، إلّا أنّ التعقيدات المتعلقة بالجوانب الأمنية من الاتفاق تجعل من الصعب التوصّل إلى صيغة نهائية له في القريب العاجل، وبالتالي، فإنّ خيار تنزيل الأسعار من خلال زيادة الإنتاج يظلّ متعثّراً في المرحلة الراهنة.

يضمّ اتفاق "أوبك بلس" (22) دولة مصدرة للنفط... منها (12) دولة في منظمة "أوبك"

خريطة جديدة لأسواق الطاقة

وحول التوقعات بخصوص شكل ومدى التأثيرات التي يمكن أن تحدثها الأزمة الروسية الأوكرانية على أسواق الطاقة، يبيّن خبير الطاقة الأستاذ عامر الشوبكي في حديثه لـ "حفريات" أنّ "أسواق الطاقة الآن تشهد اضطراباً كبيراً، فقد اقتربت أسعار الغاز من الوصول إلى الأسعار التاريخية لها، كذلك أسعار النفط وصلت إلى (140) دولاراً للبرميل، وهو رقم قريب من السعر التاريخي عند (147) دولاراً، لكنّ هذه الاضطرابات كان لها أسباب حتى قبل الحرب؛ إذ كان هناك ضيق في العرض بالسوق، ونقص في الإمدادات، وذلك في ظلّ تزايد الطلب العالمي على النفط مع تراجع حدّة تأثيرات جائحة كورونا. وبالتالي، جاءت الأزمة الآن لتحمل تأثيراً مضاعفاً على أسواق الطاقة العالمية". ويضيف: "في هذه الأزمة بدأنا نشهد تغيراً في تركيبة أسواق الطاقة العالمية، وذلك مع بدء التخلّص التدريجي من قبل دول عدة من الاعتماد على النفط الوارد من روسيا، كذلك بات هناك اتجاهات أخرى تتمثل في التوجّه نحو زيادة التعاون بشكل أكبر وتصدير حجم أكبر من الغاز والنفط من روسيا إلى الصين. إذاً، هناك خريطة جديدة في العالم نشهدها في أسواق الطاقة، تعتمد على تصدير روسيا إلى وجهات أخرى بعيداً عن السوق الأوروبية. الآن تُصدّر روسيا إلى أوروبا حوالي (3.5) ملايين برميل يومياً، هذا الكمّ الكبير سيبدأ بالاتجاه إلى أسواق أخرى، وخاصّة إلى آسيا، وبالتحديد إلى الصين، والهند، وباكستان".

ويؤكد الشوبكي على أنّ: "هناك مصادر أخرى للنفط ولكنّها تنتظر متغيرات، وما زالت  لغاية الآن غير واضحة، وهي بالتحديد (3)؛ سواء من النفط الفنزويلي، أو من "أوبك بلس"، أو من تحقيق التقدّم في الملف النووي الإيراني".

إقرأ أيضاً: هل تُفضي الحرب في أوكرانيا إلى تجديد واشنطن علاقتها بدول الخليج؟

وفيما يخصّ الخطط المقترحة لمواجهة أيّ قطع مفاجئ من إمدادات الغاز من روسيا لأوروبا، يرى الشوبكي أنّ: "البدائل ستكون صعبة جداً، مثل اللجوء إلى استخدام الفحم الحجري، أو الاعتماد على الغاز المسال، أو زيادة ضخ الغاز الطبيعي عبر الأنابيب، سواء من أذربيجان أو النرويج، وكذلك تقنين استخدام الغاز، وهذا قد يمتدّ إلى القطع الممنهج للكهرباء، وهو أمر خطير جداً على القارة الأوروبية، عدا عن أنّه قد يكون مصحوباً بارتفاع غير مسبوق في أسعار الغاز والكهرباء التي يعتمد عليها الفرد والأسرة في أوروبا".

ويتابع: "وكذلك من ضمن هذه الخيارات أيضاً: الاعتماد على الطاقة المتجددة، طاقة الرياح على وجه الخصوص، وكذلك الطاقة الهيدروجينية الخضراء. وبخصوص الغاز المسال، فقد شرعت ألمانيا بإنشاء محطات جديدة لاستقبال الغاز المُسال وتوسيع المحطات القائمة. أمّا الاعتماد على خيار الفحم والنفط، فهو ما سيكون مخالفاً للتوجهات والالتزامات الأوروبية لمواجهة التغير المناخي". ويخلُص إلى أنّ "البدائل صعبة في المدى القريب؛ حتى النفط ما زال يتعثر في إيجاد واردات للنفط بديلة عن النفط الروسي، نظراً لضيق السوق العالمية أصلاً من حيث كميات العرض".

ويختم الشوبكي بالإشارة إلى أنّ "الحال تختلف بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وذلك بسبب كونها أكبر منتج للنفط والغاز في العالم، ومعظمه يذهب إلى الاستهلاك المحلي؛ فهي تستطيع الاستغناء بسهولة عن الواردات من روسيا، وبالتالي لا تصُحّ المقارنة بين اعتماد أوروبا واعتماد الولايات المتحدة على مصادر الطاقة الروسية".

عامر الشوبكي: لا تصح المقارنة بين اعتماد أوروبا واعتماد الولايات المتحدة على مصادر الطاقة الروسية

وأيّاً كانت النتائج والمآلات، يجمع المراقبون على أنّ أزمة الطاقة الراهنة هي أشدّ أزمة طاقة منذ أزمة العام 1973، وقد زاد من شدّتها أنّها جاءت في مرحلة تعافي الاقتصادات العالمية وخروجها من قيود جائحة "كورونا"، وهو ما يعني زيادة في الطلب، مقابل نقص في العرض، ومن ثمّ فإنّ هذه الأزمة تترك تأثيرات بالغة على الاقتصادات، بدءاً من التأثير على سلاسل التوريد، مروراً برفع أسعار الكهرباء، وانتهاءً بزيادة معدلات التضخّم التي باتت الأعلى منذ عقود.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية