"الأستاذ والمجنون": استمع إلى أوراق الشجر، إنّها تخدش الهواء

"الأستاذ والمجنون": استمع إلى أوراق الشجر، إنّها تخدش الهواء


21/04/2020

أحداث  فيلم "الأستاذ والمجنون" تدور حول قصة حقيقية جرت أواخر القرن الثامن العشر وبداية القرن التاسع عشر، وهي قصة تطوير معجم "أكسفورد" الإنكليزي على يد الأستاذ جميس مواري (1837 - 1915)، وهو المحرّر الرئيس للمعجم من عام 1897، وعلاقته وصداقته بالدكتور ويليام تشيستر ماينور، وهو نقيب جرّاح متقاعد في الجيش الأمريكي، يوضع بمستشفى "برودمور"، الخاصة بالمجانين المجرمين، بعد ارتكابه جريمة قتل؛ إذ يكون وليم يعاني من اضطرابات نفسية، ويتخيل دائماً أنّ هناك شخصاً ما يلاحقه، وفي إحدى الليالي تسوء حالته النفسية، ويخرج من بيته في لندن حاملاً مسدسه، وما إن يرى شخصاً يمشي في الشارع حتى يهيأ له أنّه الشخص الذي يتعقبه، فيلاحقه حتى يقتله أمامه باب بيته، وأمام أعين زوجته وأطفاله، ليكتشف بعد ذلك أنّه قتل الرجل الخطأ.

اقرأ أيضاً: فيلم "قصة زواج": هل يموت الحب؟
الموضوع الأساسي الذي بنيت عليه قصص وأحداث الفيلم؛ هو "اللغة"، وحساسية التعامل معها، كيفية استخدامها، كيف تلعب حساسيتنا تجاه الكلمات والمفردات التي نعبّر من خلالها عن آلامنا ومشاعرنا وآرائنا، كيف تساهم عملية تطوير اللغة في تغيير حياتنا للأفضل، وكيف تُشكّل هويتنا.
صداقة الأستاذ جميس (الممثل ميل غيبسون) مع الرجل المجنون ويليام (الممثل شون بين) قائمة على الأثر التي تُحدثه اللغة في وجدانهما، المفردات التي يستخدمانها، والتي تعبّر عن مشاعرهما وفهمهما ونظرتهما للحياة.

شخصية الأستاذ
كان من السهولة أن نكتشف السّمات والصفات التي تتسم بها شخصية الأستاذ جميس مواري منذ بداية الفيلم، مسار الشخصية واضح؛ رجل عمل جاهداً ليكون ضمن لجنة تحرير معجم "أكسفورد" الإنكليزي، وطاقة التصميم الذي يتحلى بها رغم كلّ العوائق التي يضعها أمامه بعض أعضاء لجنة جامعة "أكسفورد؛ لأنّهم يرون في "جميس" رجلاً أقل شأناً منهم؛ إذ إنّ جميس لم يحصل على شهادة علمية في حياته، فقد ترك تعليمه وهو في عمر 14 عاماً ليكسب عيشه، لكنّه في الوقت نفسه رجل ضليع في علم اللغات، يتحدث بأكثر من لغة، وقادر على القراءة بلغات أخرى، لا يعرف المستحيل، يؤمن بأنّه مع "المثابرة" سيصل لهدفه رغم كلّ العوائق.

ليست المرة الأولى التي يفاجئنا فيها شون بين بإتقانه للأدوار التي يلعبها، وخصوصاً عندما يؤدي أدوراً نفسية

يأتي جميس إلى "أكسفورد" في لحظة حرجة، إذ إنّ مشروع تأليف القاموس لم يحرز تقدماً طوال الأعوام العشرين الأخيرة في ذلك الوقت، يقول "فريدي"، أحد أعضاء اللجنة، وهو يحاول إقناع باقي أعضائها من أساتذة "أكسفورد" في تكليف جيمس بمهمة تأليف القاموس وتحريره: "كنا نحاول أن نؤلف هذا القاموس منذ عشرين عاماً، ورغم الجهود الكبرى لجيش كامل من الأكاديميين، بمن فيهم أنا، لم نصل إلى أي مكان(...) نحن في الواقع نتراجع، فاللغة تتطور أسرع من تطورنا، لغتنا العظيمة، التي تصل إلى أرجاء العالم كلّه، قد شهرت أسلحتها، وشحذت حرابها، وأعلنت أنّها لن تتروّض، ونحن مع جدالاتنا المثيرة للغثيان، المتعلقة بالنمط والحجم والهدف من هذه الكلمات، جعلتنا نرمي أنفسنا في تضرّع أمامها مغمورين بهزيمةٍ نكراء".

اقرأ أيضاً: فيلم "الباباوان": رحلة بين الشك واليقين في أروقة الفاتيكان
أما شخصية ويليام المجنون؛ فمن الصعب بدايةً فهم أبعادها؛ شخص مضطرب نفسياً، يعيش في حالة من جلد الذات، روحه معذبة، يعاني من تأنيب الضمير، لأنّه عذّب جندياً شاباً، عندما كان ضابطاً في الجيش الأمريكي، وتتفاقم هذه الحالة بعد أن يقتل ويليام رجلاً بالخطأ أمام زوجته وأطفاله الخمسة.
مخرج الفيلم "فرهاد سافينيا"

المُشاهد مترقباً
مخرج الفيلم "فرهاد سافينيا"، والذي شارك في كتابة السيناريو مع "تود كومارنيسكي"؛ لا يتيح للمشاهد فهم شخصية ويليام بشكل مباشر؛ إذ يُبقي المشاهد مترقباً، وهو يتساءل؛ ما علاقة الرجل المجنون بالأستاذ جميس وقاموس أكسفورد؟
أول خيط يوضح ملمحاً من شخصية ويليام وحساسيته حيال الكلمات، عندما يكون في لقاء مع طبيب المستشفى، ويقوم طبيب آخر بلفظ كلمة "علاج"، وفور سماع ويليام هذه الكلمة، ينتفض غضباً رافضاً العلاج، لكنّ طبيبه يسارع لتوضيح الأمر، ويقول لويليام إنّ ما سيجرى ليس علاجاً، لكنّه تجربة، مجرد عملية تجريب.

اقرأ أيضاً: فيلم "طفيلي": هل تهدّد الفوارق الاجتماعية مصير العالم؟
حالة ويليام تتحسن عندما يشغل نفسه في قراءة الكتب والرسم، إلى أن يعثر على إعلان حملة التطوع من جامعة "أكسفورد" لمساهمة أيّ مواطن إنكليزي في إرسال عدد من الكلمات والمفردات التي تعبر عن روح العصر، مرفقة باقتباسات تشرح معانيها، وهي الفكرة التي اقترحها جيمس لخطته في تحرير قاموس "أكسفورد" الجديد، ومن هنا تبدأ علاقة جيمس بويليام. 
ارتباط اللغة وأثرها في شخصيات الفيلم تتخطى قاموس "أكسفورد"، لتدخل في تحولات عميقة في حياتهم، فويليام يقرر أن يقدم لعائلة الرجل الذي قتله كلّ ما يملك من ثروة وأموال، للتكفير عن جريمته، لتبرز هنا شخصية إيليزا، زوجة الرجل الذي قتله ويليام، وتتحول إيليزا من كرهها الشديد لويليام، إلى محاولتها فهم حالته المرضية، وخلق علاقة تواصل معه من خلال إهدائه الكتب، وتتكرر زيارات إيليزا للمصحة ومقابلة ويليام بين الحين والآخر، وخلال فترة لقاءاتهما، يكتشف ويليام أنّ إيليزا لا تعرف القراءة، فيقرر تعليمها.

أستطيع الطيران
يقول ويليام لإيليزا: "دعيني أعلمك القراءة (...) أستطيع الطيران من هذا المكان على ظهور الكتب، لقد وصلت إلى نهاية العالم على أجنحة الكلمات، عندما أقرأ لا أحد يلاحقني، عندما أقرأ أكون أنا من يطارد، أطارد درب الرب، أرجوكِ، أتوسل إليكِ، انضمي للمطاردة".

أول خيط يوضح ملمحاً من شخصية ويليام وحساسيته حيال الكلمات، عندما يكون في لقاء مع طبيب المستشفى

لعب الممثل الأمريكي، شون بين، شخصية ويليام بإتقان شديد، سواء عبر لغة الجسد، والاختلاجات التي تنتاب شخصية ويليام في حالات الاضطراب، هذا عدا تعابير وملامح الوجه، إضافة إلى الجمل والعبارات التي تعبّر عنها شخصية ويليام المركبة والفيّاضة بالمشاعر الإنسانية، كأن يسأله جيمس عن اللوحة التي رسم فيها ويليام وجه إيليزا، فيقول له: "من هي؟"، فيجيبه ويليام: "المستحيل"، أو خلال حواراتهما في حديقة المستشفى، كأن يقول ويليام لجيمس: "سأجمع أفكاري، وأطلق شرارتها من أفكار"، أو أن يقول: "استمع إلى أوراق الشجر، إنّها تخدش الهواء".
ليست المرة الأولى التي يفاجئنا فيها شون بين بإتقانه للأدوار التي يلعبها، وخصوصاً عندما يؤدي أدوراً تعاني من حالة نفسية شديدة الخصوصية، وهذا ما يذكرنا في أدوار لعبها شون بين في أفلام سابقة، مثل: الدور الذي لعبه في فيلم "21 غرام" (2003)، للمخرج أليخاندرو غونزالس إناريتو، وفيلم "أنا سام" (2001)، للمخرج جيسي نيلسون، وفيلم "Milk" (2008)، للمخرج غاس فان سانت، وغيرها من الأفلام التي باتت جزءاً من تاريخ السينما في العالم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية