الإسلاميون في تونس وهواية ملاحقة الوهم

الإسلاميون في تونس وهواية ملاحقة الوهم


06/12/2021

أحمد نظيف

على نحو غير مسبوق، منذ 25 تموز (يوليو) الماضي، تواترت خلال الآونة الأخيرة تصريحات قيادات حركة "النهضة"، وعلى رأسها راشد الغنوشي بأن البرلمان "عائدٌ أحب من أحب وكره من كره"، حيث بدت لهجة التحدي واضحةً، لكأنها توحي بأن ظهر الحركة مسنود بقوة داخلياً وخارجياً ولها من الشوكة والمناعة لتنفيذ هذه العودة رغم أوراق القوة التي يملكها الرئيس قيس سعيّد. فهذه اللهجة القوية المتحدية تكشف عن تحول في مسار مواقف الحركة الإسلاموية التونسية من الإجراءات فوق الدستورية التي أعلنها قيس سعيّد، والتي أنهى من خلالها سيطرة الحركة على السلطة، استمرت حوالي عشر سنوات.

وهذا التذبذب في مواقف الحركة ليس جديداً، ذلك أن مواقفها قد أخذت في التحول صعوداً ونزولاً منذ حركة الرئيس، كاشفةً عن مشاكل هيكلية في اتخاذ القرار. مرت أيام قليلة بعد 25 تموز (يوليو) وقال الغنوشي إنه "يتعين تحويل إجراءات الرئيس الى فرصة للإصلاح وأن تكون مرحلة من مراحل التحول الديموقراطي"، بعدما أمضى أياماً يتنقل بين وسائل الإعلام واصفاً الإجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس سعيد بــ"الإنقلاب ضد الشرعية وخرق الدستور".

في المقابل يبدو الرئيس سعيد كالراكب في قطار يسير بسرعة قوية لا يلتفت أبداً للأصوات على طرفي الرصيف، سواء كانت معارضة أو مساندة. ذلك أنه لم يغيّر مواقفه قطّ من خطوات الحركة الإسلاموية قرباً أو بعداً، بل عمّق الخلاف بينه وبين بقية الأحزاب والاتحاد العام التونسي للشغل، حيث يبدو أنه قد وضع خطة واضحة لما سيقوم به قبل إعلانه عن الإجراءات الاستثنائية وهو ماضٍ في تطبيقه من دون التأثر بردود الأفعال الصادرة عن حركة "النهضة" والحزام السياسي الموالي لها، بل وحتى الصادرة عن الأحزاب والشخصيات التي دعمت تحركه، حيث تسير عمليات الإقالات في المناصب العليا للدولة والتعيينات الجديدة بوتيرة منتظمة كل يوم، وهو ما يؤكد أن الرئيس التونسي يريد استغلال هذه الفترة الانتقالية لوضع قيادات بيروقراطية قادرة على ترجمة رؤيته لتغيير النظام السياسي والتمثيلي.

لكن بالعودة لذلك اليقين الغريب الذي يتحدث به زعيم "النهضة" حول عودة البرلمان "أحب من حبّ وكره من كره" وبأن "سقوط الانقلاب قريب"، يبدو أن ذلك لا يقوم على أساس متين من التفكير العلمي أو أنه مسنود من قاعدة اجتماعية أو قوى دولية قادرة على تغيير موازين القوى المختلفة في البلاد ضد الحركة، بل يقوم على هواية "ملاحقة الوهم" التي يحبها الإسلاميون كثيراً، اعتماداً على تخيلات مثالية للواقع. ذلك أن مقولات "الانقلاب يترنح" "ورقص الديك المذبوح والنصر آتٍ" التي تروجها قيادات من حركة "النهضة" لأنصارها، كنوع من التصبير والتعبئة الزائفة، ليست جديدة، في تراثها السياسي المزدحم بالمآسي والمحن. وفي هذا السياق يروي كثيرون من عناصر التنظيم خلال مواجهة 1991 مع زين العابدين بن علي أن قيادة الحركة كانت تعمم على الأعضاء والقواعد "مبشرات" يومية من نوع أن النصر قريب وأن النظام في أيامه الأخيرة ولا يزال في جعبة الحركة أوراق قاصمة ستغير مسار المعركة، ليجد هؤلاء المساكين أنفسهم فجأة مشردين على المعابر والحدود والسجون، وذلك لأنهم سلموا زمام أمرهم لقيادة فاشلة وكاذبة في الوقت نفسه. بل إن الأمور تطورت إلى مد حبائل الأوهام في المهاجر، فبعضهم بعدما خرج نحو الجزائر وليبيا والسودان وفرنسا، كان دائماً ما يضع حقيبته جاهزة للعودة في أية لحظة للبلاد منتصراً، حتى أن قيادياً من الصف الثاني يروي في مذكراته أن الغنوشي قال لهم لا تفتحوا حقائبكم يا شباب فنحن عائدون بحول الله قريباً. بل إن الغنوشي نفسه قد وزع شريطاً مسموعاً في العام 1993 يشد فيه على أيدي رفاقه في التنظيم قائلاً بيقين الواثق: "فالحركة، هي قوة في الداخل في قلوب الخلق وهي في الجامعة وهي في النقابات وهي في الأرياف وهي في الإدارات وهي في خيرة من رجال الجيش ورجال الشرطة وكل مؤسسة من مؤسسات البلاد للحركة فيها نصيب. فلا تظنوا أن الحركة انتهت. لدينا عناصر في السجن وعناصر في المهجر وعناصر قد قتلت، هل يعني ذلك أن الحركة قد انتهت، ولم يبقَ منها إلا رأس الحية في الخارج كمال الطاغية وينتهي الأمر- كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً".

وفي شريط آخر في العام 1991، أي خلال المعركة مع النظام، يقول داعياً عناصره في الداخل للصمود: "سدّوا عليهم المنافذ إنهم جبناء (...)، نحن مستبشرون بكثرة الضحايا. نحن مستبشرون بكثرة الدماء"، لينجو بنفسه لاحقاً نحو المنفى اللندني تاركاً الآلاف في السجون، بعدما شربوا كأس الوهم، وهم النصر والتمكين.

وهي أوهام شبيهة بتلك التي كان يرددها "الإخوان" في مصر حتى وقت قريب من أن الرئيس محمد مرسي عائد، و"الانقلاب" يترنح، وفي النهاية وجدوا أنفسهم يترنحون بين السجون والمنافي في تجلٍ واضح لحجم الصدمة النفسية الجماعية التي تعتري هذه التنظيمات عندما تفقد السلطة أو القدرة على الحركة، وهي التي تترك ندوباً غائرةً في التمثل الجماعي للسلطة لديها، ذلك أنها تصاب لاحقاً بنوع من رهاب الملاحقة وجنون الارتياب الجماعي. وكل ذلك مرده أن هذه الحركات بعيدة كل البعد من العقلانية، تقودها العواطف الساذجة والطاعة العمياء والثقة الطفولية والجهل المقدس، وهي الخصائص النفسية نفسها لقاعدتها الاجتماعية التي لم تنتهِ، ولن تنتهي إلى حين، ويمكن أن تعبّر عن نفسها مستقبلاً في أشكال جديدة تنظيمياً واجتماعياً.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية