الإسلام السياسي.. يشوّه العمل الخيري الإنساني

الإسلام السياسي.. يشوّه العمل الخيري الإنساني

الإسلام السياسي.. يشوّه العمل الخيري الإنساني


13/12/2017

 

وقع أخيراً في المغرب حدثان مهمان متعلقان بما يسمى بـ"الإحسان العمومي"، وقد تعالت أصوات كثيرة مطالبة بضرورة إعادة النظر فيه وضبطه وحسن تدبير صرفه وتحصينه من اختراق بعض التيارات الإسلامية، التي استغلته طوال عقود من الزمن، وقامت بتوظيف مشبوه له في العمل السياسي.

 

يرتبط الحدث الأول ببناء المساجد الذي يطرح إشكالاً حول مَنِ الأولى: بناء بيت لله أو بناء مستشفى للناس؟ أما الحدث الثاني فمرتبط بجمعيات المجتمع المدني التي تختص في العمل الخيري وإشكالية ارتباطها بجماعات "الإسلام السياسي".

يعتبر من غير المقبول في الوجدان الديني للمغاربة أو غيرهم أن يحتج أحد على بناء بيت لله يتعبد فيه المؤمنون

الحدث الأول أشارت إليه جريدة "الأخبار" المغربية ويتعلق ببعض المواطنين من مدينة "أكادير" اعترضوا على بناء مسجد كبير بحيّهم، الذي يعيش فيه أكثر من 40 ألف شخص. وسبب الاعتراض هو أن هذا الحي لا يتوفر على الحد الأدنى من المرافق الاجتماعية والثقافية والرياضية والترفيهية. بالنسبة لهم، فالأولى بناء مستشفى أو مسرح أو قاعة للرياضة أو مركز للشرطة أو مركب ثقافي عوض إنفاق ما يقارب أربعة مليون درهم في بناء مسجد يصلي فيه الناس.

وتعتبر هذه سابقة في تاريخ المغرب، حيث لأول مرة يعترض مواطنون على بناء مسجد، قد يوحي ذلك إلى بعض العقول أنّه مساس بمقدس ديني، وهو الصلاة التي لا يمكن أن تقام إلا في المساجد، واعتداء على ركن من أركان الإسلام كما جاء في الأحاديث النبوية. فمن غير المقبول في الوجدان الديني للمغاربة أو غيرهم أن يحتج أحد على بناء بيت لله يتعبد فيه المؤمنون، علماً أن الحديث النبوي يحث على تشييد أماكن العبادة ويرغب فيه مثل قوله -صلى الله عليه وسلم "من بنى مسجِداً بنى اللَّه له مِثْلَهُ في الْجنّة" رُوي في صحاح كتب الحديث.

حتى من الوجهة الدينية فلا يمكن بناء مسجد والناس يحتاجون إلى مستشفى يعالجون فيه

في نظري، كان هؤلاء المواطنون على حق عندما وقَّعوا عريضة يحتجون فيها على بناء مسجد في حي يفتقر لأبسط مرافق الحياة. وهو احتجاج مقبول؛ بل مطلوب، حتى من الوجهة الدينية، فلا يمكن بناء مسجد والناس يحتاجون إلى مستشفى يعالجون فيه، خصوصاً إذا كان بناء هذا المسجد يكلف أموالاً طائلة. ففي الدين حفظ الأبدان أولى من حفظ الأديان. ومن القواعد المقاصدية المشهورة هو أن حفظ الحياة سابق عن حفظ الدين في حال تعارض بينهما. وحتى من الناحية المنطقية يصعب على الإنسان الذهاب إلى المسجد والحال أنه في حاجة ماسة وعاجلة للذهاب إلى مستشفى لطلب العلاج واسترجاع لياقته البدنية ليقوى على أداء عيادته على أحسن وجه.

وحديث الرسول "من بنى مسجِدا بنى اللَّه له مِثْلَهُ في الْجنّة" كان في بداية الدعوة؛ حيث يحتاج مثل هذا الترغيب إلى تشجيع المؤمنين على بناء أماكن للعبادة في مجتمع في طور التأسيس، كما أنّ بناء المستشفى لم يكن مطروحاً وقتها، ولم يكن مرفقاً عمومياً، لذلك لو عاش رسول الإسلام هذا الزمان لأمر ببناء المستشفى في مقام أول وجعل من يقوم بذلك مثواه الجنة. فالدين في الأصل جاء للعناية بصحة الإنسان والحفاظ على عقله ونفسه ثم بعد ذلك هدايته إلى سبل الفلاح.

الإصلاح المرتقب بخصوص "الإحسان العمومي" يحتاج إلى توجيه وترشيد 

ما حصل في مدينة "أكادير" يطرح إشكالات كثيرة حول مسألة تدبير بناء المساجد في المغرب، أولهما عدم ترتيب الأوليات بينها وبين القطاعات الأخرى، مما يقتضي أن يكون هناك تنسيق بين الأعمال الحكومية المتعلقة بالشؤون الدينية والاجتماعية والثقافية والرياضية، فلا يجوز إغفال قطاع على حساب آخر ولو كان متعلقاً بالدين؛ لأن من ذلك إضرار بمصالح المواطنين.

ويطرح بناء المساجد إشكالاً موازياً، على مستوى توزيعها الجغرافي؛ حيث نصادف أحياناً تشييد أكثر من مسجد في منطقة واحدة أو في حي سكني واحد، مما يترتب عنه فائض زائد عن الحاجة، في حين إن تلك المنطقة أو ذلك الحي يحتاج إلى مرافق اجتماعية أخرى ضرورية وعاجلة.

إن الإصلاح المرتقب بخصوص "الإحسان العمومي" يحتاج إلى توجيه وترشيد، على أساس دفع "المحسنين" إلى إعطاء الأولية لبناء المستشفيات والمدارس عوض التركيز فقط على بناء المساجد، إذا كان وجودها يكفي بالغرض. هذا التوجه يتطلب تغيير الذهنية الدينية لدى "المحسنين" وأيضاً لدى الساهرين على تدبير بناء المساجد، وأيضاً لدى المكلفين بإرشاد الناس حول فعل الخيرات؛ لأن في ديننا الحنيف هناك فقه للواقع وهناك أولويات ينبغي احترام تراتبيتها.

من المستفزة للشعور الإنساني إقدام "المحسنين" على بناء مسجد عملاق مزين بالنقوشات والزخرفات، بالقرب من أحياء فقيرة

ومن المناظر المستفزة للشعور الإنساني إقدام "المحسنين" على بناء مسجد عملاق مزين بأرفع النقوشات والزخرفات، بالقرب من أحياء فقيرة وأكواخ مبنية بالقصدير والتراب، وبمحاذاة مناطق تعاني من الحيف الاقتصادي والهشاشة الاجتماعية، مما يعكس فهماً منحرفاً للدين وزيغاً عن مقاصده الشرعية، فيصبح بناء مسجد أمراً عظيماً في الدين عوض العناية بالإنسان الذي من أجله بعثت الرسل ونزلت الديانات؟ وتتحول صورة المسجد المشيد إلى جانب حي فقير إلى لوحة فنية تستفز الإحساس الجميل، وتعكس تناقضاً رهيباً بين فهم الدين والواقع، وتخلفاً كبيراً لدى "المحسنين" و"المسؤولين" المكلفين بتدبير الشأن المحلي على حد سواء. وعلى الوعاظ والمرشدين الدينيين أن يقولوا للناس إنّ من بنى مستشفى أو مدرسة أو مسرحاً أو قاعة رياضية بنى الله له أيضاً بيتاً أو بيوتاً في الجنة، حتى لا تتكرر واقع "أكادير".

أما الحدث الثاني، فهو وفاة 15 امرأة بسيدي "بولعلام" نواحي مدينة "الصويرة"، خلال توزيع إعانات غذائية على المحتاجين، والتي دأبت جمعية تسمى "أغيسي للقرآن الكريم والعمل الاجتماعي" على توزيعها كل سنة المساكين. الرأي العام المغربي تحدث كثيراً عن هذه الفاجعة وارتباطها بالعمل الخيري الذي يقوم به "المحسنون" دون رقابة من قبل السلطات المختصة.

هذا الحادث، برأيي، يثير مسألة خطيرة وهي علاقة "الحركات الإسلامية" بالعمل الإحساني أو الخيري. ويمكن القول إنّ العمل الاجتماعي لدى هذه الجماعات كان من ضمن مخططاتها الحركية المدروسة بعناية فائقة منذ نشأتها الأولى في السبعينيات من القرن الماضي، فقد انتبه "الإسلاميون" إلى أنّ العمل الخيري هو الأقرب والأنجع للتسلّل إلى قلوب الناس وكسب عطفهم ومحبتهم.

"الإسلاميون" استغلوا الشعور الديني للتخصص في العمل الاجتماعي وتكوين شبكة العلاقات المبنية على تقديم المساعدات لتحقيق أهداف سياسية

وخلال 40 سنة تقريباً، استطاعت جماعات "الإسلام السياسي" تحقيق اختراقات كبيرة في صفوف المواطنين عبر تأسيس شبكة من الجمعيات الناشطة في هذا الباب. ويمكن أن نذهب إلى "الحركات الإسلامية" ما كانت لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم من الانتشار والتمدد الاجتماعي لولا إتقانها للأعمال الاجتماعية وتفانيها في خدمة الناس وحسن توظيفها للأموال المستخلصة من الصدقات والزكوات التي يتبرع بها "المحسنون".

كان "فعل الخيرات" و"إطعام المساكين" يتم في مرحلة من تاريخ المغرب في غفلة عن عيون السلطات المختصة، هذه الأخيرة ربما كانت تغض الطرف عن مثل هذه الأعمال المرتبطة بالبر والإحسان، أخذاً بعين الاعتبار الوجدان الديني الذي لا يسمح بالاعتراض على الصدقة أو "منع الماعون".

إن "الإسلاميين" استغلوا هذه الغفلة أو هذا الشعور الديني للتخصص في العمل الاجتماعي وتكوين شبكة معقدة من العلاقات المبنية على تقديم المساعدات الاجتماعية للناس في المناسبات الدينية وغيرها، من قبيل إعذار الأطفال وتوزيع الحقائب المدرسية وتقديم وجبات الإفطار في رمضان وتوفير المساعدة للمرضى والمحتاجين إلى الخدمات الطبية.

ومع مرور الوقت أصبح هناك ارتباط متين بين "المحسنين" و"المُحسن إليهم"، بين الجماعات الإسلامية والفئات المعوزة، هذه الأخيرة تحولت إلى قاعدة صلبة داعمة للإسلاميين، ومشكلة للتيار العام لهم.

وظّف "الإسلاميون" المعمل الخيري ببشاعة في المعارك السياسية، واستغلوا ضعف وحاجة الفقراء والطبقات الهشة بتحويلها إلى حاضنة انتخابية

لقد قام "الإسلاميون" بتوظيف بشع للمعمل الخيري في المعارك السياسية، واستغلوا ضعف وحاجة الفقراء والطبقات الهشة بتحويلها إلى حاضنة انتخابية، خصوصاً بعد أن تحول جزء من الجماعات الإسلامية إلى العمل السياسي والحزبي.

وقد انتبهت السلطات في المغرب في الأعوام الأخيرة إلى معضلة الإحسان في المغرب، وحاولت أن تسحب بساط العمل الاجتماعي من تحت أقدام الإسلام السياسي، وذلك بتأسيسٍ لمبادرات وطنية للتنمية الاجتماعية وتشييدٍ لصناديق تقوم بدور الإحسان العمومي، واستدراك النقص الذي كان حاصلاً في هذا المجال.

ويجري الآن في المغرب تقديم مشاريع قوانين لترشيد عمليات "الإحسان العمومي" وحسن تدبيره وضبط مصادره وحسن توجيهه، والأهم من كل ذلك، في اعتقادنا، هو تحصينه من الاختراقات "الحركية" والتوظيفات السياسية.

بقي أن نشير مثلاً إلى أن نجاح "حزب العدالة والتنمية" المغربي، على سبيل المثال، يرجع جزء منه إلى تفوقه على باقي الفرقاء السياسيين في مسألة توظيفه الجيد والفعال للعمل الاجتماعي واستغلاله في بناء علاقات مُعقدة وعريضة داخل طبقات المجتمع المغربي.

هذا التفوق اكتسبه "العدالة والتنمية" من حركته الأم وهي "التوحيد والإصلاح"، التي يدخل العمل الاجتماعي في صلب عملها التنظيمي والدعوي، وهو من المبادئ المنصوص والمؤكد عليها في أدبياتها الحركية وأوراقها التنظيرية، ويكفي الرجوع إلى "ميثاق" الحركة، وهو بمثابة دستور للعاملين فيها، للوقوف على تأصيلاته الشرعية ومقاصده وأبعاده الاستراتيجية.

"التوحيد والإصلاح" استغل هذا"الإحسان وقام بتوظيفه لاحقاً عندم أسس حزباً سياسياً وهو "العدالة والتنمية"

وفي باب "مجالات العمل" هناك باب خاص في ميثاق الحركة بـ"العمل الاجتماعي والخيري"، وترى أنه من الضروري أن يصرف الإحسان إلى "الضعفاء والمرضى والأرامل والأيتام، وإسعاف المنكوبين بالحرائق والزلازل والفيضانات والحروب، وإعانة الطلاب الفقراء على إتمام دراستهم والعناية بالأسرة والطفولة، وتزويج الشباب والفتيات وإعانتهم على فتح بيوتهم، ومحاربة الجهل والفقر والمرض".

وهذه هي المجالات بالضبط التي اشتغلت عليها هذه الجماعة طوال عقود من الزمن، وراكمت فيها تجربة معتبرة، قد يكون عملها هذا مقبولاً من وجهة الدين الذي يحض على "طعام المسكين"، ومقبولاً أيضاً اجتماعياً؛ لأنه يساهم إلى جانب الدولة في دعم الفقراء والمساكين، لكن وجه الاعتراض على "التوحيد والإصلاح" هو أنها استغلت هذا "الإحسان" وقامت بتوظيفه لاحقاً عندما أسست حزباً سياسياً هو "العدالة والتنمية". هذا الحزب وجد قاعدة عريضة تشكلت عبر سنوات من العمل الاجتماعي وتحولت في نهاية المطاف إلى كتلة ناخبة تحت الطلب زمن الاستحقاقات الانتخابية.

والأخطر من ذلك هو أن هناك بنداً في ميثاق إخوان "التوحيد والإصلاح" ينص صراحة أن من وسائل تحقيق أهداف عمليات الخير والإحسان التي تقوم بها هي "إنشاء الجمعيات التي تؤطر هذا العمل وتنظمه بصفة قانونية واضحة". وهذا ما حصل بالفعل أيضاً عبر تاريخ هذه الحركة من خلال إنشاء سلسلة من الجمعيات تقوم بتنزيل هذا البند من دستورها على أرض الواقع وتفعيله على أحسن وجه.

لقد قامت الحركة باستغلال الدين واستغلال العمل الخيري في السياسة، والنتيجة، أنها سقطت في تدنيس هذه المجالات الفاضلة، وخلق الشبهات في عقول الناس حولها، بكل التبعات الميدانية لهذا التدنيس، سواء كانت تبعات اجتماعية أو ثقافية أو سياسية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية