الإسلام والجمهورية الفرنسية وتحقيق العدالة

الإسلام والجمهورية الفرنسية وتحقيق العدالة

الإسلام والجمهورية الفرنسية وتحقيق العدالة


26/02/2024

ترجمة: علي نوار

عبارات "إسلام التنوير" في البلد الأوروبي، و"الإسلام القادر على التعايش بسلام مع الجمهورية" و"تحرير الإسلام الفرنسي من التأثير الخارجي" التي تفوّه بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، احدثت وما تزال، ردود فعل عديدة في العالم الإسلامي؛ فلاقت إجابات من جانب عدد من زعماء الدول، وفي مقدّمتهم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي لا يفوّت أيّة فرصة لتنصيب نفسه مدافعاً عن الإسلام.

يُعدّ الاعتداء الهمجي باستهدف كنيسة في مدينة نيس، وقتل صمويل باتي، أحدث النماذج على تداعي النظام الاجتماعي وعجزه عن تخفيف الشعور بتردّي الأوضاع والتطرّف

لكن وراء تصريحات ماكرون تأتي معطيات مختلفة: مقتل معلّم التاريخ والجغرافيا، صمويل باتي، وهي جريمة مروّعة لا يمكن وصفها بأقلّ من ذلك، سببها إقدامه أثناء حصّة عن حرية الصحافة والتعبير على عرض رسوم كانت قد نشرتها مجلة "شارلي إبدو" تسخر فيها من النبي محمّد.

على أنّ المشكلة لا تتعلّق بالنقاش حول إدماج الإسلام في الجمهورية الفرنسية، بل المعركة ضدّ الأصولية في الضواحي وغياب الحوار الحقيقي بين السياسيين والقيادات الدينية؛ لذا فإنّ أيّة تصريحات علنية في هذه المسائل تتطلّب قدراً معيّناً من المسؤولية، سواء من ناحية الساسة أو وسائل الإعلام الساخرة.

مسلمو فرنسا والمحنة الكبرى

ووفق كتاب "مسلمو فرنسا. المحنة الكبرى. في مواجهة الإرهاب"، الذي نُشر عام 2017؛ فإنّ النضال الذي خاضته منظّمات إسلامية، الإسلام المؤسسي، في فرنسا عقب اعتداءات 2015 الإرهابية، كانت في المسار نفسه لأهداف باريس، رغم أنّها لم تحظَ بالثقة الكاملة. والواقع أنّ لا وجود للمواطنين الفرنسيين المسلمين: وفي دولة رفعت العلمانية كلواء للاحترام، لا يبدو أنّ التقدير الكامل يكفي اليوم، في 2020، كي يمكن اعتبار هذه الشريحة مواطنين على القدر نفسه من المساواة.

تعترف الدولة الفرنسية بعد منح الجنسية، بعدد من الحقوق، بغضّ النظر عن أصل وهوية ودين الشخص المكتسب لجنسيتها، ومن منظور ما؛ فإنّ هذه الرؤية علمانية وديمقراطية للغاية، تعكس آراء فولتير ونظرته للاحترام. لكن ومن منظور آخر؛ فإنّ هذا الأمر غير حقيقي، لسببين على الأقل؛ الأول: هو أنّ غياب الاعتراف بهوية المواطنين الفرنسيين من أصول أجنبية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بشعور بالتفوّق بين الفرنسيين تجاه هؤلاء الوافدين من المستعمرات السابقة؛ فقد كانت فرنسا هي القوة المستعمرة لعدد كبير من الدول ذات الأغلبية السكانية من المسلمين، بداية من المغرب وحتى لبنان وسوريا، مروراً بتونس والجزائر.

اقرأ أيضاً: فرنسا: دعوات لحظر جماعة مقربة من الإخوان... ما القصة؟

وخلال الفترة التاريخية، الحربين العالميتين وما بينهما، كانت أغلب هذه الدول مثل باقي بلدان غرب أفريقيا، تحت السيطرة الفرنسية، ولم تكن حقيقة عدم كون أبناء هذه الشعوب مواطنين فرنسيين عائقاً أمام آلاف الجنود المسلمين من المستعمرات عن الالتحاق بالجيش الفرنسي خلال الحربين.

اقرأ أيضاً: كيف ستكسر فرنسا التأثير الخارجي على مساجدها؟

أما السبب الثاني؛ فهو أنّ منح الجنسية الفرنسية لا يتضمّن اعتراف الدولة بأهمّيتك، وأن تقيّم عملية اندماجك في المجتمع، أو أن تصنع هويّتك فارقاً في باريس، أو حتى أن تلعب قصّتك دوراً في دولتك الجديدة، تكتسب كلّ هذه العوامل أهمية كبيرة من الجانب النفسي لأيّ شخص.

للدولة وجود جزئيّ في حياة المهمّشين

وكانت نتيجة هذه المعطيات؛ أن أصبح للدولة وجود جزئيّ في حياة هؤلاء المواطنين المهمّشين، المقيمين داخل تجمّعات مغلقة في الضواحي، مثل التعليم والصحة ونظام التأمين الاجتماعي، فقط ينظر الفرنسيون لهؤلاء كأقران لهم حين يفوز الـ "بلوز"، المنتخب الوطني متعدّد العرقيات، بكأس العالم.

اقرأ أيضاً: فرنسا والإسلام والعلمانية: الإقصاء ليس سلوكاً ديمقراطياً

ليس الغرض هنا تبرير العنف، غير المقبول بكافّة أشكاله، لكن يجدر التأمّل في أوجه غياب التناغم بين الديمقراطية والعلمانية وعدم اهتمام الدولة بالمواطنين "من الدرجة الثانية"، وهو ما نتج عنه تحويل كلّ ذلك إلى وقود يزيد من وطأة الكراهية والسخط، ويستغلّ المتطرّفون هذه المشاعر بأسوأ صورة ممكنة، لتبرير ممارسات مثل الهجوم الذي وقع في 29 تشرين الأول (أكتوبر)، واستهدف كنيسة في مدينة نيس، وأودى بحياة ثلاثة أشخاص.

يُعدّ الاعتداء الهمجي، وقتل صمويل باتي، أحدث النماذج على تداعي النظام الاجتماعي وعجزه عن تخفيف الشعور بتردّي الأوضاع والتطرّف.

تمّ الالتفات إلى المشكلات الاجتماعية والتعليمية، بيد أنّه ما تزال هناك مشكلة في الأفكار قبل كلّ ذلك، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال تبرير مقتل صمويل باتي، لكن ينبغي الانتباه إلى نقطة أخرى، وهي حقيقة أنّ المجتمع الفرنسي متنوع للغاية، ويتعايش فيه أشخاص بمعتقدات ويعتنقون أديان مختلفة؛ هل كانت الإستراتيجية التعليمية الوحيدة للحديث عن حرية التعبير بالمدارس تتضمن عرض صور مسيئة للنبي محمد؟ جرح مشاعر ستّة مليون مواطن فرنسي لا يستوعبون عنصر المرح والفكاهة في الاستهزاء بأقدس شخصيات دينهم.

لا يمكن للحرية أن تضرب المساواة

بالطبع، الأمر بالنسبة إلى هؤلاء ليس تعليم المدنية والتحضّر، بل التلقين، حرية التعبير لا علاقة لها بذلك، لا يمكن للحرية أن تضرب المساواة والأخوة تحت مسمّى العلمانية.

لم تكن ردّة فعل الشاب الشيشاني، الذي نفّذ جريمة قتل باتي، مناسبة لما فعله المعلّم، وتعبّر عن تطرّف لا مبرّر له، على أنّ الزعم بأنّ حرية التعبير تضفي مشروعية على السخرية من مقدّسات قطاع من المجتمع يكشف بوضوح الخلط بين سوء استغلال هذه الحرية وبين الفكر العلماني، الأمر لا يختلف كثيراً عندما كان المؤرّخ الفرنسيّ، إرنست رينان، يتحدّث عن الإسلام خلال القرن التاسع عشر، بينما كان بالكاد يعرف شيئاً عنه.

الإسلام أفرز، على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، عدّة "تيارات إصلاحية"، إلّا أنّ القوى الاستعمارية الأوروبية دأبت على تقوية الحركات المتشدّدة

لذا تأتي كلمات ماكرون في الإطار نفسه لعدم الاتساق؛ فإذا كان "إسلام التنوير" ليس له وجود في العالم العربي-الإسلامي، فإنّ ذلك يبثّ معنى ما، لا سيما أنّ الإسلام أفرز، على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، عدّة "تيارات إصلاحية"، إلّا أنّ القوى الاستعمارية الأوروبية دأبت على تقوية الحركات المتشدّدة، من منطلق "مُحتلّ جاهل أفضل من مُحتّل قادر على استخدام العقل"، بغرض السيطرة على المستعمرات.

اقرأ أيضاً: لماذا تتعرض فرنسا للإرهاب؟

إنّ الأمر برمّته لا يتمحور حول ما إذا كان الإسلام في حاجة إلى القدرة على العيش بسلام في الجمهورية، بل مدى قدرة الجمهورية الفرنسية على تحقيق العدالة عن طريق إدماج جميع المواطنين فيها، واحترام مقدّساتهم.

مستوى التطرّف الإسلاموي في فرنسا مخيف ويجب رفضه ومواجهته، على الجانب الآخر، ومن أجل إحراز تقدّم، تجب مواصلة العمل بهدف تسوية المشكلات والآثار الناتجة عن عقود من عدم الاندماج وأزمة المنظومة الاجتماعية.

مصدر الترجمة عن الإسبانية:

https://bit.ly/3pHvrjG



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية