الإصلاح الزراعي في مصر.. لماذا انحاز الضابط إلى الفلاح؟

مصر

الإصلاح الزراعي في مصر.. لماذا انحاز الضابط إلى الفلاح؟


21/07/2019

تسارعت في العصر الحديث التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مصر وترافقت التغيرات الداخلية مع التأثّر بما يجري على المستوى الدولي، وبعدما بلغ الاستغلال الإقطاعيّ والرأسمالي ذروته مع انتصاف القرن العشرين، حدث التحوّل الأهم مع قيام ثورة قادها ضباط قرروا قلب الأوضاع، فكيف ولِم كان ذلك؟

من محمد علي إلى الاحتلال
توجّه محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة، لمحاربة نظام الالتزام الإقطاعيّ في بداية عهده (منذ عام 1814 تحديداً)؛ سعياً منه لتقوية الدولة وزيادة حصيلة الضرائب العائدة لخزينتها، إلّا أنّه تراجع عن الإصلاحات وعاد لإقطاع الملكيات الكبيرة للمتنفذين وأفراد أسرته، تحت مسميّات مختلفة (الأبعاديّة، الجفتلك، الوسية)، وفي الأعوام الأخيرة من حكمه، وبعد هزيمة مشروعه للتوسع في الخارج (بعد 1840)، اضطر لاتخاذ خطوات لإعادة بناء وتعزيز سلطته في الداخل، ومن ذلك استحداث نظام باسم "العُهدة"، كان أشبه بالعودة من جديد لنظام الإقطاع.

بفعل تطبيق الإصلاح الزراعي ارتفع نصيب فقراء وصغار الفلاحين من الأراضي الزراعية ليصل إلى 57.1 في المئة

تسارعت التحوّلات مع دخول البلاد، عام 1882، تحت حكم الاحتلال الإنجليزي، مع بدء سياسة تحويل مصر إلى مستعمرة زراعيّة، فتكاثرت الشركات الأجنبيّة التي امتلكت آلاف الفدادين لتنفيذ مشروعاتها، وفي سبيل تحقيق ذلك، كان الحُكم البريطاني قد سارع إلى إقرار قانون للملكيّة الخاصّة للأرض، وإلغاء أنظمة المُلكيّة السابقة، ولكنّ حالة الضعف التي كان الفلاحون قد انتهوا لها بسبب نظام العُهدة أفقدتهم القدرة على التملك ومنافسة الإقطاعيين والمتنفذين، فظهرت سريعاً طبقة من كبار المُلاك، وترسّخت هذه الطبقة وتعززت سيطرتها على الأراضي الزراعيّة عبر العقود اللاحقة، ومع انتصاف القرن العشرين، وعشيّة ثورة 23 تموز (يوليو) 1952، كان الحال قد انتهى إلى سيطرة فئة محدودة على المساحة الأعظم من الأراضي الزراعية.

تحوّل الفلاح المصري في عهد الاحتلال الإنجليزي إلى عامل مُستَغلّ

عشيّة الثورة... التفاوت يبلغ ذروته
وبحسب سجلات الأراضي الأخيرة في العهد الملكيّ؛ كان عدد صغار الفلاحين، الذين لا تتجاوز مُلكيّة الواحد منهم الخمسة فدادين، قد وصل إلى نحو (2.6) مليون فلّاح، يشكّلون ما نسبته (94.3%) من إجماليّ عدد الملّاك، إلّا أنّ مجموع مُلكيّاتهم من الأراضي لم يكن يتجاوز ما نسبته الـ (35.4%) من إجماليّ الأراضي الزراعيّة في البلاد، في حين أنّ الـ (10,000) ملّاك أصحاب المُلكيّات الأكبر، ونسبتهم لا تتجاوز النصف في المائة (0.5%) من إجمالي الملّاك كانت تصل حيازاتهم (مُلكيّاتهم) إلى (35.0%) من إجمالي الأراضي الزراعية (1.1 مليون فدّان من أصل 6 ملايين فدّان)، أما الـ (1.0%) من الملّاك أصحاب الحيازات الأكبر، فكانت تصل نسبة الأراضي الزراعية التي في مُلكهم إلى 45.0% من إجمالي الأراضي في البلاد!، وفق ما أورد عبدالرزاق الهلالي في كتابه "قصة الأرض والفلاح والإصلاح الزراعي في الوطن العربي".
الثورة تحكم
وبعد قيام ثورة 23 تموز (يوليو) عام 1952 مباشرة، وفي شهر أيلول (سبتمبر) من العام ذاته؛ قام مجلس قيادة الثورة بإصدار قانون الإصلاح الزراعي الأول في البلاد، بموجب هذا القانون؛ تمّ تحديد الملكية الزراعية بمئتي فدان للفرد وأربعمئة للأسرة، وتقرّر نزع ما زاد عن ذلك وتوزيعه على الفلاحين، مقابل دفع التعويض عن الأراضي المنتزعة، وقد أُنشئت جمعيات الإصلاح الزراعي لتتولى عملية استلام الأرض من المُلّاك بعد ترك النسبة التي حددها القانون لهم وتوزيع باقي المساحة على الفلاحين العاملين بالأرض نفسها.

اقرأ أيضاً: ما أبرز تحوّلات مُلكيّة الأرض في مصر قبل ثورة يوليو؟

وبتطبيق أحكام القانون، آلت إلى الدولة مُلكيّة (‏1.2) ‏مليون فدان، خلال الفترة من ‏1952‏ حتى نهاية ‏1957، ودخلت ضمن هذه المساحة أراضٍ قدم أصحابها اعتراضات قضائية لمحاكم الإصلاح الزراعي، والتي قضت بإعادة حوالي ‏200‏ ألف فدان إليهم‏، لعدم قانونية الاستيلاء عليها‏.

قامت هيئة الإصلاح الزراعي، المسؤولة عن إدارة هذه الأراضي والإشراف عليها، بتوزيع حوالي (‏838)‏ ألف فدان في صورة مُلكيّات صغيرة‏، استفاد من ملكيتها (‏368)‏ ألف أسرة، يبلغ عدد أفرادها حوالي مليوني فرد‏، بحسب ما ورد في كتاب "الإصلاح الزراعي والإنماء في الشرق الأوسط"، لدورين وارينز وخيري حمّاد.

أدّى الإصلاح الزراعي إلى إكساب نظام ثورة يوليو شعبية واسعة بين طبقات الفلاحين

وبعد تسعة أعوام، عام 1961، صدر القانون الثاني للإصلاح الزراعي، والذي تقرر بموجبه تخفيض الحدّ الأعلى لملكيّة الفرد إلى مئة فدان، وبموجب هذا القانون آل إلى ملكية الدولة حوالي 214 ألف فدان، وتبعت ذلك حيازة الدولة المزيد من الأراضي، بعد صدور قانون منع تملك الأجانب عام 1963، فبلغ مجموع الأراضي المستولى عليها بعد القانونين (944,487)، وُزّع منها 628,137 فداناً، وانتفعت من هذا التوزيع 231,862 عائلة، قوامها 1,159,310 مواطنين، وفق المصدر السابق.
وبفعل تطبيق الإصلاح الزراعي، ارتفع نصيب فقراء وصغار الفلاحين من الأراضي الزراعية ليصل إلى 57.1 في المئة عام 1965، بعدما كان 35.4 في المائة، بحسب ما ذكر عبدالوهاب الداهري في كتابه "اقتصاديات الإصلاح الزراعي".
مقاومة مضادة
لم يكن تطبيق الإصلاحات مهمَّة سهلة؛ فكانت عائلات الملاك تستعين بمختلف الوسائل للتحايل على إجراءات الإصلاح، فلجأت إلى إخفاء الملكيات عبر التحايل والخداع للاحتفاظ بها، كما استعان بعض الإقطاعيين في القرى بأساليب القوة واستعانوا بالبلطجيّة لقهر الفلاحين، وهنا ظهرت حركات متفرقة للمقاومة من قبل الفلاحين ساهم في دعمها نشطاء من الحركات اليساريّة، وبرزت ثورة الفلاحين في بلدة كمشيش بمحافظة المنوفية، والتي تخللتها سلسلة من المعارك بين الفلاحين والعائلات الإقطاعية في البلدة، انتهت إلى اغتيال صلاح حسين في 30 نيسان (أبريل) 1966. وإثر ذلك؛ تحرّكت الدولة وقامت بتشكيل لجنة خاصة باسم "لجنة تصفية الإقطاع"، برئاسة المشير عبد الحكيم عامر، وكانت مهمتها رصد المخالفات والتحايلات على قانون الإصلاح الزراعي، ما أدى إلى مزيد من الضبط لعملية الإصلاح وزيادة حصيلة الأراضي التي آلت إلى الدولة بغرض إعادة توزيعها.
وعام 1969؛ أقرّ قانون ثالث للإصلاح الزراعي خفض المساحة من جديد إلى حدّ أقصى (50 فداناً للفرد و100 للأسرة).

الرئيس جمال عبد الناصر يوزّع عقود مُلكيّة الأراضي على الفلاحين

إلى جانب التغيّرات الاجتماعيّة والسياسية؛ حمل الإصلاح الزراعي فوائد وأهدافاً اقتصادية عديدة؛ فإضافة إلى تحقيق مبادئ العدالة الاجتماعية ومحو التفاوت في ملكية الأرض والقضاء على صور الاستغلال، كان الإصلاح يهدف للقضاء على رغبة الملاك في أن يحوّلوا ثرواتهم الى أراضٍ وعقارات غير منقولة، وإقناعهم بضخّ أموالهم بالاستثمار بما يعود على مجمل الاقتصاد بالفائدة؛ برفع حجم الناتج المحلي الإجمالي، ورفع معدلات التشغيل، ومعدّلات الأجور.

اقرأ أيضاً: من التجارة إلى الإقطاع... كيف حصلت الانعطافة الكبرى في التاريخ الاقتصادي للمشرق؟
كان الإصلاح الزراعي إجراء ثورياً في التاريخ الاقتصادي للبلاد، وقد استدعى موجة من النقد جاءت بالأساس من قبل المتضررين من طبقة كبار المُلاك؛ فرأوا أنّ نتيجة الإصلاح كانت انخفاض الإنتاج، وذلك بسبب تفتيت الملكية وإنشاء حيازات صغيرة، كانت السبب الأساسي لإعاقة التنمية الزراعية، خلافاً لما كان مرجواً من تعظيم الاستثمار والصناعات الزراعيّة في حال استمرار سيطرة رؤوس الأموال والحيازات الكبيرة، وقد يتفق المشرفون أيضاً في تطبيق قوانين الإصلاح على هذا، ولكن مع التأكيد على أنّ تعظيم الإنتاج لم يكن هو المقصد الأول بالنسبة إلى الثورة، بقدر ما كان المضيّ قدماً نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على التفاوت والاستغلال.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية