الإمارات واستشراف المستقبل: خط سكة حديد البلطيق نموذجاً

الإمارات واستشراف المستقبل: خط سكة حديد البلطيق نموذجاً


01/12/2021

تحل الذكرى الخمسون (اليوبيل الذهبي) لتأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) الجاري، ليكتمل نصف قرن من التنمية والإنجاز، جعل الإمارات من أهم دول الشرق الأوسط والعالم، حتى صارت نموذجاً تنموياً يُتطلع إليه عالمياً.

اقرأ أيضاً: الإمارات وإيران... هل تغير طهران من سياستها المعادية؟

وتشترك الإمارات مع عدّة دول خليجية في وجود الثروة النفطية، ولكنّ ما حققته خلال نصف قرن لم يتأت من هذه الثروة فقط، بل من خلال وجود رؤية استشرافية في إدارة الدولة، والاستفادة من القدرات البشرية الخلاقة من جميع دول العالم.

ويعتبر الاهتمام الإماراتي بمشروع خط سكة حديد البلطيق نموذجاً يوضح بجلاء التفكير الاستشرافي للمستقبل الذي تتبناه الدولة، والذي مكنّها من تحقيق المكانة المرموقة التي تعيشها.

سكة حديد البلطيق

هو مشروع أوروبي لبناء خط سكة حديد للقطارات السريعة، يعمل بالكهرباء، لنقل الأفراد والبضائع، بين دول البلطيق الثلاث، بداية من عاصمة جمهورية إستونيا، تالين، شمالاً، مروراً بجمهورية لاتفيا، ثم جمهورية ليتوانيا، حتى الاتصال بالشبكة الأوروبية الموحدة للسكك الحديدية السريعة عبر دولة بولندا، وتُقدر الاستثمارات في المشروع بنحو 5 مليارات يورو، وتتحمل الدول الثلاث والاتحاد الأوروبي تكاليف المشروع.

مسار ربط سكة حديد البلطيق بغرب أوروبا

ويهدف المشروع إلى تحقيق مزيد من الدمج للدول الثلاث في الاتحاد الأوروبي؛ بدعم حركة التنقل للأفراد والبضائع بشكل مباشر. ولا ترتبط هذه الدول بخطوط سكك حديدية مباشرة مع أي من دول الاتحاد، بسبب اختلاف طبيعة الأنظمة والقياسات المستخدمة في السكك بين البلدين؛ حيث تعود السكك في هذه الدول إلى حقبة الاتحاد السوفيتي، ولهذا ترتبط بروسيا الاتحادية بخطوط مباشرة.

اقرأ أيضاً: خمسينية اليوبيل.. الإمارات نماءات ونجاحات

ويعتبر المشروع هو الأكبر في مجال البنية التحتية في دول البلطيق في المائة عام الأخيرة، ويبلغ طوله 870 كم، وتبلغ سرعة قطارات الركاب 249 كم/ س، وسرعة قطارات البضائع 120 كم/ س.

ممر نقل عالمي

ويعتبر المشروع جزءاً من ممر بحر الشمال والبلطيق في الاتحاد الأوروبي، عبر الاتصال بين إستونيا وفنلندا شمالاً، والتي تطل على الممر القطبي الشمالي، الذي ينتج عن ذوبان الجليد في فصل الصيف، ولتحقيق هذا الاتصال يواجه المشروع عقبة كبرى؛ وهي إنشاء نفق تحت بمياه خليج فنلندا بطول 50 كم، لربط مدينة تالين بالعاصمة الفنلندية هلسنكي.

الإمارات بعد أن أدركت جدية مشروع ربط البلطيق بأوروبا ودخول الصين على الخط، سعت مبكراً لأن يكون لها موطئ قدم في منطقة البلطيق

ويقول الصحفي والمحلل السياسي والاقتصادي، ياسر أبو معيلق: "هذا المشروع يتوقف على إنجاز نفق يربط العاصمة الإستونية تالين بالعاصمة الفنلندية هلسنكي تحت مياه خليج فنلندا. وفي أقصر حالاته، سيبلغ طول هذا النفق حوالي 50 كم، ما سيجعله أطول نفق قطارات تحت الماء في العالم. وتكلفة بنائه حوالي 10 إلى 13 مليار يورو، ووافق الاتحاد الأوروبي على تمويل دراسات جدوى لهذا المشروع".

الصحفي ياسر أبو معيلق: الإمارات سعت مبكراً لأن يكون لها موطئ قدم في منطقة البلطيق

وأضاف لـ"حفريات": "تتوقع التحليلات أن يتم بناء النفق في العقد الثالث من قرننا الحالي (بعد 10 إلى 15 عاماً من الآن)، وهذا يعني ربط العاصمتين تالين وهلسنكي ببعضهما البعض، وقيام مدينة كبرى (ميغابوليس) موحدة بينهما، خاصة في ظل التشابهات الثقافية واللغوية بين الإستونيين والفنلنديين، والحركة النشطة بين البلدين، وكون هذين البلدين يمتلكان أكبر نسبة من شركات التقنية الرائدة التي تزيد قيمتها عن مليار دولار".

اقرأ أيضاً: يوم الشهيد: الإمارات تشعل قناديل الفخر بأبنائها البواسل

وبحسب الموقع الرسمي للمشروع "Rail Baltica"، تم تصميم الخط الحديدي ليصبح جزءاً من ممر شبكة بحر الشمال الأوروبي (TEN-T) أو بحر البلطيق الأساسي، الذي يربط أكبر موانئ أوروبا في روتردام وهامبورغ وأنتويرب، عبر هولندا وبلجيكا وألمانيا وبولندا، مع دول البلطيق الثلاث، بالإضافة إلى الاتصال بفنلندا عبر وصلات الشحن البحري القصيرة لخليج فنلندا، مع إمكانية ربط ثابت مستقبلي بين تالين وهلسنكي.

اقر أيضاً: يوم الشهيد... الإمارات تستذكر تضحيات شهدائها وتخلد جهودها لنشر السلام

ويمهد الطريق للربط المستقبلي مع ممر القطب الشمالي الناشئ، لا سيما في ضوء الآفاق المربحة لتطوير الطريق البحري البديل للدائرة الشمالية بين أوروبا وآسيا. ويوفر ربط بين بحر البلطيق والبحر الأدرياتيكي، ويربط دول البلطيق بأسواق جنوب أوروبا. ويعزز أوجه التآزر بين تدفقات الشحن بين الشمال والجنوب والغرب والشرق، مما يخلق فرصاً جديدة لإعادة الشحن والخدمات اللوجستية على طول طرق التجارة البرية في أوروبا وآسيا.

أين الإمارات من ذلك؟

ويقول الصحفي والمحلل الاقتصادي والسياسي أبو معيلق: "رأينا التحرك الدبلوماسي الإماراتي النشط مؤخراً في عدد من الملفات السياسية، وما أثاره من حيرة لدى الكثيرين، بالإضافة إلى الإعلان عن صفقات واستثمارات بمليارات الدولارات في دول مثل تركيا وسوريا والعراق. ما طرح سؤالاً: ما الذي تسعى له الإمارات؟".

زيارة الوفد الإماراتي إلى إستونيا

وباعتقاده أنّ "الإمارات تحاول استشراف المستقبل، وأنها تخطط له منذ عدة أعوام، وتحديداً منذ العام 2018، عندما بدأت بتحسين علاقاتها بشكل ملحوظ مع دول البلطيق، لاسيما إستونيا، التي أبرمت معها عدداً من الاتفاقيات للتعاون في مجال البحث العلمي والاستثمار والحد من الازدواج الضريبي".

الصحفي ياسر أبو معيلق لـ"حفريات": ربما تكون الإمارات أقرب نموذج عربي لما يمكن تسميته بـ "زرع بذرة والعودة إليها شجرة بعد مائة عام"

ولماذا إستونيا؟ يجيب أبو معيلق: "إستونيا هي العقدة في المشروع اللوجستي الأكبر في تاريخ أوروبا؛ سكة حديد البلطيق. لهذا، توقعي هو أنّ الإمارات بعد أن أدركت جدية مشروع ربط البلطيق بأوروبا ودخول الصين على الخط، سعت مبكراً لأن يكون لها موطئ قدم في منطقة البلطيق، على أمل بناء علاقات قوية مع تلك الدول تمكّنها فيما بعد، عند اكتمال نفق تالين - هلسنكي، وانطلاق مشروع "سكة حديد البلطيق"، من إبرام صفقات وعقود والفوز بأكبر قطعة ممكنة من الكعكة اللوجستية العملاقة التي ستنتج عن هذا المشروع الطموح".

الإمارات: استشراف المستقبل

وفي تموز (يوليو) الماضي، زار وفد من دولة الإمارات، برئاسة مساعد الوزير للشؤون الاقتصادية والتجارية في وزارة الخارجية والتعاون الدولي جمهورية إستونيا، في إطار تعزيز التبادل التجاري، والاستثماري، واستكشاف الفرص الاقتصادية بين البلدين، وضم الوفد ممثلين عن وزارة الاقتصاد، ووزارة البيئة والتغير المناخي، ووزارة التربية والتعليم، وغرف التجارة والصناعة.

اقرأ أيضاً: الإمارات في عيد اتحادها الخمسين

وتطرقت الاجتماعات إلى رغبة الجانبين في تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية، مع التركيز على القطاعات المتطورة مثل الذكاء الاصطناعي، والفضاء، وتقنية المعلومات، والتنمية الزراعية المستدامة، كما أتفق الطرفان على إنشاء مجلس رجال أعمال إماراتي - إستوني.

وعقد الجانبان العديد من الاجتماعات الثنائية، وكان آخرها على هامش فعاليات إكسبو دبي 2020، بعقد المدير العام لوكالة الإمارات للفضاء محادثات رفيعة المستوى مع وفد رسمي من جمهورية إستونيا، ضم عدداً من كبار المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال، بهدف تحفيز التعاون الفضاء بين البلدين وتبادل المعارف والخبرات المتعلقة بعلومه وتقنياته.

د. أحمد الباز: هذه موجهات علاقات دول المنطقة القادمة

وتعليقاً على ذلك، يرى أبو معيلق: أنّ "انتباه الإمارات واستعدادها دبلوماسياً واقتصادياً لاحتمال ظهور بديل بلطيقي اسكندنافي لقناة السويس، في حد ذاته دلالة عما وصلت له هذه الدولة من بُعد نظر".

وأفاد لـ"حفريات": "لطالما تمنيت وتمنى كثيرون، ومنذ فترة طويلة، أن يكون للقادة والحكام العرب بعد النظر والقدرة على التخطيط طويل الأمد التي نراها في دول غربية ولدى نمور آسيا، وربما تكون الإمارات أقرب نموذج عربي لما يمكن تسميته بـ "زرع بذرة والعودة إليها شجرة بعد مائة عام".

اقرأ أيضاً: بعد الإمارات... تركيا تنوي التقارب مع هذه الدول

ومن جانبه، يقول مدير السياسات بمركز الإنذار المبكر للدراسات السياسية والأمنية، أحمد الباز لـ"حفريات": "الكلمات الدلالية التي ستبدأ في قيادة سياسات دول المنطقة وستكون الموجه لعلاقاتها، هي: الموانئ والغاز والاستثمارات البينية والمضائق والممرات الملاحية والخدمات اللوجستية وسلاسل التوريد وصناديق الثروة السيادية".

وفي 25 من الشهر الماضي، وقعت طيران الإمارات اتفاقية شراكة بالرمز مع الخطوط الجوية البلطيقية "airBaltic " لتوفير سفر سلس من وإلى لاتفيا وإستونيا وليتوانيا وفنلندا.

ودولة إستونيا هي إحدى دول البلطيق الثلاث، إلى جانب لاتفيا وليتوانيا، وتأسست علاقاتها الدبلوماسية مع الإمارات في عام 2019، بافتتاح سفارة في أبو ظبي، وشهدت علاقات الدولتين نمواً كبيراً منذ ذلك، وقبل ذلك في 2018 تم افتتاح مكتب تجاري لإستونيا في دبي، وتأسيس منتدى الأعمال الإماراتي الإستوني، وتعمل الدولتان على تأسيس مجلس أعمال مشترك.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية