الانتحار في العالم العربي يُغيّب الضحايا والوثاثق

انتحار

الانتحار في العالم العربي يُغيّب الضحايا والوثاثق


03/10/2018

صارت مشاهد الانتحار في الأماكن العامة بالقاهرة وغيرها من المدن العربية، مستساغة كما لم تكن من قبل، وهو ما يجعل الباحثين والمتخصصين ينظرون للأمر كظاهرة يجب الوقوف عليها، بعدما خرج الانتحار عن كونه مأساة شخصية تمارس سراً، ليصير فعلاً احتجاجياً يمارس جهاراً أمام الجموع.

اقرأ أيضاً: هؤلاء أكثر عرضة للاكتئاب والانتحار

كان آخر هذه الحوادث، لقطة الفيديو التي تظهر فتاة تلقي نفسها تحت عجلات القطار، لتلقى مصرعها وهي لم تتجاوز الثلاثين عاماً، وتنضم إلى طابور المنتحرين الذين ازدادت أعدادهم في أعقاب الحراك السياسي في الوطن العربي، الذي بدأ بنيران أشعلت جسد محمد البوعزيزي في تونس، وانتقلت إلى مصر، ليتحول الانتحار إلى رد فعل على ممارسات لا يرضى عنها الشباب، فبعد أن أغلقت كل أبواب الاحتجاج صار الانتحار وحده الصرخة المسموعة، لينتقل من خلف الأبواب المغلقة إلى الأماكن العامة، وهو ليس إلاّ دلالة على أنها ضجة يريد المنتحر إيصالها للجموع.

الباحث ياسر ثابت يشير بأصابع الاتهام إلى الأنظمة التي لا تواجه مثل هذه الظاهرة، إلّا بتصدير الفتاوى الدينية لتحرم الانتحار

على أثر هذه الظاهرة التي باتت تهدد شباب المجتمع العربي وتلتهم زهرة أعمارهم، نظم مركز "دال" في القاهرة محاضرة بعنوان "الانتحار في العالم العربي"، الخميس الماضي، استضافت الباحث والكاتب الصحافي الدكتور ياسر ثابت، رئيس تحرير قناة "القاهرة والناس"، والذي عمل على أبحاث مكثفة حول موضوع الانتحار في العالم العربي، ونشر عنها كتابه الصادر عام 2012 عن دار التنوير "شهقة اليائسين"، حيث تناول الانتحار بشكل أكاديمي كأحد أخطر الظواهر التي تواجه عالمنا العربي في الألفية الأخيرة. وأدارات المحاضرة الصحفية الزميلة منى يسري.

الصحافية منى يسري والباحث د.ياسر ثابت (حفريات)

للذين أداروا ظهورهم

انتهج ثابت خط البحث حول ظاهرة محاطة بأشواك الدين ورجاله، الذين يحاولون شيطنة المنتحر وتحميله مسؤولية الفعل، ويحملوه أوزاراً لا قبل له بها، وقرر سبر أغوار عالم الانتحار وأصحابه، الذين يذهبون إلى طريق بلا رجعة، لينبش في آثارهم، ويغوص في عوالمهم النفسية التي لا يدركها العامة، ممن لا يرون في الأمر سوى إثم ديني يُخلّد صاحبه في النار، حيث غض معظم المثقفين من العالم العربي أبصارهم عن الانتحار وأهله، فلم نجد بين أيدينا بيانات ولا دراسات تشرح ما يعانيه الشباب العربي، إلّا ما قدمه الباحث في مطلع عام 2012، حيث جمع البيانات الرسمية بخصوص الانتحار في مصر، وهو أمر بالغ الصعوبة نتيجة النظام البيروقراطي والتكتمم على العديد من الحالات التي يشعر ذووها بالخزي والعار ويقررون التكتم عن انتحار الضحية، وهو ما يجعل من الأمر مهمة شاقة، لدى الباحثين، حيث تكذب العديد من العائلات في العالم العربي انتحار ذويها، نتاجاً لعوامل ثقافية واجتماعية وقبلية ودينية، وهو ما يشتت جهود الباحثين في هذا الشأن.

النظام البيروقراطي والتكتمم على العديد من الحالات التي يشعر ذووها بالخزي والعار يفضي إلى التكتم على ظاهرة الانتحار

في هذا الشأن عبر د. ياسر عن امتعاضه من التعتيم المجتمعي والإداري على حالات الانتحار، قائلا: "أنا لم أجد بين يدي أي مصادر مكتوبة باللغة العربية حول ظاهرة الانتحار، وهو ما يجعل الأمر في غاية الصعوبة، وكأنّ الباحثين قد تعمدوا إدارة ظهورهم لمثل تلك الظاهرة، حتى الأرقام الثابتة في سجلات الدولة الرسمية، مشكوك في صحتها لأسباب تتعلق بسلامة انتقال البيانات في مصر والعالم العربي، حيث تنعدم الشفافية في الكثير من القضايا الشائكة كالانتحار، لذلك شهقة اليائسين هو محاولة لتقديم شيء للباحثين والمهتمين بالأمر، لمحاولة الوقوف عليه".

فلسفة الانتحار المعلن

يحاول د. ياسر تسليط الضوء على خروج الانتحار إلى الشارع معلناً عن وجوده، بعدما كان لقرون مضت خلف الأبواب المغلقة، مشيراً إلى أنها صرخة معلنة في وجه الجموع، ودلالة إنسانية تعكس مدى نقمة المنتحر على المجتمع الذي يقف سلبياً أمام أمور لا يمكن السكوت عنها، مثل الفقر والظلم والفوضى وكثيراً من أمراض المجتمعات العربية، وعلى الرغم من وصف الكثير من الناس للمنتحر بالفاعل السلبي، يرى الباحث عكس ذلك قائلاً: "يعتقد الكثير أنّ المنتحر شخص سلبي وضعيف الإرادة إلّا أنّه قد يكون الأكثر إيجابية بين أقرانه، وهذا ليس تشيجعاً مني على الانتحار، بل هو دعوة للقضاء على أسباب الانتحار، التي يغض جميعنا الطرف عنها، ملقياً بكل العبء على الضحية، لكونها الطرف الأضعف، حيث لا وجود له بعد انتحاره". وعلى الرغم من قدم الظاهرة التي تمتد بعمر الإنسان، إلّا أنّ اعتبارها ظاهرة حداثية من قبل الباحثين هو أمر مضلل وغير صحيح، لأنّ "الانتحار رغبة إنسانية". وقدم ثابت في كتابه دلائل لدحض تلك الأقاويل، مثل ظواهر انتحار بعض الحيوانات، وانتحار الإنسان البدائي في قبائل عاشت قبل التاريخ، وهو الأمر الذي يجعلنا نمسك بعدة خيوط متوازية نرصد الظاهرة من خلالها.

لم يجلب الحل الديني لظاهرة الانتحار سوى المزيد من الازدراء للأبواق الدينية

الأنظمة العربية ومواجهة الانتحار

وجه الباحث ثابت أصابع الاتهام إلى الأنظمة التي لا تواجه مثل هذه الظاهرة، إلّا بتصدير الفتاوى الدينية لتحرم الانتحار وتزيد أعباء المنتحر وأوجاع عائلته ومحبيه، ولم يجلب الحل الديني سوى المزيد من الازدراء للأبواق الدينية، حيث تخطت الظاهرة حيز الغلاف الديني، وباتت رد فعل على الوضع الاجتماعي الصعب الذي تعانيه المجتمعات العربية، ولعل ما تعكسه الأرقام من كثرة إقبال الشباب والمراهقين على الانتحار، والتقارير الدولية التي تبيّن أنّ العالم العربي هو الأسوأ بالنسبة للشباب، يخبرنا أنّ الانتحار ليس إلّا رد فعل وصفعة على وجه مجتمع مغيّب، وقد اعتاد على الظلم، دون أن يشعر أنّه يعيش مأساة، بحسب ما قال الباحث.

اقرأ أيضاً: أطفال يحاولون الانتحار!

وقد عرض ثابت تجربة الولايات المتحدة الأمريكية في ولاية سان فرانسيسكو، التي زادت نسب الانتحار فيها، وقد تصدى النظام للظاهرة، فأمدّ الولاية بالخطوط الساخنة للإبلاغ عن حالات الانتحار، وتقديم الدعم لهم، وزاد عدد المتخصصين في علم النفس للتحدث مع الضحايا ومساعدتهم، وقد أتت التجربة بثمارها فقلّت نسب الانتحار قرابة 70% عما كانت عليه، وفي هذا إشارة إلى أنّ الحالة التي يكون عليها المنتحر قبل أن يُهلك نفسه من الممكن احتواؤها في كثير من الحالات، إلّا أنّ التعامل مع الظاهرة بعشوائية يزيد الطين بلة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية