البابا فرنسيس والإسلام

البابا فرنسيس والإسلام


03/02/2019

السيد ولد أباه

زيارة البابا فرنسيس لأبوظبي في عام التسامح، الذي أعلنته دولة الإمارات، حدث نوعي يعبر أصدق تعبير عن المكانة الريادية لهذا البلد في العالم الإسلامي وما يضطلع به من جهد واسع في الحوار بين الديانات والثقافات ونشر ثقافة السلم والتسامح في العالم. ومما لا شك فيه أن البابا فرنسيس منذ توليه موقعه على رأس الكنيسة الكاثوليكية عام 2013 لم يأل جهداً في التقارب مع المسلمين، وقد دافع في مرات عديدة عن روحانية الإسلام وقيمه في مواجهة النزعة الإسلاموفوبية الصاعدة في الغرب. في روما استقبل البابا عددا من المهاجرين المسلمين غير الشرعيين وتولى بيده غسل أقدامهم مثيراً امتعاض واحتجاج التيارات اليمينية المتطرفة المناوئة لحركة الهجرة، كما اصطحب في طائرته الخاصة عدداً من الأسر السورية المسلمة اللاجئة من أتون الحرب الأهلية في لفتة جلية الدلالة. وفي تصريحات عديدة رفض البابا ربط حركية الإرهاب العنيف الذي استهدف عدداً من كبريات المدن الأوروبية بالإسلام معتبراً أن الإسلام ليس دين العنف كما يردد أعداؤه.
ولقد أثارت تصريحات البابا فرنسيس المتصالحة مع الإسلام موجة نقدية عارمة لدى بعض الأوساط المسيحية المتعصبة التي ذهب بعضها على حد التشكيك في أهلية هذا الزعيم الديني الكبير لقيادة الكنيسة الكاثوليكية بعد قيادة عالمين لاهوتيين متميزين هما البابا البولندي يوحنا بولس الثاني والبابا الألماني المستقيل بنديكت السادس عشر. لا شك أن موقف البابا الإيجابي من الإسلام له جذور لاهوتية عميقة تبرز في انتقاده في رسائله الكَنسية المنشور للاهوت العقلي المجرد وتبنيه للاهوت الرحمة والتعاطف والمودة الذي يراه أقرب لمفهوم الكلمة الحية المجسدة التي هي جوهر رسالة المسيح. ومع أن هذا البابا الأرجنتيني لم ينخرط في الماضي في لاهوت التحرير اللاتيني المتشبع بالأدبيات اليسارية، إلا أنه تأثر به في نزوعه الاجتماعي المتمثل في تبني قضايا الفقراء والمهمشين ونقده الجذري لحركية «العولمة المتوحشة»، التي استبدلت «الإله السماوي بإله المال والنقد» كما كتب في رسائله الأخيرة.
سعى البابا فرنسيس إلى استعادة مشروع الحوار الإسلامي- المسيحي الذي يتبناه المجمع الفاتيكاني الثاني واعتمده البابا يوحنا بولس الثاني خطاً دبلوماسياً للكنيسة الكاثوليكية منذ ثمانينات القرن الماضي، بعد أن تعرض هذا المشروع لهزة عنيفة خلال حقبة البابا السابق بنديكت السادس عشر، الذي اشتهر بمحاضرته في جامعة راتسبون عام 2006 التي نعت فيها الإسلام بالعنف ورفض العقلانية البرهانية. وإذا كان يوحنا بولس الثاني على عمق تكوينه اللاهوتي والفلسفي شخصية سياسية فريدة واكب التحولات الكبرى التي عرفها العالم في نهاية القرن العشرين، وكان فاعلاً فيها، ولذا حوّل الحوار مع المسلمين إلى أحد بنود الأجندة الدبلوماسية للكنيسة الكاثوليكية، فإن خلفه بنديكت السادس عشر كان قبل كل شيء لاهوتياً وفيلسوفاً ميتافيزيقيا وظلت نظرته للإسلام محكومة بمقاربته التومائية (نسبة للقديس توما الإكويني) الرافضة للمقاييس الذاتية النقدية للحداثة التي تفضي حسب رأيه للعدمية واللاعقلانية، معتبراً أن جوهر المسيحية مرتبط باقتران الإنجيل بالنص الفلسفي اليوناني. وفق هذا التصور لا فرق عند البابا السابق بين الإسلام والبروتستانتية المسيحية في اعتمادهما للاهوت الإرادة في مقابل لاهوت العقل الوسيط، مع ما ينجر عن الاختيار من إلغاء المفهوم الطبيعي للعقل المتماهي مع الوجود وفصل الإرادة الذاتية الحرة عن نظام الطبيعة، (وذلك ما يعنيه بانعدام النزعة العقلانية في الإسلام كما هو شأن اللاهوتيات الليبرالية المسيحية الحديثة). ما تدل عليه لحظة البابا فرنسيس في التجربة الكاثوليكية المعاصرة هو الخروج من مركزية التقليد الأوروبي الوسيط بعد أن أصبح مركز الكاثوليكية في أميركا اللاتينية وليس في أوروبا الغربية التي تراجعت فيها إلى حد بعيد الممارسة الدينية. ولقد نتج عن هذا التحول تغير نوعي في الخطاب اللاهوتي في اتجاه مجرد من تركة الصراعات الوسيطة والحروب الصليبية، ومن هنا الموقف المنفتح على الإسلام الذي أبرزه مؤخراً البابا فرنسيس الذي تحتفي به اليوم أبوظبي عاصمة التسامح في عام التسامح.

عن "الاتحاد" الإماراتية

الصفحة الرئيسية