البابا فرنسيس.. وسردية إمارات الخير والتسامح

البابا فرنسيس.. وسردية إمارات الخير والتسامح


28/01/2019

إميل أمين

يوما تلو الآخر، ومع اقتراب موعد الزيارة التاريخية للبابا فرنسيس إلى دولة الإمارات العربية المتحدة يعقد المحللون السياسيون والخبراء في الشأن الفاتيكاني المقاربات الفكرية بين الضيف والمضيف؛ الضيف الذي يمثل قوة وسلطة معنوية حول العالم تنسحب على مليار وثلاثمئة مليون كاثوليكي منتشرين في بقاع الأرض وأصقاعها، والمضيف أي دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث يعيش نحو مليون مسيحي في سياق غير مسبوق من كرم الضيافة وحرية أداء الشعائر الدينية.

لعل أول المشاهد التي تبين لنا القرب الروحي والإنساني لفرنسيس من دولة الإمارات يتمثل في رؤية الإصلاح والتجديد المشتركة، ذلك أن فرنسيس ومنذ أول أيامه نادى ولا يزال بتجديد العقل والقلب، وطالب المجتمعات الحديثة بالنظر إلى ما هو أبعد من الحدود الضيقة للأيديولوجيات، والخوض في رحاب عوالم الأبستمولوجيات، ولم يكن خطابه غريبا على راهب ينتمي للرهبنة اليسوعية التي تقوم مقام العقل في الجسد بالنسبة للمؤسسة الكاثوليكية حول العالم .

هذا عن الضيف الكبير، فيما دولة الإمارات المضيفة فقد عرف عنها أنها رسالة وتجربة إنسانية مثيرة، وقد أخذت في طريق الصعود إلى المجد الإنساني من خلال رؤى الابتكار والتجديد، وفي القلب من كافة تجاربها كان الإنسان هو القضية والإنسان هو الحل، ولذلك أجبر البشر الحجر على النهضة والصحوة الإنسانية التي ينادي بها فرنسيس صباح مساء كل يوم .

نقاط الالتقاء العريضة بين الضيف والمضيف تتمثل في أكثر من ركن إنساني وإيماني، الأمر الذي يجعل القارئ يتساءل: أي التقاء إيماني هذا الذي يجمع الحبر الأعظم للكنيسة الكاثوليكية، مع دولة جذورها الإيمانية والعقائدية إسلامية؟

الشاهد أنه يحق للمتابع لأحوال عالمنا العربي المأزوم أن يتحير، سيما وأن صراع الطوائف والمذاهب في عالمنا العربي الذي أضحى الموت فيه عادة والحياة استثناء، يتحير من هذه المقاربة، بينما لا يدهشنا الأمر، فقد جعلت القيادة الإماراتية منذ اليوم الأول لنشأة الدولة النظر إلى الإنسان بشكل مجرد بغض النظر عن عرقه أو دينه، جنسه أو لونه، ولهذا قدر لها أن تقدم تجربة خلاقة على الصعيد الإنساني، وهو الأمر الذي يطالب به باباوات روما منذ القدم، وصولا إلى فرنسيس، أي الاهتمام بالإنسان بوصفه خليفة الله في أي مكان وزمان، له من الكرامة والقدسية ما يجعل تكريمه فرض عين، وهذا ما فعلته الإمارات، ويشهد بذلك من يعيشون على أرضها.

إحدى أهم القضايا التي كرس أحبار الكنيسة الكاثوليكية جل وقتهم لها، كانت قضية حق الإنسان في ممارسة شعائره الإيمانية، ولا نقول حرية المعتقد أو اليقين التي كفلتها الأديان السماوية والشرائع الوضعية، عطفا على القوانين الأممية كشرعة حقوق الإنسان على سبيل المثال.

وفي سياق الزيارة التاريخية نجد الإمارات أرض التسامح تتيح عملا وقولا وبكرم عربي أصيل، وأريحية إنسانية متميزة، دون أن تهتم لما يقوله الذين يضيقون واسعا، أكبر وأوفر مساحة من التسامح في أداء الآخرين المغايرين لا سيما من المسيحيين لشعائرهم، ومعروف أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، أي نقاط التلاقي مع أتباع الديانة المسيحية، إذ يتم هذا الأمر مع كافة الأديان الأخرى وأتباعها.

ما الذي تمثله الإمارات في الشرق الأوسط والخليج العربي بنوع خاص؟

حكما إنها سردية بلاد الخير والكرم والتسامح، والوصف هنا ليس من عند الداعي لكم بطول العمر، بل إنها عبارة وردت على لسان القس "جونسون كادوكان" وهو أحد ثمانية قساوسة يباشرون الخدمات الروحية داخل كاتدرائية القديس يوسف في أبوظبي والتي يؤمها نحو 90 ألف مسيحي من مختلف جنسيات الأرض، فقد صرح لمجلة "كروكس" مؤخرا بأن: "حكام الإمارات خيرون ومتسامحون، ويسمحون لنا بممارسة إيماننا في أماكن العبادة بحرية، ونحن ممتنون جدا لذلك، هذا البلد يعتبر نموذجا رائعا للدول المتسامحة دينيا واجتماعيا، سواء بين المحليين أو المغتربين من العمال والموظفين ".

زيارة البابا فرنسيس إلى الإمارات تكشف عن وجه التسامح الإماراتي في عالم تستيقظ فيه القوميات وتتعالى صيحات الشوفينيات المذهبية، ويفتح الباب واسعا لعودة النظريات التصادمية، ما ينذر بعالم متشارع متصارع .

وعلى عكس ما هو دائر منذ أطلق هنتنجتون رؤيته لصراع الحضارات، فإن أرض الإمارات تعلن للعالم أنه يمكننا العيش معا، وأن الأيادي الممدودة بين الإخوة يمكنها أن تصنع المعجزات.

يحل فرنسيس كرجل سلام في أرض الإمارات، وقد أطلق في رحلته الأخيرة لبنما عدة تصريحات ينبغي التوقف عندها، لا سيما تلك المتعلقة بما أسماه "الجدران غير المرئية " التي تؤدي إلى التهميش والعزل والفصل بين الناس".

كلمات فرنسيس يمكن أن نجد تطبيقا أمينا لها في رؤاه بالنسبة للمهاجرين لا سيما الذين ألقتهم أزمنة الربيع العربي المغشوش على شواطئ أوروبا، أولئك الذين وقف فرنسيس مدافعا ومنافحا عن حقهم في العيش والشراكة الإنسانية، وفي مواجهة الرافضين لهم داخل أوروبا، ذكر فرنسيس الأوروبيين بأنهم يوما ما كانوا لاجئين لا سيما في بلاد الشرق الأوسط، واصطحب بعض منهم إلى سكنه في حاضرة الفاتيكان، وألزم كل رعية كاثوليكية في أوروبا بأن تفتح أبوابها لاستضافة أسرتين من المهاجرين واللاجئين.

الإمارات بدورها، فتحت قلبها لأولئك المهانين والمجروحين من خلال إقامات شرعية لاسيما لمثل تلك الحالات الإنسانية، وكأنها تمضي في السياق الذي أشار إليه فرنسيس من قبل، سياق العالم المحتاج إلى جسور ممتدة بين الأمم وليس العالم الذي تقام فيه الجدران، وفي هذا سر نجاحاتها اليوم وغدا وإلى ما شاء الله.

رفضت الإمارات منذ تأسيسها تصنيف وتقسيم العالم تقسيما مانويا، بين معسكري الخيرين والأشرار، وهذا أيضا ما يعلو صوت فرنسيس به، لا سيما عندما يندد بالأفكار المسبقة التي تقيد ليس الماضي فحسب بل أيضا الحاضر والمستقبل، وهذا أقرب طريق للانقسامات، إذ يصبح التقسيم الوهمي حقيقة لاحقا، فيصبح الجيدون هنا والسيئون هناك، والصالحون هنا والخطاة هناك، الأمر الذي يعظم من نقاط الالتقاء بين الضيف الكبير والمضيف صاحب سردية القلب المتسع.

حكما ستكون أيام زيارة البابا للإمارات علامات تسامح وتصالح في أزمنة الجفاء والشقاء بل الجدب الفكري، ومن الإمارات شعلة جديدة إيمانية وسياسية، اجتماعية وإنسانية تنطلق، ولن يخبو وهجها إلا بعد أن يكون قد أنار العقول والقلوب، وتركت أفضل الأثر على من حولها.

أحلى الكلام: ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام، المبشرين بالخيرات.

عن "العين" الإخبارية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية