البصرة: هل تكون الثورة من أجل الحياة مقدمةً لنهاية الطائفية؟

العراق

البصرة: هل تكون الثورة من أجل الحياة مقدمةً لنهاية الطائفية؟


13/09/2018

في البصرة، ثالث أكبر محافظات ومدن العراق، يوجد ماء، لكن الماء مالح، يوجد نفط، لكن الكهرباء تستمر بالانقطاع، كما إن الفقر وانعدام فرص العمل، يجعلان من أبناء البصرة يثورون ضد كل شيء، ويحرقون مقراتٍ حزبية لا تمثلهم، بقدر ما تمثل مصالح دولٍ إقليمية.
ويمكن لاحتجاجاتِ "بندقية الشرق"، أن تشعل الحرائق في نهج الحكومات الضعيف والمستمر منذ سقوط بغداد في 2003، حيث أن الاحتجاجات المستمرة منذ 8 تموز (يوليو) الماضي، أخذت بعداً جديداً من خلال الضغط الشعبي على بعض المسؤولين العراقيين والأحزاب، لنبذ علاقاتهم الخارجية القائمة على حساب العراق وشعبه، خصوصاً مع إيران. وسط مطالب أهل البصرة الوطنية العادلة. فمن هي البصرة، وما هي احتجاجاتها؟ ومن يتدخل فيها وفي العراق؟
بندقية الشرق
تشتهر البصرة بمقاومة أهلها الشجاعة للغزاة عبر التاريخ المعاصر، وكانت انطلقت منها عام 1941 مقاومة شديدة ضد الاحتلال الإنجليزي ومن والاه في العراق، خلال ما عرف باسم "ثورة مايو" أو ثورة رشيد عالي الكيلاني.

كانت البصرة "بندقية الشرق، ثم تحولت لمدينة فاشلة بفعل الإهمال الحكومي والتدخلات الخارجية

كما شارك شبابها في الانتفاضات الطلابية ضد قمع الحكومة العراقية عام 1954. وللبصرة تاريخٌ مميز، يجعلها مثالاً مهماً على صعود وأفول المدينة العربية في التاريخ الحديث. كما إن لها تاريخاً من المواجهات مع نظام حكم الرئيس العراقي الأسبق "صدام حسين" مطلع التسعينيات.
المدينة، يتجاوز عدد سكانها المليونان وسبعمئة ألف نسمة وفق آخر إحصاءٍ لوزارة التخطيط العراقية في 2015، وهي من المحافظات ذات الغالبية السكانية الشيعية.
واشتهرت المدينة خلال القرن العشرين المنصرم، بأقنيتها المائية التي تفصل بيوت البصرة عن بعضها، وكانت توصف بأنها "بندقية الشرق الأوسط" حيث تتم مقارنتها بمدينة البندقية الإيطالية، وذلك لوجود شبكة قنوات مائية فيها، إذ تمر المياه بين البيوت ويتنقل بعض سكانها بين جنباتها من خلال القوارب.

اقرأ أيضاً: قذائف تستهدف مطار البصرة.. من وراءها؟

بفعل الحروب وإهمال السلطة، قنوات البصرة بلا ماء ولا حياة

لكن البصرة، لم تعد على حالها هذه، ولم تعد تسري في قنواتها سوى أكوام النفايات، السابحة على وجه الماء برائحتها ومنظرها الكريهين، وربما يمكن اكتشاف حال أي مدينة، من خلال نفاياتها، التي تكشف مدى الإهمال الحكومي للمدينة، الغنية بمائها ونخيلها ونفطها عبر عقود، دون أن تحميها هذه المميزات، من الأفول.

تحاول أحزاب وجماعات موالية لإيران تحويل مطالبات أهل البصرة العادلة إلى أزمةٍ إقليمية متهمةً السعودية بافتعالها

والبصرة، تحدها دولة الكويت والمملكة العربية السعودية من جهة الجنوب، ومن الشرق إيران، وذي قار غرباً. مما يجعلها ابنة تاريخٍ من الدمار والحروب لا مثيل له، فهي شهدت مخلفات الحرب والموت في الحرب العراقية الإيرانية، وفي حرب الخليج الأولى بعد انسحاب العراق من الكويت، ونالت نصيبها من الآليات المعطوبة والقتلى والهاربين بعد الاحتلال الأمريكي في 2003. ولم تستفد من النفط الذي يقبع في المدينة وما حولها، وكذلك، لم يحمها الغنى الطبيعي والتاريخي بالمياه، من العطش.
واليوم، الذي سبقته خمسةَ عشر عاماً من الحكومات الموالية للخارج، ومن رجال السياسة، ممن يعملون تحت إمرةِ إيران وغيرها، انتفض سكان البصرة، بعد اكتشافهم أن الطائفة والدين، لن تميزهم، ولن يميزهم غنى مدينتهم أو تاريخها، كما إن شيئاً لن يحميهم من آثار الاحتلال والتدخلات الخارجية، سوى تمسكهم بحقوقهم الوطنية والإنسانية، فماذا يحصل اليوم في البصرة؟

اقرأ أيضاً: البصرة تعصف بتحالفات العبادي

من مخلفات الحروب التي امتدت لعقود، دبابة معطوبة على مدخل البصرة

البندقية تثور

من وسط الخيبات، والفقر، بدأت المطالبات بتوفير وظائف وتحسين الأوضاع الاقتصادية، ثم تحولت إلى مظاهرات غاضبة شملت العديد من مدن المحافظة، وامتدت ولو قليلاً، إلى محافظات أخرى، وسط توقعات قائمة بتحولها إلى "ثورةٍ شاملة".
فمنذ تاريخ الثامن من نموز (يوليو) 2018، بدأ القتلى يسقطون خلال مظاهرات البصرة، وسط مطالبات السكان والمتظاهرين بحقوقهم، وكان الرد الحكومي الأول، هو القمع، مما أدى إلى تصاعد الاحتجاجات، وارتفاع دخان الحرائق في المدينة، إذ استهدفت هذه الحرائق مقراتٍ حزبية عديدة، من أهمها مقر بلدية محافظة البصرة، وكذلك إحراق القنصلية الإيرانية هناك، إضافةً إلى اقتحام مقر  هيئة "الحشد الشعبي" جنوب شرق البصرة، وفقاً لما نقلته "بي بي سي" بتاريخ 7 أيلول (سبتمبر) الجاري. كما إن متظاهرين آخرين اشتبكوا مع حراس مقر تابع لجماعة "عصائب أهل الحق" التي يزعم أنها تتلقى تمويلاً من الحرس الثوري الإيراني.

اقرأ أيضاً: احتجاجات البصرة وأذرع الملالي
ويظهر العجز الحكومي، المتمثل برئيس الوزراء المنتهية ولايته "حيدر العبادي" من خلال إعلان الحكومة حظراً للتجول في البصرة، بتاريخ 6 أيلول (سبتمبر) الجاري، ليلغى هذا الحظر بعد أقل من ساعةٍ على تفعيله وفقاً للمصدر ذاته. مما يضع أهالي البصرة أمام مصيرهم في مواجهة التلونات الحزبية والطائفية التي تشكل نموذجاً للصراع في العراق بأسره.
بين فكي إيران
القوى الطائفية والحزبية في المدينة، ومعظمها توالي إيران، بدأت على وقع استمرار الاحتجاجات، بتحويل المسار الوطني والحقوقي لأهالي البصرة، إلى خلافاتٍ سياسيةٍ حكومية وإقليمية. ومن الجدير بالذكر، أن البصرة تعد معقلاً للتيار الصدري في العراق، الذي تمثله أحزابٌ في المدينة كتيار "الحكمة" وحزب "الفضيلة".

اقرأ أيضاً: أحداث البصرة في ذمّة الصدر... وسليماني يتهيأ للرد
ومن جهتها، قامت المرجعية الشيعية في النجف، بالتصريح أنها "تدعم تظاهرات أهالي البصرة، وأن الحل يكمن في إنهاء الهزال السياسي من خلال اختيار قيادةٍ قوية للحكومة، تكون بديلةً عن القيادة الحالية"، وهو ما أكده المحلل السياسي العراقي "كريم بدر" في 6 أيلول (سبتمبر) الحالي، على قناة "دويتشه فيله" الفضائية.

تعمل إيران وميليشياتها على تعطيل الحياة السياسية والاقتصادية في العراق منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003

لكن، وفي الوقت ذاته، يتم اتهام إيران، بلعب دورٍ سلبيٍ في العراق، وفي مدينة البصرة تحديداً، بسبب تدخلاتها السياسية في المدينة من خلال جماعاتها المتواجدة هناك، كقوات "بدر"، و"حزب الله العراقي" وغيرها.
ورغم دعم المرجعية الشيعية للتظاهرات، يأتي الرأي الإيراني، متناقضاً مع هذا الدعم، ليزيد من التعقيد في المشهد القائم في البصرة، حيث صرح مستشار المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، العميد "حسين دهقان"، بأن ما يحدث في البصرة، ناتج عن "قيام السعودية بالتحريض ضد طهران في البصرة لحرق قنصليتها هناك، مضيفاً أن هناك فتنة كبيرة تقودها أمريكا وإسرائيل والسعودية في المنطقة". بحسب ما نقله تقريرٌ لموقع "سبوتنيك" في 10 أيلول (سبتمبر) الجاري، إضافةً إلى اتهاماتٍ طالت حيدر العبادي، بأنه يقف وراء حرق القنصلية الإيرانية، والتحريض ضد إيران وقواها داخل البصرة.

اقرأ أيضاً: عشائر النجف تعلن موقفها من احتجاجات البصرة
ويتضح أن هذه التهمة للعبادي، تفسر موقف المرجعية الشيعية في النجف، التي تدعو إلى رجلٍ قويٍ وجيد، ليتسلم زمام رئاسة الوزراء في العراق، بدلاً عن العبادي، فهي بذلك تخدم الواقع العراقي المأزوم شكلياً، وربما بقصدٍ أو من دون قصد، تخدم كذلك تطلعات إيران، لاستبدال العبادي الذي "لا يعد على وفاقٍ معها" بحسب حلقةٍ برامجية بعنوان "البصرة.. ماذا وراء إحراق قنصلية ايران؟"، وبثها موقع "روسيا اليوم" بتاريخ 8 أيلول (سبتمبر) الجاري.

وحده علم العراق من يظهر تحت الشمس بعد أن حجب قماش الطائفية النور

وخلال البرنامج، تظهر مسارعة إيران بمهاجمة العبادي من جهة، ولاتهام المملكة العربية السعودية بالعبث في أمن العراق من جهةٍ أخرى، وكذلك "بإفساد العلاقات الإيرانية العراقية" وفقاً للبرنامج، وهو ما يثير الجدل، حيث أن إيران ومنذ سقوط بغداد في 2003، تملك من القوى والوكلاء والأحزاب وبعض الحوزات، ما يؤهلها لتكون صاحبة النصيب الأكبر من تعطل الحياة في العراق بعد الاحتلال، بل ولا تخاض انتخاباتٌ عراقية، أو تداولاتٌ سياسية أو اقتصادية أو معارك طائفية في العراق، إلا وتكون إيران متدخلةً فيها.

كامل: إيران لوثت مياه البصرة وأي عبثٍ في بنى المدينة التحتية وفي مقدراتها، تقوده إيران التي أفقرت البصرة

وهو ما يشدد عليه، المحلل السياسي العراقي "مصطفى كامل"، الذي قال في البرنامج ذاته رداً على الاتهامات الإيرانية، أن "شعب البصرة يدرك بوصلته، وهو قام بمهاجمة مقرات رسمية وحزبية وطائفية، تخص من أفقره وأذله، والبصريون يعرفون جيداً هذا الذي أفقرهم وأذلهم". في إشارةٍ لإيران.
ويضيف كامل: "إن أي عبثٍ في مقرات الحكومة والبعثات الدبلوماسية في البصرة، لم يتم من قبل إلا على يد ميليشيات إيران في العراق، وليس من قبل المتظاهرين الشرفاء".
ويستفسر كامل: "من لوث شط العرب على تخوم البصرة، ومن قطع روافد المياه عنها؟ سوى إيران وعملاؤها". في مدينةٍ لم تتطور ولم تتحسن خدماتها منذ أربع سنوات حكم فيها حيدر العبادي، الذي لا يمكن له أن يتحرك ويخدم العراق "دون إذن إيران" كما يرى كامل. أيضاً، يتهم المحلل السياسي  المرجع الشيعي "مقتدى الصدر"، بالتواطئ مع إيران، بسبب دعوته هو الآخر "العبادي للاستقالة" حيث تعتبره إيران "محسوباً على السعودية".

اقرأ أيضاً: قبل خراب البصرة
ويبدو العبادي إذن، ممثلاً للعجز الحكومي المستمر منذ سنواتٍ في ظل وجود إيران، حيث أنه إما أن يخدم مصالحها، وإما تتم مواجهته من أتباعها في الداخل والخارج، من أجل تحييده، وهو ما يظهر جلياً في البرلمان العراقي، بعد تخلي كتلة الصدر البرلمانية "سائرون" عن التحالف مع العبادي الذي يتوقع ولايةً ثانية، إضافةً إلى تخلي كتلة "الفتح" بزعامة رجل إيران في العراق "هادي العامري" عن التحالف معه، وفقاً لما نقله موقع "دويتشه فيله" في 9 أيلول (سبتمبر) الجاري.

يقع العبادي بين فكي المرجعيات وأحزابها الموالية لإيران ويتهم من قبل إيران ولو زيفاً، أنه موالٍ لعمقه العربي؟!

إيران، التي تواجه منذ مدةٍ أزماتٍ اقتصادية داخلية، بفضل سياساتها في الخارج، وفي المنطقة العربية، تعمل على ربط شعارها الغابر بمواجهة أمريكا وإسرائيل، ضد كل من تراه عدوها، حيث أنها تواجه التحالف العربي في اليمن، الذي يقاوم دمار وإرهاب ميليشياتها هناك، بينما تقوم بتمويل ودعم دولةٍ طائفيةٍ عنيفة في لبنان باسم مقاومة إسرائيل، وتحاول إرجاع وضع شعبها المقموع سياسياً وإنسانياً، والمتهالك اقتصادياً، إلى مؤامراتٍ خارجية، رغم أنها صاحبةُ مشروع تمزيق والتهام العراق، منذ ثورة الخميني في 1979.
ولا يواجه العراقيون إيران وحدها، بل جميع أشباح الدمار والخراب في المنطقة العربية، من فلول "النظام القديم" إلى بقايا تنظيمات داعش والقاعدة الإرهابيين، كذلك آثار الاحتلال الأمريكي، والفساد الحكومي، وسط رؤى، تتوقع امتداد المظاهرات في البصرة، إلى كافة أنحاء العراق، والمطالبة بدلاً من الخدمات والحقوق والوظائف فقط، بـِ "تغييرٍ شاملٍ للنظام السياسي".

اقرأ أيضاً: البصرة تنتج النفط والتمر والشعر وتشرب الماء المالح
ويبقى التساؤل الأساسي، قائماً على مدى قدرة انفصال شيعة العراق عن إيران، ليعودوا عراقيين، والتخلص من أي تأثيرٍ سياسي مغلفٍ بالدين من قبل إيران، فيما يحتاج العراقيون، الطافين على بحورٍ من النفط والماء، والماضي العظيم لأرض العلماء ورجال الدين والمثقفين، إلى التنقيب جميعاً، عن عراقيتهم، في أرض العراق نفسها، لا في طهران، ولا واشنطن، ولا أي مكانٍ آخر.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية