"البغدادي"... فكرة تدرك أمريكا أنّها لم تمت

"البغدادي"... فكرة تدرك أمريكا أنّها لم تمت


24/11/2019

كأنّه تلة من الثلوج سوّتها الجرافات بالأرض، فبدا من أعلى ناصع البياض، هنا مصرع أبي بكر البغدادي، وآله وصحبه، لم يبقَ في هذا المنزل حجر على حجر، لم يعد سوى ذيول دخان ملتوٍ ومتصاعد، يصدر من قماش سترات هي ما بقيت بعد أن تفتتت الأجساد.

اقرأ أيضاً: هل حسمت عملية البغدادي الصراع الاستخباري بين التكنولوجيا والبشر؟
يا ترى فيما كان يفكر الرجل بعد أن سمع أزيز الطائرات يقترب من مسمعه، وزخات الرصاص الحارق، وهي تنفذ من بين الجدران والأسقف الخراسانية؟ هل بوغِت حقاً؟ هل كان يأمل في أن يعيش بضع عشرات أخرى من السنين؟ إذا كان كذلك فلماذا لم تفارقه سترته الناسفة حتى وهو يغطّ في نوم عميق؟

قُتل البغدادي الثاني كما سقط الأول بعد أن سقط عديله وعامل بريده في قبضة الأمن العراقي

لقد فعلت الولايات المتحدة به كما فعلت في سلفه، أبو عمر البغدادي؛ إذ حاصرته القوات الأمريكية والعراقية في منزل شبيه في صحراء الثرثار، العام 2010، وبعد أن أطبق عليه الحصار، ونفدت الذخيرة، رفض الاستسلام وفـجّر نفسه في نفق، وباتت جثته أشلاءً.
لم ينسَ البغدادي الثاني ما حدث للبغدادي الأول، كما يعلم أنّ عامل البريد، لو سقط في قبضة الخصوم، فإنّه سيسقط قادة التنظيم واحداً تلو الآخر، كما تتساقط أوراق الشجر في خريف غاضب.
قبيل مقتل سلفه، أبو عمر، كان منزل إبراهيم عواد البدري السامرائي، محلّاً لعمّال البريد، وعندما سقط مناف الراوي، والي بغداد، كان قد كشف عن اسم شخص يعرف مكان أبو عمر؛ لأنّه كان مسؤولاً عن التقاط البريد من منزل أبو دعاء، لإيصاله لوكر أبو عمر.
عندما اعتقل عامل البريد هذا، ذهب أحدهم لإبلاغ أبو دعاء، كي يحذّر الأمير أبو عمر من أنّ عامل البريد الذي يعرف مخبأه قد اعتقل، وأنّ ثمة خطراً داهماً، إلا أنّ "البدري" رفض، بدعوى أنّ ذلك ليس من صلاحياته، فهو مجرد محطة بريد، لا يعرف عماله، ولا يسألهم عن هويتهم، ولا يعرف مضامين ما يحملون، وقتل أبو عمر بعدها بأسابيع.

اقرأ أيضاً: هل البغدادي ميتاً أخطر منه حياً؟
قُتل البغدادي الثاني بالسبب ذاته، بعد أن سقط عديله وعامل بريده، محمد علي ساجت، في قبضة الأمن العراقي.
تبدو علاقة الماضي بالحاضر في السردية الجهادية، متشابهة إلى حدّ الاندهاش، بل يصل الأمر إلى حدّ التطابق، فما بال التاريخ حتى القريب يعيد نفسه، والوقائع التي حدثت منذ أربعة عشر عاماً تتكرر، فلا يرتدع الجهاديون، ولا يكفّ خصومهم.
ظلّ أبو مصعب الزرقاوي 3 أعوام بعيداً عن الاستهداف الأمريكي، حتى قصفته الطائرات، بعد أن اقترب من منزل شيخ صوفي، في منطقة هبهب، شمال بعقوبة، فخرج قائد القوات الأمريكية في العراق حينها، الجنرال جورج كايسي، ليصف العملية بأنّها ضربة قوية للقاعدة، لكنّ خطر التنظيم ما يزال قائماً.

يعلم الجهاديون أنّ قادتهم مقتولون عاجلاً أم آجلاً هكذا تخبرهم التجربة وتاريخهم الجديد والحديث

يعلم الجهاديون أنّ قادتهم مقتولون بلا شكّ، عاجلاً أم آجلاً، هكذا تخبرهم التجربة، وتاريخهم الجديد والحديث، لكن ذلك لا يمنعهم من توقيف العمل التنظيمي، وتنصيب الأمراء والقادة، فكلما قتل أمير جاء آخر، لا ينزع عن كاهليه الحزام الناسف، ويعلم أنّه سيقتل بعد عدّة أعوام على الأكثر، كما تعلم الإدارة الأمريكية كذلك، إلا أنّها في كلّ مرة تؤكد أنّها قضت على الإرهاب.
تولّى أبو أيوب المصري قيادة القاعدة خلفاً للزرقاوي، إلا أنّه فعل كما يفعل التنظيم في كلّ مرة، ظهر بكنية جديدة حتى لا يتعرف أحد إليه، وبات "أبو حمزة المهاجر"، كما تخلّى بعده أبو دعاء، العام 2010، عن كنيته وبات اسمه أبو بكر البغدادي.

اقرأ أيضاً: مقتل البغدادي .. هل هو حقاً ضربة قاتلة لداعش؟
عندما أعلنت القاعدة في العراق أنّ أبو حمزة المهاجر هو أمير التنظيم الجديد، خرجت الولايات المتحدة الأمريكية لتكشف أنّ أبو حمزة هو نفسه أبو أيوب، فتأكد التنظيم أنّ الكنية الجديدة التي لا يعرفها سوى 13 من مجلس شورى التنظيم، قد خرجت من أحدهم، فبدأ التحقيق مع الجميع.
شكّ المهاجر في أحدهم، كان عسكرياً سابقاً في الجيش العراقي، لكنّه كان قد أصيب في معركة خاضها التنظيم، فذهب إلى الأردن للعلاج، فحصلت منه الأجهزة الأمنية على معلومات تتعلق بانتقالات الزرقاوي، وأماكن تمركزه، كان للأردن ثأر عند الزرقاوي، الذي ارتكب عمليات شنيعة على أراضيه، وكان قد منحه عفواً عاماً من قبل، كشفت القاعدة الجاسوس وقتلته رمياً بالرصاص.
ينشغل العالم الآن بخليفة أبو بكر، وبدأ الجميع يتكهن بشخصية زعيم داعش الجديد "أبو إبراهيم الهاشمي"، إنّها كنية جديدة لشخص كان يتكنى بكنية قديمة، خرجت الولايات المتحدة مجدداً لتعلن أنّها تعرف أبو إبراهيم الهاشمي، وتكرّر السيناريو نفسه.

كلما قتل أمير جاء آخر لا ينزع عن كاهليه الحزام الناسف ويعلم أنه سيقتل بعد عدّة أعوام على الأكثر

استفحل التنظيم في العراق، بعد الزرقاوي، وتمدّد، حتى أعلن دولة على الأراضي السنّية، إلا أنّه تعرّض لنكبات بعد هزائم متلاحقه، ومقتل الآلاف من العناصر والقادة، بين عامي 2007 و2010، وبلغت ذروة الهزيمة بمقتل قائدَيه في ضربة عسكرية واحدة.
لم يكن أحد يتخيّل أنّ بإمكانه أن ينهض ويستجمع قواه مجدداً، إلا أنّه فعل؛ فبعد مقتل "أبو عمر"، العام 2010، خرج الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ليعلن أنّ أمريكا قضت على الإرهاب في العراق، ومن قبله فعل بوش الابن، وسارعت مراكز الأبحاث لتناقش سيناريوهات ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية.
لقد كانت حالة التنظيم مهترئة أكثر مما هي عليه الآن، تدرك الولايات المتحدة ذلك جيداً، لكنّها في انتظار تشكّل التنظيم الجديد، على تلك الرقعة من العالم، أو على سواها، ثم تعاود الكرَّة، وتعاود التنظيمات القيام من جديد، ويظهر هاشمي بعد بغدادي، وتستمر اللعبة، وتحترق الأرض، وتستمر السنوات العجاف، ينعم الغرب بالأمن والتقدم، وتظلّ منطقتنا منتكسة مرتكسة، حتى يطهّر أبناؤها أرضهم من جذور الإرهاب، ويهدموا بمعاولهم قلاع الشيطان، ويبنوا بسواعدهم الحصون المنيعة، وحدائق الحرية والازدهار.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية