التطرف هوية ميت

التطرف هوية ميت

التطرف هوية ميت


02/10/2023

 إنّ الهويّة التي يُبنى عليها مفهوم التطرف هي الخروج عن المعقول أو المقبول به، وأن نخلق طريقاً شاذاً عن الآخرين، وبالتالي لا أفق لاستمراره منطقياً، ذلك أنّ التطرف كبنية هوياتية تسعى لنفي الآخر ما دام يحمل تصوراً مخالفاً، إذ لا يُنظر إليه من وجه التطرف على أنّه مخالف، بل على أنّه تصور يحمل تهديداً لوجودهم، ونفياً لتصوراتهم.

وانطلاقاً من هذا النمط من التفكير، وجب مواجهة النفي بالنفي، والنفي هنا لا يحيل على استبعاد بسيط لهذا الآخر المخالف، بل يعني نفيه خارج المشترك؛ أي أن يتم تغييبه جسدياً عن الوجود المشترك الذي يسعون لامتلاكه، وقد يكون الموت أو القتل هو أسهل الطرق لتحقيق ذلك، والغاية أن تصير البنية المشتركة تخصهم دون أن تخص غيرهم، شعارهم: ليعش الجميع وفق رؤيتنا، أو فليموتوا قسراً، والموت هنا للمخالف يُعدّ عقاباً دنيوياً وأخروياً، باعتباره جزاءً وبشارةً إلهية. 

قمع التطرف لا ينتج إلّا المزيد من التطرف، ممّا يعمق لدى هذه الفئة الشعور بضرورة رفع الظلم وإحلال الحق، وهو أمر يجد له سنداً شعبياً، وإن غاب التصريح به علناً

والسند هنا هو النص، فهم من يملك حقيقة النص الديني، ولا يمكن قبول حقيقة أخرى غير ما تسطره عقول شيوخهم، لكن ما الذي يدفع المرء لأن يصير مريداً لتيار تطرفي بهذا الشكل؟

قد يعود الأمر بالأساس إلى البنية السلطوية للدولة ذاتها، أوّلاً: قمع التطرف لا ينتج إلا المزيد من التطرف، ممّا يعمّق لدى هذه الفئة الشعور بضرورة رفع الظلم وإحلال الحق، وهو أمر يجد له سنداً شعبياً، وإن غاب التصريح به علناً، إذ نحن في عمقنا نحمل بذور التطرف، زرعت فينا لعقود، وربما كانت الغاية الأولى لمحاربة الفكر النقدي هي مخافة التشويش على السلطة السياسية للدولة، ومع مرور الوقت، تحولت هذه البذور إلى سنابل فارغة، لا تروى إلّا بسفك دماء من يتمّ اعتبارهم ضمن زمرة الكفار.

إنّ طبيعة السلطة السياسية تجعلها تتحمل جزءاً من المسؤولية، من خلال عجزها عن تحقيق المطالب السوسيو اقتصادية والحقوقية لمواطنيها، باعتبارها أرضية خصبة لممارسة الفكر النقدي الحر، وكلّ هذا خلق تياراً زاهداً هنا، طامعاً هناك، والزهد لا يعني غياب الرغبة في الحياة، بل قد يكون شبيهاً بالاكتئاب الذي يدفع أصحابه إلى الانتحار، فهو لم يأتِ عن قناعة حياتية، بل هو ناتج عن غياب أرضية لتحقيق حياة إنسانية مقبولة، تحمل معنى ودلالة. وعليه فإنّ غياب المعنى يجعل من الحياة نفسها جهنم أرضية، يأمل المهزوم في جنّة تعوضه عن البؤس الحياتي الذي أفقده معنى التمسك بالحياة، فكيف يصير الموت في الاعتقاد التطرفي بوابة للخلود؟

إنّ فشل الحقل الفكري في تحقيق التجديد الديني وفق رؤية تنويرية دفع التطرف الديني نحو تعميق هذا العجز، بل لنقل إنّه نجح في خلق تجديد في فهم النص، وفق مآرب شيوخه، بتعميم قراءة تستقي نصوصاً بعينها، وتعتمد على أرضية هشة لمواطنين يبحثون عن مقومات حياة تتحقق فيها العدالة السوسيوسياسية؛ الأمر الذي يدفع تجاه خلق مريد ميت هنا، ثابت على عقيدة شيوخه الأولى، قصد تمتعه بالحياة هناك.

إنّنا نعامل التطرف بوسيلته نفسها، وسيلة النفي خارج المشترك، النفي والنفي المضاد لا يسمح لنا باستمرارية وجودية فوق أرضية مشتركة، وهو أمر مستحيل التحقق

لقد غرست ثقافتنا في المريد عقدة الذنب الديني، فأصبح يعيش وفق تأنيب الضمير المستتر، وخلاصة الأمر أنّه دائم الشعور بأنّه مقصر ومذنب، إن هو استمتع بمقومات الحياة، فحتى إن انغمس في الحياة، عاد معلناً توبته عن عيشه إيّاها.

ما يمكن التأكيد عليه، هو أنّ التطرف في حقيقته ليس بنية خارجة عن بيئتنا؛ إذ إنّنا لم نستعره أو نستدعه من الخارج، ولم يأتِ من عدم، إنّه وليد معطيات واقعنا، فاكهتنا التي نتوارى خجلاً من انتمائها لنا؛ لهذا لا يمكن التعامل معه على أنّه دخيل وجب استبعاده ورفضه، وكأنّ المجال يسمح لنا بالفصل والتقسيم، أو أنّ التطرف واضح المعالم والحدود، وبالتالي يمكن رميه خارجاً وينتهي الأمر، إنّنا بهذا نعامل التطرف بوسيلته نفسها، وسيلة النفي خارج المشترك، النفي والنفي المضاد لا يسمح لنا باستمرارية وجودية فوق أرضية مشتركة، وهو أمر مستحيل التحقق؛ ذلك أنّنا  نتقاسم المصير نفسه، هم منّا ونحن منهم، وإن اختلفنا في رسم مسار هذا المشترك الديني والدنيوي، فلا يمكن أن نقابل النفي بالنفي، والموت بالموت، وإنّما علينا أن نقابل الموت بتحقيق شروط الحياة.

 

مواضيع ذات صلة:

التعصب والاستعلاء الديني: تزيين التطرف بالأدلة

كيف كشفت مواجهة التطرف عيوب جبهة الاعتدال؟

إذا كان التطرف ينام بين جنبات التراث فمن يوقظه؟!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية