التفاعل مع وفاة المفكر جودت سعيد يكشف أزمة خطاب الإسلاموية.. كيف؟

التفاعل مع وفاة المفكر جودت سعيد يكشف أزمة خطاب الإسلاموية.. كيف؟


02/02/2022

قليلة هي الأسماء الإسلامية التي اشتهرت بالدعوة إلى خطاب اللاعنف في معرض إصلاح أحوال المجتمع والسلطة والدولة، ويبرز من بين هؤلاء المفكر السوري جودت سعيد الذي توفي مؤخراً بعد أن كرّس حياته للترويج لخطاب الإصلاح السلمي، إلى درجة أنه لُقب بـ"غاندي العرب" عند بعض النقاد، وبسبب موقفه هذا، كان مصيره النقد والشيطنة عند فئة الإسلاميين، إلى درجة اتهامه في ملّته وعقيدته كما هو الحال مع بعض السلفيين، مقابل النقد والتهميش عند فئة أخرى منهم، كما هو حال مع التيار الإخواني، خاصة أنّ أعماله القليلة ساهمت في التأثير على نسبة من شباب الإسلاموية خلال العقود الماضية، وذلك من بابين على الأقل:

ــ يتعلق الباب الأول بالميزة أعلاه؛ أي تبنّي سعيد بشكل علني وصريح لخطاب اللاعنف، دون أي تقية أو ازدواجية، وهذا أمر نادر في الساحة الإسلامية، وما يؤكد ذلك، القيام بمقارنات عابرة أو مفصلة بين مواقف العديد من الإسلاميين في المنطقة العربية، قبل وبعد أحداث "الفوضى الخلاقة" [2011ــ2013]. فعلى سبيل المثال، كان يوسف القرضاوي قبل منعطف الفوضى يوصف بأنّه أحد رموز "الوسطية الإسلامية" في المنطقة، إلى جانب أسماء أخرى، ولكن تفاعله مع هذه الأحداث، من قبيل تفاعله مع الفوضى في ليبيا، كشف وجهاً مغايراً لخطاب الوسطية عند الداعية نفسه، والأمر نفسه مع العديد من المفكرين والباحثين الذين كان علينا انتظار هذه الأحداث حتى يكشفوا عن مواقفهم السياسية والفكرية الحقيقية، وليست مواقف الهدنة والتقية التي كانوا يمارسونها من قبل.

هذا أمر كان غائباً كلياً مع حالة جودت سعيد؛ لأنّه بقي وفياً لخطاب الإصلاح السلمي، ورفض تأييد الإسلاميين القتاليين أو "الجهاديين"، من قبيل ما صدر عن المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي مثلاً، أو ما صدر عن المفكر المغربي طه عبد الرحمن ضمن أسماء أخرى، بل في عز أحداث سوريا مباشرة بعد اندلاع "الفوضى الخلاقة"، لم يتغير موقف جودت سعيد، والذي سبق له أن اعتقِل مراراً في عقود سابقة، وبالرغم من ذلك، بقي خطابه الإصلاحي منسجماً وصريحاً، ومدافعاً عن وحدة الدولة الوطنية في مواجهة مشاريع الفتنة ومن يقف وراءها.

 لم يَرُق للتيار الإخواني تأثير أدبيات جودت سعيد على بعض الأتباع بالدفع بهم نحو تبني المراجعات

ــ أما الباب الثاني الذي يقف وراء أخذ التيار الإخواني مسافة من أعمال جودت سعيد، فيكمن في تأثير أدبياته على بعض الأتباع في سياق الدفع بهم نحو تبنّي المراجعات، والحال أنّ انخراط أي عضو إخواني في المراجعات، قد يكون سبباً في انفصاله عن التنظيم، مع أنّ خطابه ذا مرجعية إسلامية، ويتقاطع في جزء منه مع الخطاب الإسلامي الحركي بشكل عام، لكن رهانه الصريح على خيار السلمية أياً كانت ظروف وأحوال الساحة، لم يصبّ في مصلحة المشروع الإخواني، محلياً وإقليمياً، وتعامل إخوان المنطقة مع جودت هنا يُشبه تعاملهم مع أعمال المفكر السوري خالص جلبي، أحد ورثة أعمال جودت سعيد، وكان عنوان هذا التعامل في حقبة سابقة، تحذير الأتباع من قراءة أعمال هذه الأسماء، لوعي رموز المشروع بتأثير تلك الأدبيات على الأتباع.

اقرأ أيضاً: في غياب السؤال النظري لدى الإسلام السياسي

في هذا السياق، يمكن قراءة تفاعل الأقلام الإسلاموية في المنطقة العربية على الأقل، مع الإعلان عن وفاة جودت سعيد، حيث مرّ الحديث كأنه لم يكن، أو كأنه حدث لا يستحق وقفة أو وقفات، مع أنّ المعني هنا هو أحد رموز المشروع الإسلامي الإصلاحي في المنطقة، ويحظى باحترام الجميع، إضافة إلى أنّ خطابه الإسلامي يقترب من باب المشترك الإنساني ما دام خطاب اللاعنف سائداً في مجالات ثقافية أخرى في العالم بأسره، وتحظى رموزه باحترام الرأي العام العالمي إلى درجة إنجاز أعمال فنية حولها، وخاصة الأعمال السينمائية، فالأحرى تأليف الكتب والدراسات وتنظيم الندوات حول هذه الرموز، وبالرغم من ذلك، كان مصير سعيد التهميش والتقويم في حياته، والتقزيم حتى خبر رحيله في وفاته.

في مضامين الباب الثاني أعلاه الذي يُفسر نقد المشروع الإخواني لأعمال الراحل وأخذه مسافة منها، نعاين نموذجاً تطبيقياً في الساحة المغربية، يصب في هذا الاتجاه، حيث اتضح أنّ خبر رحيل جودت سعيد حظي بإشارة عابرة في موقع حركة "التوحيد والإصلاح" الإخوانية، في مقال غير موقع، نقلاً عن مواقع إلكترونية، والأمر نفسه في الصفحات الرقمية لرموز المشروع الإخواني، بينما الأمر مغاير كلياً مع أتباع المشروع الذين انفصلوا عنه، أو مع الذين تأثروا بأعماله وأخذوا مسافة من المشروع الإخواني، سواء كانت مسافة نظرية أو مسافة تنظيمية أو كليهما معاً.

تفاعل الرموز والحركات الإسلاموية مع رحيل سعيد يفيد أنّ موضوع المراجعات مؤجل ما يساهم في تكريس أزمتها

والنموذج هنا كان صريحاً مع العديد من أعضاء ما يُصطلح عليه هنا بـ"تيار أكادير"، ويُقصد بالتيار، عشرات من شباب المشروع الإسلامي الحركي، من أتباع حركة "التوحيد والإصلاح"، من الذين تأثروا في مطلع تسعينيات القرن الماضي بأعمال العديد من المفكرين والباحثين الإصلاحيين، بمن فيهم جودت سعيد، وكان ذلك التأثر أحد أسباب الخلافات التنظيمية والإيديولوجية التي ستبزغ بين أعضاء التيار وبين مركز الحركة، في عز السنوات التي كانت تتحكم فيها النواة الإخوانية، ومن ذلك في حقبة تولي الباحث والداعية الإخواني أحمد الريسوني، والذي يشغل اليوم منصب رئيس ما يُصطلح عليه بـ"الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، وهي مؤسسة دينية إيديولوجية تابعة أو محسوبة على الإسلاموية الإخوانية بالتحديد.

اقرأ أيضاً: عبيد الخليفي: التنظيمات الإرهابية ثمرة جماعات الإسلام السياسي

ليس صدفة إذن، أن ينشر العديد من أعضاء "تيار أكادير"، تفاعلات مؤثرة في مواقع التواصل الاجتماعي على هامش رحيل جودت سعيد، وليس صدفة أيضاً أنّ العديد من مضامين هذه التفاعلات، تطرقت إلى التأثير الإيجابي لأعمال الراحل على خطاب المعنيين بهذه التفاعلات، وفي مقدمتها طرق باب المراجعات، والتي كانت في عدة حالات مع هذا التيار بالذات، أحد أسباب الانفصال عن المشروع الإخواني.

وفي هذا السياق، يمكن التوقف عند سلسلة مقالات شرع في نشرها الباحث محمد همام، أحد أعضاء التيار، حول الموضوع تحت عنوان "في وداع جودت سعيد: منظر المقاومة المدنية السلمية في الفكر الإسلامي المعاصر"، وقد تضمنت الحلقة الأولى من هذه السلسلة الأقرب إلى مذكرات، فقرات تكاد تلخص تفاعل العديد من أعضاء "تيار أكادير" مع جودت سعيد، والدور الكبير الذي قام به هذا الأخير في الدفاع بشباب التيار نحو طرق باب المراجعات، كما تلخص ذلك على سبيل المثال لا الحصر، الفقرة التالية: "عندما اطلعت على بعض كتب جودت سعيد، خصوصاً «مذهب ابن ٱدم الأول» و«مشكلة العنف في العمل الإسلامي»، و«إقرأ وربك الأكرم»، و«حتى يغيروا ما بأنفسهم»، في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وجدت فكراً مضاداً لكل الحماسة التي كانت تملؤني حينها، ووجدته يقتل في داخلي مجموعة من أحلامي يومها، ولا أخفي أنني تبرمت من قراءته وابتعدت عنه شهوراً، ولكنه شدني إليه شداً، وأغواني بالعودة إليه، لظروف سيأتي ذكرها في مناسبات أخرى. فبدأت أبحث عن الرجل؛ عن سيرته، وعن كتبه، وعن معارفه، وعن مدرسته، وعن تلامذته. بل ذهبت إلى الشام لأزوره".

اقرأ أيضاً: لماذا يعادي تيار الإسلام السياسي البيئات المستقرة؟

تلخص هذه الشهادة الدور الكبير الذي جسده جودت سعيد في التقليل من تأثير الدعاية الإسلاموية، السياسية والإيديولوجية والحماسية على الأتباع في مرحلة سابقة، وكان مفترضاً اليوم؛ أي بعد عقد من منعطف "الفوضى الخلاقة" أن تكون الرموز الإسلاموية نفسها قد راجعت نفسها كما جرى مع نسبة معينة مع الأتباع وليس مع جميع الأتباع، إلا أنّ تفاعل هذه الرموز والحركات مع رحيل سعيد، يفيد أنّ موضوع المراجعات مؤجل، وهو التأجيل الذي يساهم في تكريس أزمة الإسلاموية.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية