التفاوض في فيينا والمبارزة في لبنان

التفاوض في فيينا والمبارزة في لبنان


02/12/2021

سجعان قزي

في بيتنا إيران، فماذا نفعل؟ بعضنا يعتبرها في بيتها. وبعضنا يعتبرها احتلالا. وهناك من وجد فيها، مهديا موقتا إلى أن يأتي الـمهدي المنتظر. حولت إيران لبنان جزءا من استراتيجيتها كونه: 1) يمثل الدولة الوحيدة التي في الشرق الأوسط يحكمها مسيحي. 2) يضم وجودا شيعيا تاريخيا ذا شأن. 3) تلعب فيه الطائفة السنية دورا مؤثــرا. 4) يقع على الحدود الشمالية لدولة إسرائيل. 5) يشكل المدى الجنوبي ـــ الغربي في مشروع الهلال الشيعي. 6) يتفاعل إيجابا مع دول الخليج العربية. 7) يتعاون برحابة صدر مع أميركا وأوروبا. 8) يسهل التدخل في شؤونه والسيطرة عليه بسبب تركيبته الطوائفية الهشة وضعف وحدته.

إيران اعتمدت لبنان ملعبا فسيحا تبارز فيه العرب والعالم في غياب أي حكم محلي أو حكم وطني أو رادع عربي ودولي. في البدء لم يكترث اللبنانيون كفاية للمخطط الإيراني، الذي تكشف لاحقا تدريجا، للأسباب التالية: 1) أن القوات المتعددة الجنسيات الموجودة آنذاك في بيروت ستصد التمدد الإيراني، لكنها جبنت ونكثت بوعدها وانسحبت 2) أن الشيعة اللبنانيين الذين تميزوا عموما بولائهم الوطني، لن يذهبوا بعيدا في المشروع الخميني. 3) أن تنكفئ إيران إثر هزيمة سنة 1988 أمام العراق. 4) ألا يسمح النظام السوري، الذي كان حاكما لبنان آنذاك، لإيران أن تشاطره السيطرة، وإذا هو توانى، تقوم إسرائيل بتدمير الآلة العسكرية لحزب الله. 5) أن سوريا، وحتى إيران، ستستخدمان حزب الله في الجنوب حصريا بديلا عن المنظمات الفلسطينية إلى حين توقيع سوريا السلام الذي كان على الأبواب في أواسط التسعينات بعد مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو ورسائل اسحق رابين إلى حافظ الأسد.

كل ما حصل خالف توقعات الجميع: اغتيل رابين. مات حافظ الأسد. تخطت إيران الهزيمة ضد العراق. استغلت حربي أميركا في الكويت ثم في العراق لمصلحتها فتمددت في الـمنطقة على حساب العرب. انسحبت سوريا من لبنان فعززت إيران من خلال حزب الله موقعها كأنها الوصي الجديد. نشأت الثورات العربية سنة 2011 فترنحت سوريا وسائر أنظمة دول الشرق الأوسط ومصر واليمن وتونس. وسط هذه الفوضى العارمة والتغييرات الاستراتيجية وبروز الحركات التكفيرية وقصر نظر الغرب، وبخاصة واشنطن، أحيت طهران برنامجها النووي ورفعت نسبة تخصيب الأورانيوم حتى بات الرجوع إلى الوراء صعبا للغاية.

البرنامج النووي يـمثل العظمة العمودية للفارسية الحديثة، وتمدد إيران الجغرافي في الشرق الأوسط يجسد العظمة الأفقية للفارسية التاريخية. استهلك النظام الإيراني ثمانية رؤساء أميركيين ديمقراطيين وجمهوريين من دون أن يتنازل فعليا عن البرنامج النووي. واستنزف عشرات الملوك والأمراء والرؤساء العرب من دون أن يتراجع عن توسعه في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغزة.

استراتيجية إيران كما نعلم هي: أن تنتزع زعامة المسلمين، سنة وشيعة، وتنقلها من العرب إلى بلاد فارس، وأن تعيد هندسة النظام الإقليمي من بحر قزوين إلى البحر الأبيض المتوسط. منذ قورش الأول (559/530 ق.م.) والفرس يسعون إلى السيطرة على الـمنطقة الممتدة من الفرات وآسيا الصغرى إلى مصر وبلاد الإغريق، أي الشرق القديم.

استراتيجية إيران الحديثة ـــ كما القديمة ـــ فشلت في شقيها: لا إيران أصبحت زعيمة المسلمين ولا حتى جميع الشيعة العرب والآسيويين، ولا تمكنت في النهاية من إقامة نظام إقليمي جديد لمصلحتها رغم انتشارها الواسع الموقت. فها إن الدول العربية صالحت إسرائيل وسالـمتها وطبعت معها، ونكاد نشهد قريبا اتحادا عربيا/إسرائيليا. تجاه هذه المعطيات تتمسك إيران، أكثر من أي وقت مضى، بمشروعها النووي كضامن مستقبلي لنظامها ودورها في الـمنطقة. وبالتالي، ستكون مواقف إيران في مفاوضات فيينا مرنة في الشكل لرفع العقوبات، وقاسية في الجوهر للاحتفاظ ببرنامجها النووي. وقد تنجح في خداع المفاوضين الغربيين الذين يفاوضونها حاليا على الـملف النووي وعيونهم شاخصة على نفط إيران ومشاريعها الكبرى.

تاريخيا لا يعترف الفرس بالهزائم، فملوكهم كانوا يعودون من الحروب الخاسرة ضد الإغريق والفراعنة والرومان والعثمانيين، ويستقبلون كالفاتحين المنتصرين ويوزعون السبايا والغنائم على الشعب. واليوم، وإن لم يكن النظام الإيراني هو الأقوى، فهو يمتلك أوراقا تفاوضية صلبة في فيينا (رفع نسبة تخصيب الأورانيوم، التحالف مع الصين، رفع أسعار النفط، الهجمات على القواعد الأميركية، مسيرات الحوثيين ضد السعودية، السيطرة على لبنان، إلخ.).

تتصرف إيران الخمينية كأن الإمبراطوريات القديمة التي هزمت ملوك فارس تتجسد في الغرب عموما، وفي أميركا تحديدا. تريد في القرن الحادي والعشرين أن تنتقم من الغرب على كل الحروب التي خسرتها منذ ما قبل المسيح. تريد أن تنتقم لملوكها قورش وقمبيز وداريوس وخشايار وأرتـحششتا وكسرى والشاه عباس. وتطمح إلى أن تقتص، مع مفعول رجعي، من الإسكندر وتميستوكل وهيرقليوس، وحتى من زيد بن أبي وقاص الذي انتصر على الفرس في معركة القادسية سنة 636.

إذا كانت هذه النزوات التاريخية تعبر الخيال الفارسي الوطني، فلا مكان لها في واقع العصر الحديث. نحن في زمن التعاون والتضامن لا في أزمنة الانتصارات والهزائم. وحري بإيران، وريثة إحدى كبريات الحضارات القديمة، أن تلتحق بمنظومة الدول الحضارية الحديثة. لكن هذه النداءات الموجهة إلى إيران منذ أربعين سنة سقطت في آذان صماء.

وها تعطيل دولة لبنان دليل على سوء الأداء الإيراني. البرنامج النووي الإيراني اتخذ من لبنان ممرا للتفاوض مع الغرب والعرب، والتمدد الإيراني اتخذ منه مقرا لنشر الهلال الشيعي. لبنان اليوم هو النقطة المركزية لمشروع إيران التوسعي كما في السبعينات كان القاعدة الأساسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي الثمانينات حتى 2005 النظام الرديف لسوريا. واللافت أن إيران تسعى إلى تهدئة جبهتها مع أميركا ودول الخليج وتسخن الوضع اللبناني، على غرار ما كان نظام حافظ الأسد يفتح جبهة جنوب لبنان ضد إسرائيل ويسالـمها في الجولان.

لا أنتظر فيينا لمعرفة مصير لبنان تحديدا، بل مصير إيران والمنطقة عموما. ولا مرة أكثر من اليوم كانت إيران أقرب إلى القنبلة النووية، وأميركا أقرب إلى التنازل، وأوروبا أقرب إلى المساومات، وإسرائيل أقرب إلى التفكير بعمل عسكري ضد إيران. ولا مرة كان لبنان أكثر منه اليوم أقرب إلى التغيير المجهول.

عن "ميدل إيست أونلاين"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية