التمدد التركي.. مخاطر استراتيجية لسياسة تنويع بؤر التوتر

التمدد التركي.. مخاطر استراتيجية لسياسة تنويع بؤر التوتر


05/10/2020

مختار الدبابي

تدخّل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سوريا ولم ينسحب، ثم في ليبيا، وأخيرا إلى جانب أذربيجان في الحرب مع أرمينيا، ويدفع نحو التصعيد للوصول إلى وضع تتمكن فيه قوات تركية من التمركز في إقليم ناغورني قرة باغ، مدعومة بالمئات من المرتزقة الذين يديرون المعارك على الأرض فيما تتولى القوات التركية وضع الخطط الميدانية مع القيادة الجوية والاستفادة من فاعلية المسيرات.

لقد بات العالم يتعامل مع الوجود التركي في سوريا كأمر واقع، وصارت تركيا جزءا من الحل من خلال تفاهمات سوتشي وأستانة بدلا من الضغط عليها للخروج من سوريا في سياق توفير شروط إنجاح الحل السياسي القادر على الصمود.

ويمكن القول إن أردوغان نجح في إدارة اللعبة في سوريا عبر بناء علاقات تبادل منافع مع روسيا، ومع الولايات المتحدة، واستفاد من السير على الحبال بين الخصمين، اللذين ينظران إلى تركيا كورقة مساعدة على تحقيق مكاسبهما، وليس كطرف متحد للقانون الدولي، وهي بدورها توظف علاقة التنافر والتقارب مع الطرفين كورقة للاعتراف بوجودها العسكري المباشر على أراض سورية.

والأسبوع الماضي، اعتبر الجنرال الروسي المتقاعد سيرغي تشفاركوف أن تركيا دخلت إلى مناطق في شمالي سوريا لتبقى فيها إلى الأبد، وأنها تُشكِّل في الوقت الحالي مناطق حكم ذاتي موالية لها في شمال غرب وشمال شرق سوريا.

والمفارقة أن الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا دخلت في تفاهمات سرية وعلنية للضغط على إيران وإخراجها من سوريا من خلال استهداف إسرائيلي منظم للوجود الإيراني ولتمركزات حزب الله اللبناني ومنعه من الحصول على أسلحة، فيما لا أحد يستهدف الوجود التركي ولا يقصف مواقع لـ”الجيش الوطني السوري”.

وبات الجيش الوطني السوري يلعب نفس الدور الذي يلعبه حزب الله في خدمة إيران، مع أن أنقرة وطهران تنفذان الأجندة في سوريا، أي التدخل بهدف خلق وجود دائم ومن خلالها تحقيق تفاهمات على الملفات الإقليمية سواء في العلاقة بإسرائيل أو الوضع في لبنان وغزة.

تضخيم القدرات

من الواضح أن تركيا تستفيد من فراغات في التوازنات الدولية في سوريا وغيرها، في غياب موقف دولي ضاغط يطالب بانسحاب القوات الأجنبية من سوريا، بما في ذلك القوات الروسية التي ينظر إلى وجودها على نطاق واسع كوجود شرعي، والأمر نفسه لتمركز القوات الأميركية في مناطق النفط والغاز شمال شرق سوريا.

وبالنتيجة، صار يسمح لأنقرة بأن تنفذ استراتيجية مصغرة مستقاة من استراتيجيات القوى الدولية الكبرى، أي التدخل العسكري المباشر والفعال الذي يحدث تأثيرا على الأرض، ثم تحويل النقاش وردود الفعل ليس إلى أصل القضية، أي اعتبار وجودها احتلالا مباشرا يجب منعه بالكامل، ولو بالقوة الدولية، إلى تتبع الأخطاء الميدانية والتجاوزات القانونية والأخلاقية، وتسريب خطط الأتراك في الاستعانة بالمرتزقة أو بناء علاقات مع مجموعات متشددة يفترض أنها مصنفة دوليا كمنظمات إرهابية.

ولقد ساعد الإعلام الدولي، وخاصة الإعلام العربي المندفع والذي يتحكم في ردات الفعل، في خدمة أجندة تركيا الهادفة إلى الظهور كقوة مؤثرة على الأرض، وساعد التهويل في التغطيات ونشر التسريبات والتقارير في تحويل الأتراك إلى لاعب ذكي ومناور، وأحيانا كقوة خارقة قادرة على نقل الآلاف من المرتزقة والعتاد الثقيل وحشد أسراب الطائرات في أماكن متعددة في نفس الوقت، وهو ما يوفر الأرضية التي يبحث عنها الأتراك لإظهار أنهم قوة صاعدة يحتاج الآخرون لقراءة حسابها في تقاسم النفوذ والمغانم.

وبالنتيجة، فإن نجاحها في تمرير استراتيجية التمركز على الأرض في سوريا وتحمل الضغط الدبلوماسي والإعلامي، دفعها إلى مغامرة أكبر وسعت من خلالها استراتيجيتها لتخرج بها من المناورة في الحزام الحدودي إلى تمدد أبعد مدى، ولكن في الفضاء التاريخي للإرث العثماني، حيث لعبة النفط والغاز في ليبيا ثم شرق المتوسط ولاحقا في أذربيجان كمنطقة حيوية قد تحول تركيا إلى معبر دولي رئيسي للغاز نحو أوروبا يضاف إلى استضافتها لخط النقل الروسي.

وتوظف تركيا في كفاحها نحو التمدد مجموعة مفاهيم قومية وعقائدية راسخة مثل استدعاء التاريخ في ما بات يعرف بـ”العالم التركي” والتأسيس لقوة صاعدة للناطقين باللغة التركية في آسيا الوسطى، ومجموعة أخرى لدول البلقان، فضلا عن مقولة “الوطن الأزرق”، التي تشرعن للتمدد في المتوسط والسعي لافتكاك “حقوق تاريخية” تتناقض مع القانون الدولي سواء في جزر يونانية أو في المجال الحيوي لقبرص، ومن خلال الاتفاقية البحرية مع ليبيا، والتي تشق بها المتوسط.

وللمفارقة، فإن هذه الاتفاقية قد حازت على اعتراف الأمم المتحدة، وفق ما نقلت وسائل إعلام تركية الجمعة الماضي، ونقلت مواقع تركية أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش صادق الأربعاء الماضي على الاتفاقية الموقعة بين تركيا وليبيا وفق المادة 102 من ميثاق الأمم المتحدة.

إن تركيا/ أردوغان تعمل من خلال سياسة التلويح بالقوة والصدام الأرعن على إلغاء الاتفاقيات الدولية التي تم توقيعها بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية، وتفكيك إمبراطوريتها إلى قطع متناثرة، وهي تستفيد في تحقيق هذا المسار من اختلاف مصالح وحسابات الدول الأوروبية، والتي لا تزال تتحرك كدول منفردة بالرغم من انضوائها تحت لواء الاتحاد الأوروبي.

وإلى الآن، فإن فرنسا هي الوحيدة التي تبدي قدرا ضئيلا من المقاومة للتمدد العثماني الجديد. ومن المهم الإشارة إلى أن التمدد التركي في المتوسط يحمل الصدام إلى أقصاه، فالتنقيب جار في أكثر من مكان، وبأسلوب القوة في ظل مرافقة سفن عسكرية لسفن التنقيب، وهو ما يجعل أي ردة فعل من الجهة المقابلة تقود إلى مواجهة عسكرية، وتعرف أنقرة أن اليونان أو قبرص لا تقدران على المجازفة بالصدام لعدم تكافؤ القوى.

وأعلنت تركيا منذ ثلاثة أيام أنها ستجري مناورات عسكرية بمشاركة القوات البحرية والجوية خلال الأيام القادمة، في منطقة شرق المتوسط، في نفس توقيت ومكان مناورات يونانية، ما قد يدفع إلى اشتباكات على خطوط التماس.

كما أن الدور الفرنسي المساند لليونان لم يتجاوز بعد الإسناد السياسي والدبلوماسي وعرض توفير أسلحة وطائرات عسكرية، وهو أمر لن يغير كثيرا في موازين القوى. فيما تسود خلافات بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن سن عقوبات قاسية قد تضغط على أردوغان للتراجع.

وقالت وزارة الخارجية التركية ردا على قمة الاتحاد الأوروبي التي انعقدت الخميس الماضي، إن “تواصل استخدام لغة العقوبات أمر غير بنّاء وعلى الاتحاد الأوروبي أن يفهم الآن أنه لن يصل إلى شيء من خلال هذا النوع من الخطابات”.

وهم النصر الاستراتيجي

النجاح في تثبت استراتيجية تدخلات الأمر الواقع قد لا يتحول إلى “نصر استراتيجي” ولا ينقل تركيا إلى قوة دولية بالحجم الذي كانت تلعبه الإمبراطورية العثمانية لاعتبار فوارق نوعية، فتركيا لا تملك أدوات التمدد الدائم، كما أن الإرث التاريخي والعرقي المتسع والضخم لا يوفر لوحده ضمانات بناء عثمانية جديدة يمكن أن تتسع إلى حدود الصين وأوروبا وأفريقيا.

وثمة أسباب تبرر ذلك، فتركيا الآن تتحكم فيها جغرافية فقيرة للموارد الطبيعية، التي تتيح خوض حروب طويلة المدى والإنفاق عليها بسخاء، كونها لا تمتلك النفط ولا الغاز، كما أن موقعها الاستراتيجي لا يوفر لها سوى ميزة أن تكون منطقة عبور خاصة لخطوط الغاز.

وقد تكون أنقرة نجحت في لعبة إلهاء الجيش، وهو جيش ضخم من حيث عدده، بأن أغرقته في معارك متعددة وذات مخاطر عالية لإلهائه عن العودة إلى لعب دور استراتيجي مؤثر في مسار الدولة والدفاع عن رؤية قومية علمانية خلقت أرضية ما بات يعرف بـ”سياسة صفر” مشاكل مع الجيران، وهو ما يتعارض مع استراتيجية للتمدد خلقها أردوغان ووسع بها دائرة الفوضى والإرباك في الداخل التركي، ودفع اقتصاد بلاده إلى حافة الهاوية ما يمنعه من الإنفاق على أي مغامرات خارجية متوسطة المدى، فما بالك بحرب تموقع قد تستمر لعقود بحثا عن دور بين الكبار.

وإذا كان الاقتصاد التركي لا يتحمل الإنفاق على المغامرات العسكرية، فضلا عن تضخيم مسار التصنيع العسكري على حساب مشاريع أخرى والسعي لتحويل هذا الاقتصاد إلى اقتصاد حرب، بالتوازي مع فشل بدائل براءت البيرق، صهر أردوغان، وزير المالية، واستمرار تدني الليرة، فكيف لهذا الاقتصاد أن ينفق على مجموعات المرتزقة متعددي الجنسيات؟

إن استراتيجية تركيا في التمدد لم تحقق إلى حد الآن مكاسب اقتصادية ولم تضع يدها على موارد حيوية في مناطق التدخل، ففي سوريا لا تزال القوات التركية في حالة استنفار دائم بسبب السيطرة على مناطق شروط التمرد/ المقاومة فيها عالية خاصة من الأكراد، فضلا عن اضطرار تركيا إلى الإنفاق على “المناطق الآمنة” التي فرضتها بقوة السلاح، وتوفير تمويلات ضخمة لإدارة أزمة اللاجئين، الورقة التي تريد الإمساك بها باستمرار لتوظيفها في التفاوض على وضع مريح في سوريا.

وفي ليبيا، تجري المتغيرات في اتجاه آخر بعيد عن قبضة تركيا، رغم الاتفاقيات مع حكومة فايز السراج، وخاصة ما تعلق بالقواعد العسكرية واستفادة أنقرة من اتفاقيات لتدريب قوات أمنية تابعة لحكومة الوفاق، وأخرى في مجالات الكهرباء والبنية التحتية ومع البنك المركزي.

لكن هذه الاتفاقيات قد تصبح بلا قيمة في ظل تراتيب الاتفاق السياسي الذي يجري إعداده برعاية أميركية مباشرة لإعادة توزيع النفط والمناصب ومناطق النفوذ، وهو اتفاق لا يهدد تركيا لوحدها بل معها روسيا وإيطاليا وفرنسا، وكلها ستضطر لأن تكون شاهدة على اتفاق يمكّن واشنطن من وضع يدها على مآلات صراع نفوذ استمر قرابة العشر سنوات بين الدول المعنية.

إن عجز أنقرة عن تحصيل مزايا راهنة لتدخلاتها سيجعلها عاجزة عن تمويل عشرات الآلاف من المرتزقة، وهو ما يهدد بخروج هؤلاء عن السيطرة والتحول إلى مجموعات قتالية تحت الطلب، وربما تكون تركيا أولى ملاعبهم الانتقامية في استعادة لتجربة تنظيم القاعدة الذي تأسس على أنقاض مجموعات “جهادية” عملت واشنطن وحلفاء لها في الشرق الأوسط على حشدهم وتدريبهم ضد روسيا قبل أن تنفجر قنبلة هؤلاء الجهاديين في وجوههم داعمين الأصليين بداء بهجمات سبتمبر 2001 المرعبة.

وبالنتيجة، فإن تركيا قد تحترق بلعبة التمدد واستعادة الأمجاد كقوة تمدد قومي وعرقي، خاصة أنها تعمل على استنساخ تجارب الولايات المتحدة في التدخلات العسكرية المباشرة، ولعب أدوار معقدة تراوح بين النفوذ الناعم والاستثمار في “الفوضى الخلاقة”، مستعينة بشبكة علاقاتها مع الجماعات الإسلامية المختلفة. لكن من الظاهر أن أنقرة لا تعي أنها لا تمتلك عناصر القوة الكافية اقتصاديا وعلميا ودبلوماسيا التي خلقت من الولايات المتحدة قطبا رئيسيا للهيمنة دوليا.

عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية