التنوير بين مطرقة التسطيح وسندان الهمجي النبيل

التنوير بين مطرقة التسطيح وسندان الهمجي النبيل


27/09/2018

كان الأب الفرنسي جان ميسليه  Jean Meslier أولَ من جاء بمفهوم التنوير، ونظَّر له في كتابه الوصية testament، والذي ظهر بعد وفاته العام 1729، وظهرت فيه النزعة إلى التحرر من الرؤى الدينية الكاثوليكية التقليدية، والدعوة إلى فتح النوافذ لنور العقل، باعتباره وحده الكفيل بتحرير الإنسان من ربقة الجهل، والأخذ بيده نحو كمال الروح والحكمة المطلقة، وهو ما جاء متسقاً مع الحالة الأوروبية آنذاك، وقد بدأ نفوذ الكنيسة في التراجع تحت ضربات التساؤلات العقلية التي فجرتها كتابات مندلسون وفولتير ومونتسكيو وفونتانيلي وبيكون وهيوم وغيرهم، لتبدأ حقبة تاريخية اصطلح على تسميتها بــ "عصر التنوير" Enlihtenment  تعبيراً عن تلك الحركة الفكرية والاجتماعية التي وضعت أوروبا على أعتاب الحداثة وما بعدها، وقد تحول التنوير من إطار نظري فلسفي إلى ممارسة ذات فعالية اجتماعية، وهو ما اتفق مع ما طرحه مندلسون في القرن الثامن عشر، حينما أكد أنّ المعرفة والتنوير يجب أن يحدثا تعديلاً في الحياة الاجتماعية.

في القرن السابع عشر ظهرت شخصية الهمجي النبيل، في مسرحية لتعبر عن الخير الفطري في الإنسان الأول

في المشرق العربي، بدأ التنوير يتلمس طريقه على استحياء، مع مطلع القرن العشرين، كمحصلة لحركة الاحتكاك الثقافي التي نتجت عن البعثات العلمية، وعلى الرغم من الزخم المعرفي الذي أحدثته كتابات شبلي شميل، وطه حسين، وعبد الرحمن بدوي، وزكي نجيب محمود، وغيرهم، لكنّ هذا النشاط العقلي ظل حبيس الدوائر الثقافية المغلقة، وبقي محدود الانتشار، اللهم إلا في أوقات المعارك التي أثارتها بعض الكتابات، إثر قيام التيار الأصولي باستدعاء الجماهير لمناصرته، كمعركة الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، والشعر الجاهلي لطه حسين، وفي غياب أية إرادة سياسية لإحداث تغيير معرفي حقيقي، خشية أن يقترن ذلك بتغيير سياسي حتمي يؤدي إلى تداول السلطة، ومن ثم أصبح مصطلح التنوير سيئ السمعة بين الجماهير؛ حيث اقترن في البنية الذهنية لديهم بالعلمانية التي تؤدي إلى فصل الدين عن الدولة وتهميش دوره، حسبما روج الإسلاميون.

التنوير العربي وسردية الهمجي النبيل

من قبل، وفي القرن السابع عشر ظهرت شخصية الهمجي النبيل، في مسرحية لـ"جون درايدن"، لتعبر عن فكرة الخير الفطري في الإنسان الأول، باعتباره ذلك الحيوان الطيب والمسالم الذي أفسدته الحضارة فيما بعد، وهي الفكرة التي تلقفها روسو، وروج لها، ليغدو الهمجي النبيل حالة ينبغي استعادتها بتكريس عقد اجتماعي يتحرر فيه الإنسان من قيوده، ويعود إلى أصله الطيب، وهو يمارس فعل التحضر الذي ترسمه القوانين الحديثة.

اقرأ أيضاً: مذكرات محمد عبده.. كيف ودّع رائد التنوير كراهية العلم؟

هذا الهمجي الذي فقد نبله تحت وطأة الحداثة المنقوصة، بكل تناقضاتها في مشرقنا العربي، وفي غياب أية صيغة إنسانية لعقد اجتماعي حقيقي بين السلطة ورعاياها، أفقد حركة التنوير ظهيراً شعبياً لا غنى لها عنه، وهو الأمر الذي منح المؤسسات الدينية مزيداً من الدعم في تحالفها مع السلطة، وهو ما ظهر جلياً في قضايا الحسبة المتعددة التي باتت سيفاً ماضياً على رقاب المفكرين.

اقرأ أيضاً: الدين والتنوير العقلاني والسياسي

ومع صعود التيارات الإسلامية، وانحسار موجة التنوير، وفي ظل غياب مشروع نهضوي حقيقي، ومع ترنح المنطقة تحت وطأة التصدعات التي أحدثتها فوضى ما بعد "الربيع العربي"، تراجع المركز لصالح ثقافة الهامش، وانحسر مد الأعمال الفكرية التي تحمل تنويراً حقيقياً، لصالح مدعي التنوير من أنصاف ومنعدمي الثقافة، في مزايحة تاريخية، استفادت من زخم مواقع التواصل الاجتماعي، وبريق الفضائيات الباحثة عن الإثارة الإعلامية، وهو ما خلق نوعاً من الابتذال في تناول مفهوم التنوير، الذي تقادم مع مرور الزمن، ليتصدر المشهد أولئك القادمون من هامش المعرفة، بتنويعات صدامية مكررة، خلقت منهم قضايا الحسبة أبطالاً وهميين في مواجهة قوى الظلام والرجعية.

تقادم المفهوم

لم يدر بخلد مثقف الهامش، وهو يرفع رايات التنوير، أنّ المفهوم الذي كان يمثل مركزية الحداثة الغربية، في معركة خلق المجتمع العقلاني المطلق القائم على العقل وحده، أصابه التقادم، بعدما فشلت الحداثة في تحقيق وعودها، لصالح مفهوم ما بعد الحداثة Postmodernism القائم على رفض الحقائق المطلقة، في عالم طارئ يرفض الثبات والحتمية والهويات الثابتة. وبحسب ليوتار فإنّ الخطاب العلمي المكبل بهيمنة رغبات الرأسمالية النفعية وسطوتها بات يسيطر على كل سرديات المعرفة.

اقرأ أيضاً: عدنان إبراهيم بين إشادات التنوير واتهامات الفتنة

من جانبه، حاول هابرماس تجديد دماء الحداثة عبر تكريس فكرة العقل الكلي، من خلال الانتقال بالعقلانية من الذات إلى المجتمع، وإبراز تجلياتها في الفعل التواصلي، وتكوين نسق اجتماعي ديموقراطي لا يستبعد أحداً، مؤكداً أنّ مشروع الحداثة لم يتحقق بعد، وأن التنوير مايزال قادراً على تطوير بنائه الهرمي، واستبعاد ما لا يتفق مع الحداثة، مع إمكانية خلق مجتمع يحقق حداً أدنى من السعادة للجميع، لكن دعوته للأخلاقية الكلية سببت نوعاً من الارتباك، في ظل استحالة وجود نسق أخلاقي يمكن تطبيقه على جميع البشر.

حاول هابرماس تجديد دماء الحداثة عبر تكريس فكرة العقل الكلي من خلال الانتقال بالعقلانية من الذات إلى المجتمع

ومع تقادم مفهوم التنوير، تقادم بالضرورة مفهم العلمانية الذي اقترن به هو الآخر في القرن الثامن عشر، وفي ظل حالة دائمة من المراجعات المعرفية، تبيّن أنّ الوسيلة لم تحقق بعد الغايات المرجوة، والوعود المأمولة، في هذه الدائرة المفاهيمية ظهر مصطلح ما بعد العلمانية، الرافض لهيمنة الأيديولوجيات، عبر إعادة تكييف الظواهر الدينية والمذهبية والفلسفية، وموضعتها من جديد بشكل أكثر اتساقاً، وأقل تصادماً، من خلال إدارة التنوع بشكل عقلاني أكثر تحرراً، بعيداً عن إكراهات المركزية الغربية.

ولأنّ مثقف الهامش المتصدر للمشهد الإعلامي العربي لا يقرأ، ويعتمد في الغالب على ثقافته "الفيسبوكية"، وصولاته العنترية التصادمية، القائمة على خواء معرفي، جرى ابتذال مهترئ لمفهوم التنوير المتقادم، وتفريغ –عن جهل- لمفهوم العلمانية التي تعني بالنسبة له فصل الدين عن الدولة، وحجبه عن المجال العام بكل منطلقاته، وتحويل العلمانية إلى كهنوت فاشي سلطوي، مع الانغماس في معارك سطحية تختزل التنوير في خلع الحجاب وحرية الجسد، دون وضع السياق الاجتماعي المتراجع حضارياً وفكرياً في الاعتبار، مع إهمال القضايا الرئيسية كالتعليم والصحة وحق المعرفة ومواجهة كهنوت المؤسسات الدينية المتحالفة مع السلطة، في الاعتبار.

اقرأ أيضاً: أفكار في عقل أبكار السقاف: رحلة كاتبة تنويرية

هؤلاء المدافعون عن قضايا انتهت إكلينيكياً منذ قرنين من الزمان، لم يدركوا أنّ عالم (المابعد) قد تجاوزهم، وأنهم باتوا عبئاً على التنوير الذي يدعون انتماءهم إليه، وقد تحولوا إلى مجرد وسطاء في سوق إعلامي مفتوح، يمارسون ببضاعتهم الرديئة أسوأ أنواع التجارة، ألا وهي نخاسة العقل.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية