الجالية الأردوغانية في مصر: صيادو الساحرات ومصيرهم العادل

الإسلام السياسي

الجالية الأردوغانية في مصر: صيادو الساحرات ومصيرهم العادل


08/02/2020

لم يحقق الإسلام السياسي السنّي انتصاراً واحداً على مدار تسعين عاماً من عمره، يجعله يغيّر كثيراً في عمق الساحة السياسية في العالم العربي، على الرغم من صعوده إلى السلطة في السودان، عبر انقلاب عسكري على المسار الديمقراطي (1989- 2019)، والجزائر (1991- 1992)، ومصر (2012- 2013)، وكانت حركة النهضة في تونس على وشك الوصول إلى السلطة، لولا أن تعلمت درس الإخوان في مصر، ففضّلت أن تكون جزءاً من ائتلاف حاكم، وفي المغرب جرى استيعاب الإسلاميين في سياسات المخزن، ومن ثمّ تبرز أهمية البحث والتفكر حول الآثار الاجتماعية لتسيّد الإسلاموية المشهد العام عربياً، وحول القنوات التي تسربت فيها بعد سقوط مشروعها السياسي.

حدود المشروع الإسلامي

بعد قرن من التجارب الفاشلة والنكبات؛ كان الإنجاز الوحيد للإسلاموية السنّية هو تغيير العادات والمظاهر الاجتماعية والملابس لجهة المحافظة، وهو إنجاز ضئيل قياساً بمعايير حسن البنا لمشروعه، ذي الطابع الخلاصي الذي حاول من خلاله أن يجعل من الإسلام محوراً لكلّ شيء؛ بدءاً من السياسات الدولية وحتى آداب العلاقة الزوجية.

بعد قرن من التجارب الفاشلة والنكبات كان الإنجاز الوحيد للإسلاموية السنّية هو تغيير العادات والمظاهر الاجتماعية والملابس

تبيّن بعد السقوط المدويّ للإسلام السياسي في مصر؛ أنّه من المستحيل الحفاظ على هذا الإنجاز المتواضع أيضاً؛ إذ إنّ موجة التدين الجماعي والاستعراضي التي ضربت مصر منذ الثمانينيات حتى بداية الألفية كانت مدعومة بضغط إسلاموي جبّار من أسفل، بالهيمنة المتشنجة على المجال العام، ومن أعلى، بإجبار السلطة العلمانية على تقديم تنازلات ضخمة فيما يخصّ أسلمة القوانين والسياسات التعليمية وملاحقة المبدعين (سنكون مفرطين في الطيبة إذا اعتبرنا أنّ التدين (النشط/ الحركي أو السلبي) مجرد اختيار شخصي وليس حصيلة لتفاعلات ليست دائماً حرة، بل تتخللها عمليات من الترهيب والإخضاع والهيمنة).
انكشفت حدود الإسلاموية، واتضح أنّ نجاحها الكبير في التحول إلى حركة جماهيرية جارفة، خلال الأربعين عاماً الماضية، نجاح خادع، وأنّ ما يمكن أن تنجزه فعل ثقافي بحت، وأن تكون أداة في يد القوى الإقليمية (وتحديداً تركيا) التي تحاول ملء الفراغ الناتج عن تهاوي دول ما بعد الاستقلال العربية.

اقرأ أيضاً: "خصوم في الخارج والداخل".. أردوغان يشن حرباً كلامية على منتقديه
فجماعة الإخوان (النواة الصلبة للإسلاموية المصرية) التي لطالما برعت في خداع أنصارها وخصومها على السواء، بامتلاكها مشروعاً سياسياً قادراً على خلق مجتمع جديد كليّاً، واختراع أشكال ونماذج سياسية/ أخلاقية جديدة مختلفة عن الحزب الواحد في المعسكر الاشتراكي وملحقاته من دول التحرر الوطني، وعن الديمقراطية الغربية التعددية، وقدمت نفسها عالمياً على أنّها الحركة الأم للإسلام السياسي في العالم، ما إن طحنتها "الحرب الأهلية السياسية" (وهي حرب متوقعة لمحاولة فرض نظام شمولي على بلد فائق التعدد والتنوع مثل مصر) لجأت إلى الحضن التركي، على اعتبار أنّه يمثل فرعاً من فروعها المتناثرة.
وفي بداية تدهور وضع الإسلاميين في مصر؛ تفهّم أغلب المهتمين بالشأن العام مسألة لجوء المعارضة الإخوانية إلى تركيا ضمن سياق الأممية الإسلامية المتخيلة، غير أنّ السياسات التركية التوسعية في سوريا وليبيا، التي حظيت بتأييد ومباركة معارضة المهجر الإخوانية، سرعان ما بددت هذا التفهُّم.

هنا يظهر قصور زاوية النظر الثقافية في التعامل مع النظام التركي؛ فالإسلاموية التركية اندمجت منذ أواخر التسعينيات في تقاليد المحافظية التركية (يمين الوسط)، وباتت تعبّر وتمثل المصالح القومية التركية، أكثر مما تمثل انتصار فكر أيديولوجي إسلامي تخلّت بنفسها عنه كشرط من شروط الدخول إلى اللعبة السياسية في تركيا ذات البنية العلمانية الراسخة.
وبالتالي؛ كان التعامل مع العلاقات (الذيلية) الإخوانية/ التركية نتيجة طبيعة لوجود أممية إسلامية متضامنة ومتواشجة، محض إساءة لفهم البيئة السياسية التركية وتحولاتها؛ فإسلامية حزب العدالة والتنمية المزعومة ليست سوى ذكرى باهتة لانحداره من "الميلي جورش" (الحركة الإسلامية التركية).

اقرأ أيضاً: مركز بروكسل الدولي للبحوث: انتهاكات أردوغان لحقوق الإنسان مريعة

حين كان السياسيون في مصر يطلقون تعبير "فصيل وطني" (والذي أصبح موضع سخرية الآن) على الإخوان، لم يكونوا يقصدون تكريمهم بإلحاقهم بصفوف الوطنية المصرية، أو إضفاء طابع أخلاقي على وجودهم ونشاطهم بالطبع، بل كانوا يقصدون أنّ الجماعة تتحرك في إطار الواقع المحلي المصري، وليست خاضعة لأية تأثيرات من الخارج، وأنّ قرار قادتها، أياً كان، نابع من رؤوسهم، وبالعكس حتى الذين كانوا ينددون بالتنظيم الدولي للإخوان كانوا بالكاد يخفون إعجابهم بالموقع الريادي للإسلاميين المصريين فيه.
تبخرت هذه الاستقلالية لاحقاً بمجرد أن انتكس الصعود الصاروخي للإخوان عقب الثورة، وأصبحت الجماعة (والجزء النشط من أنصارها) جزءاً من الإستراتيجية التوسعية لتركيا الرامية لمدّ نفوذها على العالم السنّي، كمعادل للنفوذ الإيراني داخل الجيتوهات الشيعية، وأصبح من المستحيل عملياً النظر إلى الواقع الإسلاموي في مصر، دون مراعاة التعقيد بين ما هو داخلي وخارجي فيه.

اقرأ أيضاً: أردوغان وإرث الدم
وإن كانت مشكلة الهيمنة التركية على الإسلام السياسي المصري أكبر من مجرد تحوُّل جماعة ملتزمة بالإطار المحلي إلى تنظيم تابع ومُستغَل ضمن إطار سياسة دولة إقليمية؛ بل تتعلق المشكلة بالأساس بالمساهمة في تحويل العالم العربي إلى ساحة صراع إستراتيجي بين الساعين لوراثة النفوذ الأمريكي المنحسر بحكم اهتمامات الإدارات الأمريكية المتعاقبة بالصين وجنوب شرق آسيا، وترك المنطقة التي لا تهدأ صراعاتها لمصيرها.

على المستوى الداخلي المصري؛ تتعلّق المسألة بالتشكيك في وطنية أنصار الجماعة على نطاق شعبي (وهم مشكوك بالفعل في ولائهم من قبل السلطة وإعلامها) في ظلّ الصراع الدائر بين مصر وتركيا في ليبيا، خاصةً بعد انتظام إخوان سوريا في فرق مرتزقة بـ "الجيش الوطني" الذي يحركه أردوغان من حرب إلى حرب حسبما تقتضي مصالح تركيا (بقاء الدولة في مصر على حالها كان هو الحائل الوحيد دون خلق "مرتزقة جدد") وبالتالي تضمنت الآثار الجانبية للصراع المصري/ التركي استبعاد إمكانية المصالحة مع الذين لم يتورطوا في العنف من أنصار الجماعة، وإبقاء الوضع الاستثنائي الذي تشهده مصر على ما هو عليه.
العاطلون عن السياسية
فجأة أصبحت الدولة الإسلامية الموعودة منذ الأربعينيات، والثورة الإسلامية المرتقبة منذ السبعينيات، والاقتصاد الإسلامي الفريد من نوعه (وهو ليس أكثر من بلاغة دعائية لإضفاء طابع شرعي على المضاربات النيو ليبرالية والتعاملات المصرفية الربوية)، أصبح كلّ ذلك جزءاً من الماضي الذاهب إلى غير رجعة.
وبعد تراجع إمكانية العمل السياسي المشروع (الانتخابات، الحشد، التظاهر) وانسداد الأفق أمام الذين اتجهوا للعنف، عقب 30 يونيو، لم يعد أمام الكادر الإسلامي سوى التذيل السياسي لتركيا (وليس الأيديولوجي حتى)، بما يشمل الترويج لمسلسل "قيامة أرطغل"، والدفاع عن رسائله وجمالياته، والتأكيد على طابعه الملحمي في مواجهة مسلسل "ممالك النار" الساعي لإحياء مجدد المماليك! وكذلك العودة إلى السلفية.

حين كان السياسيون في مصر يطلقون تعبير "فصيل وطني" على الإخوان لم يكونوا يقصدون تكريمهم بإلحاقهم بصفوف الوطنية المصرية

ويتجلى ذلك كأفضل تجلٍّ في دورات من قبيل "شيخ العمود" للتعمُّق في العلوم الشرعية، ودورات "مكافحة الإلحاد"، وهي مشاريع من نوع "صيد الساحرات"، بحسب تعبير الكاتب السوري، موريس عايق، والتي تؤول بطبيعة الحال بمشاريع تكفير تطارد حريات الناس (كحملة تكفير أحمد الغندور والتشهير ببرنامجه "الدحيح"، والتي قادها الداعية الأردني، إياد قنيبي، وجمهوره من المصريين في الداخل، وفي تركيا)، وتحطّ كلّ قيمة أخلاقية يمكن الإعلاء من شأنها في هذا الزمان الصعب.
وقضية موت نورهان نصّار، أفضل دليل على هذا التكفير وتمريغ القيم، ونورهان كانت مُعِدّة ببرنامج "الدحيح"، وقد أعلنت إلحادها قبل ثلاثة أعوام (ونقل عنها أصدقاؤها أنّها عادت لمراجعة أفكارها بخصوص الإسلام قبل وفاتها، ولم يأخذ الإسلاميون بهذه التفصيلة؛ إذ إنّ حملة التشهير بها أُعدَّت مسبقاً)؛ حيث تمترس النشطاء الإسلاميون خلف المبدأ السلفي القائل بـ "عدم جواز الترحم على الكافر"، وخاضوا "حرب الألف عام" ضدّ كلّ من ترحم عليها، على الرغم من أنّ الترحم على الموتى أكبر من مسألة شرعية ويضرب في جذور الثقافة المصرية المتسامحة.

ولهذه العودة جذورها؛ فالإخوان يتبنون الأجندة السلفية منذ لحظة التأسيس الأولى: العودة للكتاب وللسنّة والشريعة (كجملة أحكام إلهية وليس كمدونة تشريعية ذات طابع تاريخي)، ويتحفظون على الاجتهاد، ويقطعون مع تراث الحضارة الإسلامية، الفلسفي والكلامي، الذي يرونه محض انحراف عن نقاوة المجتمع المسلم الأول، ومن سهولة انزلاق الكوادر الإسلامية نحو سلفية قديمة/ متجددة تُعلي من شأن القضايا العقائدية على المطامح السياسية؛ أضحى النشطاء الإسلاميون يتملكهم هاجس المُعتقد الفردي، وهو ما سهّل عمل المعجم السلفي حول الولاء والبراء.

اقرأ أيضاً: أردوغان وفلسطين.. المتاجرة والحقيقة
تُمسي الحياة عادلة أحياناً، وبشكل قاسٍ؛ فلم يكن أكثر الناس تشاؤماً يتصور أنّ الإخوان، بكل أوهامهم الطموحة لأستاذية العالم، بعد عداء 80 عاماً لأتاتورك، ووصفه بـ "الشيطان اليهودي" الذي خرّب الإسلام، ينتهي بهم الحال كـ "طابور خامس" تركي في شتى البلدان العربية، و"مرتزقة في جيش أتاتورك" في حربه الأبدية على الأكراد وفي الحرب من أجل الغاز في ليبيا، وبقيادة وفضل منتسبَين إليهم؟
وليت انتقام التاريخ أتى مُشرفاً؛ فالقائد الإسلاموي المزعوم لم يدمجهم في تشكيلات الجيش على سبيل اللياقة السياسية أو باعتبارهم جزءاً من مشروع إسلامي، بل قادهم على شكل عصابات تتقدم ضمن تحركات للجيش، وتتلقى الضربات عنه مثلما كان الفرس يعاملون أسراهم في الحرب على إسبرطة!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية