الجهادية.. حين يلتقي الدين بالسياسة

الجهادية.. حين يلتقي الدين بالسياسة


كاتب ومترجم جزائري
19/06/2018

ترجمة: مدني قصري

هناك أيديولوجيا جهادية حقيقية، مع أصول نصيّة، ومرجعيات لاهوتية، وأتباع في جميع أنحاء العالم. لكن المُجنّدين الجدد للدولة الإسلامية يعبّرون عن دوافع أخرى في الجهاد.

منذ كتاب برونو إيتيين "الراديكالية الإسلامية" (1987)، اتّفق الباحثون في العلوم الإنسانية والاجتماعية في نقطة واحدة: هناك في الواقع أيديولوجيا سياسية إسلامية، مع أصولها النصّية ومرجعياتها، هذه الأصول النصيّة تستند، أوّلاً وقبل كل شيء، على القرآن الكريم، إنها تفضّل قراءة انتقائية، بما في ذلك اقتباس بعض السور القرآنية على حساب غيرها.

محمد بن عبد الوهاب (1703-1792) أحد مؤسسي السلفية الحديثة التي تبناها المتطرفون

أيديولوجيا إسلامية
الأيديولوجيا الجهادية تستخدم أيضاً السنّة (التقليد النبوي) التي تتكون، إضافة إلى القرآن الكريم، من الأحاديث (أقوال النبي المعترف بها)، هذه الأحاديث يتم تعبئتها وتوظيفها؛ حيث يقوم المثقفون الراديكاليون بانتقاء نصوص من بين الآلاف المجدوَلة في النصوص الدينية.

إضافة إلى النصوص المقدسة، يستخدم أيديولوجيو الجهاد الكثيرَ من "الفلاسفة"، أولهم ابن تيمية (1263-1328)، فهذا المفكر الراديكالي الذي عاش في القرن الثالث عشر، كان من أوائل الذين نشروا كتباً عن الردة، وانحطاط الأخلاق، والأشكال "المنحرفة" في الإسلام (مثل الصوفية أو عبادة القديسين)، فضلاً عن أنه برّر الحرب واستخدام العنف، بما في ذلك ضدّ المسلمين أنفسهم.

الباحثون مختلفون بين الدوافع الدينية والظروف الاجتماعية الاقتصادية بين جاذبية الموت والالتزام بمشروع سياسي بين الثقافة والدين

أما الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1703-1792)؛ فهو واحد من مؤسسي السلفية الحديثة، التي تبناها الإسلاميون المتطرفون.

وهناك رائد "أساسي" آخر للأيديولوجيا الجهادية؛ هو سيد قطب (1906-1966)، الذي كانت كتاباته العنيفة ضد الغرب والأنظمة العربية، مصدراً للعمل السياسي العنيف.

بن لادن..من النضال ضد القومية القديمة بالتسعينيات إلى جهاد عالمي في نهاية الـ2000

بن لادن والجهاد العالمي

وفي الآونة الأخيرة، ظهر أسامة بن لادن، والمصري أحمد الظواهري، وأبو مصعب السوري، ليمارسوا تأثيراً في إستراتيجيات الجهاد العالمي؛ من النضال ضدّ القوى القومية القديمة في التسعينيات، إلى جهاد عالمي في نهاية الـ 2000، إلى إستراتيجية الإرهاب الذي تقوده داعش في الوقت الراهن.

اقرأ أيضاً: الاستخدام السياسي للجهاديين وتنامي التطرف والإرهاب

استفادت نصوص هؤلاء المفكرين من وسائل الاتصال الحديثة؛ فهي متوفرة على الإنترنت، وفي التسجيلات الصوتية، وفي بعض الفيديوهات، التي تضمن تماسكاً وتطرفاً إلى الأيديولوجيا الجهادية.

الجهادية وخطاب القطيعة السياسية

بصفتها أيديولوجيا سياسية؛ أي بتقديم رؤية متماسكة لحكومة الرجال، تُعارِض الجهادية الأيديولوجيات الأخرى التي تَجتاز الدول العربية والغرب، وإذا كانت تشترك في العديد من الإشارات اللاهوتية مع السلفية، إلّا أنّها تتميز الآن بوضوح، بخطاب القطيعة السياسية، من خلال الانتقال إلى العمل العنيف والرغبة في فرض نموذج للمجتمع، بالقوة.

التحولات الأخيرة من الفكر الجهادي

مسألة الخلافة تتقاطع مع جميع نصوص الأيديولوجية الراديكالية: هل من الضروري إنشاء إمارات محلية (الظواهري)، أم خلافة عالمية (الدولة الإسلامية)؟ باستخلاص الدروس من التجربة الجزائرية (1991) ومصر (2013)؛ حيث أقصِي الإسلاميون المنتصرون في صناديق الاقتراع عن اللعبة السياسية، قرّر منظرو الدولة الإسلامية حلّ هذه المسألة، منذ 2014، عن طريق بناء دولة إسلامية إقليمية أوّلاً، ثم عالمية.

ابن تيمية (1263-1328) المفكر الراديكالي الذي كان من أوائل الذين نشروا كتباً عن الردة

سوريا... "إلدورادو" جديد للإسلاميين

كانت الحرب في سوريا، التي خلّفت مئات الآلاف من القتلى، منذ عام 2011، وهو ما لا ينبغي أن ننساه، قد شكلت نعمة لمقاتلي الجماعات، ولادة وتنظيم داعش على أنقاض الدولة العراقية، جعلا هذه المنطقة الجديدة" إلدُورَادُو" جديد للإسلاميين الراديكاليين.

أيديولوجية المؤيدين الجدد للخلافة ليست إسلامية بالمفهوم الذي يشاؤون إنها بالفعل مشوبة ومطعّمة باستعارات واقتباسات من الأفكار الغربية

لقد أصبح الالتزام السياسي ملموساً، أصبح للالتحاق بالجهاديين في سوريا معنى، وهو أن يستقرّوا في أرضٍ مسلمة حقيقية، تحكمها قواعد الشريعة الإسلامية، صحيح أنّ حدود هذه الدولة الزائفة غامضة وتتحرك باستمرار، وصحيح أنّ تطبيقهم الانتقائي يثير جدلاً، لكن المقاتلين يظهرون رؤية مثالية لنشاطهم، لديهم في الأفق القدس والمدينة المنورة ومكة المكرمة، حتى يستعيدوا الأماكن المقدسة للإسلام من اليهود (القدس)، ومن الكفرة (العربية السعودية).

إعادة تعريف مفاهيم السلفية

نجاح داعش في سوريا والعراق يعيد تشكيل مجموع الإسلام الراديكالي، فإذا كان التعارض بين السلفيّين والمُقاتلين (بين أولئك الذين يقاتلون والآخرين) قد اشتد، فإنّ المفاهيم الشائعة، مثل الهجرة (الاغتراب الورِع) أصبح مشوّشاً؛ هل يجب الذهاب إلى سوريا، أم إطاعة الخليفة الجديد؟ وبالمثل، أصبحت فكرة الجهاد، وهي في الأصل جُهد فكري ضدّ النفس، فكرة مضللة تماماً. فهذه المفاهيم، الأصلية في السلفية، يُعاد تعريفها اليوم.

انتماءات متنوعة ومضخمة

سواء غادر الرجال والنساء لأسباب دينية (للاستقرار في الأراضي المسلمة)، أو إنسانية (مساعدة ضحايا الحرب الأهلية)، أو سياسية (لصنع الحرب)، فإنهم جميعاً مشتركون في إرادة الانضمام إلى دولة بصدد البناء، والمساعدة في تطوير الإسلام وإنشاء حكومة إسلامية، هوس "المغادرة إلى سوريا" حركة ضخمة فاجأت جميع المراقبين (الباحثين والصحفيين والسياسيين والأجهزة الأمنية)، لقد كان صعود الدولة الإسلامية بمثابة تغيير جيلي للنشطاء، فإذا كانت الاستمرارية بين القاعدة و"داعش" استمرارية مرئية من ناحية القيادات التنفيذية والأيديولوجية، فقد شهدنا تحولاً في الأجيال من وجهة نظر المنخرطين.

الخلافة ليست الأفق السياسي الوحيد المنبثق عن العوالم الإسلامية هناك تيارات أخرى يشار إليها غالباً باسم الإصلاحيين

أقدم الناشطين حاربوا في أفغانستان في التسعينيات، وبدايات الـ 2000، والآن وُلد جيل جديد من المقاتلين في العراق، في الحرب ضدّ الأمريكيين (2003-2011)، ويُدرَّب المجنّدون القادمون من جميع أنحاء العالم.

راديكاليون في دولة إسلامية وليدة

حين يُنظر إليها من أوروبا، كانت المُغادرات إلى سوريا، بين عامي 2010 و2013، تتعلق أساساً بالرجال والنساء المتورّطين أصلاً في الجهاد الدولي، لقد أصبحت سوريا ساحة قتال جديدة، بعد أفغانستان والبوسنة والجزائر والعراق والصومال واليمن، هؤلاء المحاربون وضعوا تجربتهم في حرب العصابات والدبلوماسية مع العشائر والأنظمة القبلية، في خدمة داعش، وهو ما ساعد، دون شك، في توسعها السريع، كما أنّ المغادرين إلى سوريا كانوا أيضاً إسلاميين راديكاليين، أرادوا أن يثبتوا أنفسهم في دولة وليدة، بما يتفق مع تطلعاتهم، والمشاركة في تطوير هذا النموذج المثالي.

لا يوجد تفسير مُرضٍ

منذ عام 2013، كان المغادرون إلى سوريا، بالأحرى من الشباب، الراديكاليين الجدد، الذين لم يكونوا يتقنون قواعد الجهاد الدولي، منطق هذه الالتزامات بالجهاد يبدو أكثر غموضاً، والمسارات أقلّ تأكيداً، فجميع الأوساط شملها هذا الهوسُ الجديد، كما أنّ المقاتلين يأتون من المناطق الحضرية والريفية على السواء، النقاط المشتركة الوحيدة عند معظم المغادرين: منظمة سرية، مشتركة بدقة (بين الأصدقاء والعائلة، بما في ذلك الإخوة والأخوات)، وتأثير شخصية كاريزمية معيّنة، والوعد بالذهاب دون رجعة.

نسخة الخلافة التي اقترحها تنظيم داعش الإرهابي بعيدة كل البعد عن الإجماع داخل هذا الدين

واليوم، لا نملك إلا أن نقترح سبلاً للتفكير، في غياب التفسيرات الدقيقة، الإمكانات التخريبية للإسلام الراديكالي، وعدمية جيل، وإمكانية المغامرة العسكرية، والتجنيد الطائفي، والانجذاب إلى رحلة إلى شرق "ساحر"، ...إلخ. العديد من المقاتلين الذين وصلوا إلى سوريا، منذ 2013، اكتشفوا معاً حقيقة الحرب والحياة اليومية في بلد عربي، وعناد وتصلُّب داعش، وهو أمرٌ ليس بالقليل.

الدين والسياسة يعملان معاً

تفسير هذا التطرف ما يزال اليوم متعثّراً، الباحثون مختلفون بين الدوافع الدينية والظروف؛ الاجتماعية-الاقتصادية، بين جاذبية الموت والالتزام بمشروع سياسي، بين الثقافة والدين. دعونا نقول بتواضع: إنّه لشرح المغادرات إلى سوريا منذ عام 2013، ليس هناك تحليل واضح مرضٍ تماماً. دعونا نتحلى بالشجاعة لنقول: إننا لا نعرف، ليس بعد. لكن يجب أن نتّفق معاً، على الأقل كفرضية عمل، في القول إنّ الدين والسياسة يعملان معاً، لا يستبعِد كل منهما الآخر، وإنّ الأيديولوجيا السياسية للجهادية الدولية تثير استقطابات متعدّدة.

خلافة مشوبة باستعارات من الأفكار الغربية

تتّخذ ذروة التوليفة بين الإسلام والسياسة في المخيال الإسلامي الجماعي شكلَ الخلافة، في كتابه الأخير "الخلافة... التاريخ السياسي للإسلام"، يستعرض المؤرخ نبيل مولين، التسلسل الزمنيّ لهذا الكائن غير العادي، منذ تأسيسه في القرن السابع من التقويم المسيحي، إلى انبعاثه في الآونة الأخيرة، تحت رعاية داعش، وتتمثل فرضيّته على النحو الآتي: الخلافة مزهريّة مفاهيميّة، تم ملؤُها وفق ممارسات سياسية دينية مختلفة، مدرَجة في سياقات محدّدة.

المؤرخ نبيل مولين

ويثبت الكاتب أنّه، وفق فترات ومصالح الفاعلين، فقد غطّت الخلافة حقائق مختلفة، وبعيداً عن أن تكون ثابتة وغير قابلة للتغيير، فقد تغيّرت مع ذلك بمرور الوقت، فالخلافة، مع انبثاقها الحالي، لا تفلت من هذا المنطق: داعش تستحوذ على أسطورة الخلافة لتُفرد (تنشر) أيديولوجيتها الخاصة، والتي هي أيديولوجيا سياسية أكثر منها دينية، ويشير المؤرخ أيضاً إلى أنّ أيديولوجيا المؤيدين الجدد للخلافة ليست إسلامية بالمفهوم الذي يشاؤون؛ إنّها بالفعل مشوبة ومطعّمة باستعارات واقتباسات من الأفكار الغربية.

وهكذا، فإنّ نبيل مولين يشبِه إرادة الدولة الإسلامية في توحيد جميع المسلمين السنّة تحت لوائه، بإرادة عموم السلافيين (نسبة إلى السلاف، وهم مجموعة عرقية لغوية يتحدثون باللغات السلافية، يستقرون أساساً في أوروبا الوسطى، وأوروبا الشرقية، ودول البلقان)، أو بنظريات عموم الألمان التي كانت سائدة في القرن العشرين في أوروبا، وبالتالي تصبح الدولة الإسلامية نتيجة لتهجينٍ من المفاهيم الغربية، (مثل: القومية، وعموم القومية  Pan-nationalism)، التي يمنحها الإسلاميون تلويناً إسلامياً لإذابتها في شكل جديد من الخلافة.

خلافة داعش بعيدة عن الإجماع

حتى هذه الساعة، تظل الخلافة الإسلامية أسطورة مؤسِّسة، وهدفاً لا ينضب لجميع المسلمين، ومع ذلك، فإنّ نسخة الخلافة التي اقترحها تنظيم داعش، بعيدة كلّ البعد عن الإجماع داخل هذا الدين.

الخلافة ليست الأفق السياسي الوحيد المنبثق عن العوالم الإسلامية، هناك تيارات أخرى، يشار إليها غالباً باسم "الإصلاحيين"، تتصور التعبير السياسي للإسلام في سياق الدول القومية، وهناك أحزاب جديدة، تسعى أيضاً إلى تحقيق توليفة بين الإسلام والسياسة، بدأت تطفو في قلب النظم الانتخابية الغربية.

عن scienceshumaines

الصفحة الرئيسية