الحاكمية والسياسة

الحاكمية والسياسة


15/12/2019

كمال الجزولي

الذين رفعوا شعار «الحاكمية» في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، سواء الخوارج، أو المودودي أو سيد قطب، أو «الإخوان» المسلمون، بما فيهم الحركيون الإسلاميون السودانيون الذين أنجزوا انقلابهم في 1989، ظلوا يُدركون دائماً، مثلما يدركون اليوم ولا بد استحالة أي سند لشعارهم من القرآن أو السنة، لكون هذا السند غير موجود أصلاً. مع ذلك، ولأنه لا بد لهم من سند في هذين المصدرين الأساسيين، فقد عمدوا بلا هوادة إلى إحلال «تأويلهم» الخاص محل السند المفقود بعد إكسابه نفس قداسة هذين المصدرين، انطلاقاً من فرضية خاطئة، فحواها وفق محيي الدين عطية أن الكتاب والسنة يشتملان على كل النظم الحضارية، فلكأن لسان حالهم يقول: قلِّب الصفحات تجدها! لكن المدهش أن «أئمتهم» أنفسهم اضطروا إلى الإقرار بأن ذلك السند غير موجود بالفعل. فالقرآن ليس موسوعة علمية، أو دائرة معارف سياسية؛ بل هو حتى بحسب شيخهم محمد الغزالي كتاب هداية للإيقاظ ودعم الإيمان وأخذ العبرة وترشيد السلوك.

ونضيف أن الله سبحانه وتعالى وصفه، في محكم التنزيل، بأنه «هدى للمتقين» (2 البقرة). أخطر وجوه «التأويل» المخالف لذلك يُفضي بأصحابه حتى وفق بعض مفكريهم كمحمد عمارة إلى الخلط والتخليط بشأن دلالة مصطلح «الحكم» القرآني الذي اشتقوا منه تعسفاً مصطلح «الحاكمية». لقد «ظنوا» خطأ، أنه يدل على «السلطة السياسية»، بينما دلالته الصحيحة لدى ثقات التفاسير، تتراوح بين النبوءة والقضاء والحكمة، والفقه والعلم النافع، والنظر العقلي. ففي بعض الآيات يصف سبحانه وتعالى ذاته الإلهية بأنه «يحكم»؛ أي يقضي: «إنْ الحكم إلا لله»؛ أي القضاء (40 يوسف، الجلالين)؛ «إنْ الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين»؛ أي وهو خير من فصل القضايا (57 الأنعام، ابن كثير). وفي آيات أخرى يخبر سبحانه وتعالى عن أنبيائه، فعيسى عليه السلام مثلاً، لم يكن رجل دولة أو سياسة، ومع ذلك أوتي الحكم في معنى الحكمة: «ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله». (79 آل عمران، صفوة التفاسير للصابوني). ونبي الله يحيى لم يكن حاكماً سياسياً، ولا يتصور منه ذلك وهو صبي؛ بل ابن سنتين أو ثلاث، في قول قتادة، وابن ثلاث في قول مقاتل (القرطبي)، ومع ذلك يقول الله تعالى: «يا يحيى خذ الكتاب بقوة. وآتيناه الحكم صبياً» (12 مريم)؛ أي النبوة (الجلالين)، أو الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير، والانكباب عليه، والاجتهاد فيه (ابن كثير). ولم يسأل سيدنا إبراهيم ربه أن يهبه دولة أو سلطة سياسية حين دعا: «رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين» (83 الشعراء)، وإنما سأله أن يهبه «كمالاً في العلم والعمل» (البيضاوي). وثمة حجة واهية أخرى تثار عادة، في تأويل مصطلح الحكم بدلالة «السلطة السياسية»، ويحاول أصحابها الاستناد بلا طائل إلى الآيات الثلاث (44 و45 و47 المائدة)، «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون/الظالمون/الفاسقون»، لكي يؤسسوا على مظهرها اللفظي العام فهمهم السياسي الخاص والخاطئ تماماً، لشعار «الحاكمية». غير أن هذا «الفهم» سرعان ما يتزلزل عند عرضه على تفسير أي من الثقات، كابن كثير والواحدي النيسابوري، وجلال الدين السيوطي مثلاً، حيث يرد نقلاً عن الأحاديث الواردة في الصحاح والمسانيد المعتمدة، أن هذه الآيات نزلت لأسباب تتعلق بإقامة بعض الحدود، كالقتل في حالة الأقوام من اليهود الذين ارتكبوه، ثم أضمروا أن يتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أفتى بالدية أخذوا بها، وإن حكم بالقصاص لا يسمعون منه. ومعلوم أن الحكم بمعنى «إقامة الحدود» محاط باحترازات شرعية لدرء الشبهات.

ومن ثم، فإن أي مسعى لسحب دلالته إلى نطاق «السلطة السياسية» لا يعدو كونه تعسفاً عارياً من السند، ونموذجاً للمماحكة بدافع «القفز إلى كراسي السلطة شهوة وطموحاً»، حسب خليل عبد الكريم.

عن "الخليج" الإماراتية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية