الحراك... صحوة البركان الجزائري

الحراك... صحوة البركان الجزائري


كاتب ومترجم جزائري
26/12/2019

ترجمة: مدني قصري


عبد المجيد تبون، وهو رئيسُ حكومةٍ سابق لعبد العزيز بوتفليقة، فاز رسمياً منذ الدورة الأولى بنسبة 58% في الاقتراع العام؛ حيث قاربت نسبة مقاطعة الانتخابات الـ 60%.

اقرأ أيضاً: لماذا ألغى الرئيس الجزائري أول نشاط رسمي له؟‎
الحراكيون الذين دفعوا بوتفليقة إلى الاختفاء من المشهد السياسي، احتلوا مرّة أخرى الشوارع وما زالوا، بعد الانتخابات، مطالبين بتغييرات حقيقية وحرمان الرئيس المنتخب من أي شرعية. "إنها لحظة فوضوية جد ودودة، لكنها تتطلب نفَساً طويلاً. ظني أنّنا على المستوى الشعبي، سنتّجه إلى شكل من أشكال التطرف في مواجهة انتخابات رئاسية مفروضة"، يقول الصحافي والكاتب الجزائري أرزقي مترف، الذي نشرت صحيفة "لوموند دبلوماتيك" الفرنسية على صفحاتها، تحليله التالي للوضع في الجزائر بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة:   

حدثت هذه الثورة في سياق تاريخي رأى فيه النظام يُقلص أحزاب المعارضة أو النقابات أو منظمات المجتمع المدني

في الجزائر، لم تضعف حركة الاحتجاج الشعبية، التي بدأت في 22 شباط (فبراير) الماضي. بعد حصوله على استقالة عبد العزيز بوتفليقة، قرر الحراك معارضة الانتخابات الرئاسية المقررة في 12 كانون الأول (ديسمبر) 2019. لقد أطلق صيحات مدوية مندّداً بالمرشحين الخمسة الذين تنافسوا على الاقتراع؛ حيث طالب المتظاهرون بفترة انتقالية، وإصلاح شامل للنظام. وهو المطلب الذي فرضت السلطة قبوله.
في الجزائر العاصمة، الجمعة 1 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي انحدرت عشرات الآلاف من الناس من مرتفعات المدينة ودخلوا شارع ديدوش مراد. لكن هذا الشريان المركزي ضيق للغاية بحيث لا يحتمل هذا التدفق البشري الهائل. شباب، وأطفال، ونساء، وكبار السن، شكلوا سيلاً إنسانياً متنوعاً، وهم يحملون ألوان العلم الجزائري بجميع أشكاله: قبعات، وأوشحة، ورايات وقمصان، وشعارات مختلفة. المحتجون بدأوا يهتفون برفضهم للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 12 كانون الأول (ديسمبر) الجاري ويهاجمون رئيس الأركان، الجنرال (الراحل) أحمد قايد صالح، وهو الرجل القوي في النظام منذ استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، في 2 نيسان (إبريل).
عبد المجيد تبون

"والله، لن نتوقف"
إنهم يطالبون برحيله، إضافة إلى رحيل الرئيس بالنيابة السيد عبد القادر بن صالح، ورئيس الوزراء السيد نور الدين بدوي. "الجزائر حرة وديمقراطية"، "دولة مدنية وغير عسكرية"، "والله، لن نتوقف"، "لقد خرّبتم البلد، يا عصابة اللصوص"، "أيها الجبناء، افرجوا عن أطفالنا"، "لا حوار، لا انتخابات مع المافيا"، يهتف الحراك مرة أخرى. وهناك أيضاً أغانٍ، بما في ذلك أغنية "ليبيرتي" Liberte (حرية)، لِمُغني الراب Soolking، و La casa del Mouradia (قصر المُرادية الرئاسي) الشهيرة، النشيد الاحتجاجي الذي يردّده الشباب في الملاعب الرياضية. الإشارات إلى القتال ضد الاستعمار تتردّد في كل مكان، حيث تستنجد بعضها بالشهيد البطل علي لا بُوانتْ، بطل معركة الجزائر. والدليل القاطع على كراهية المتظاهرين إزاء السلطة غناء الحراكيين في انسجام تام "الاستقلال! الاستقلال! ثم "الجنرالات إلى سلة المهملات، ستحصل الجزائر على استقلالها". وتزامن يوم الجمعة السابع والثلاثون من المظاهرات المتتالية مع الذكرى الخامسة والستين لاندلاع النضال من أجل التحرير في 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 الذي أدى إلى نهاية الحكم الاستعماري الفرنسي عام 1962.

اقرأ أيضاً: الجزائر: هل بدأ الحراك الشعبي في التفكك
للتخفيف من حجم المواكب في الجزائر العاصمة، تحاول الحكومة منذ الصيف منع سكان بقية البلاد من الذهاب إلى العاصمة. لقد أقيمت نقاط تفتيش تابعة للشرطة والدرك في أعلى المدينة لتقييد حركة المرور. فكل من كانت لوحات أرقام سياراتهم أو هُوياتهم تشير إلى أنّهم يعيشون خارج العاصمة يُجبَرون على العودة من حيث أتوا. النتيجة: لا يخاف الصامدون من المشي عشرات الكيلومترات لتجاوز السدود، والمشاركة في الحراك.
عبد العزيز بوتفليقة

السلطات تثير مظاهرات مصطنعة 
السلطات، التي لم تتردد في تعطيل الإنترنت لِمنع إعادة عرض المسيرات عبر الفيديو، حاولت إثارة مظاهرات لصالح الانتخابات الرئاسية. لقد تم استدعاء التلفزيون الوطني، الخاضع للسيطرة الحكومية أكثر من أي وقت مضى، على الرغم من احتجاجات العديد من الصحفيين، للتصوير في لقطاتٍ مقرّبة، بضعة عشرات الأشخاص الذين تجمعوا لهذه المناسبة. وهي المبادرات المحكوم عليها بالفشل، والتي تثير الكثير من التهكم. في 7 تشرين الثاني (نوفمبر)، في تلمسان (غربًا)، قام حراكيون مزودون بالمبيدات الحشرية والمبيضات، بغسل مكان صغير بكميات هائلة من الماء، حيث أقيم للتو "تجمع عفوي" لخمسين شخصاً لدعم الاقتراع الرئاسي والجيش.
مائة سجين رأي
إذا كانت قد نجحت حتى الآن في استخدام القوة ضد متظاهري الجمعة، فقد لجأت الحكومة إلى القيام بحملات قمع وترهيب. هذه الحملات تستهدف أكبر عدد ممكن من النشطاء الشباب الذين يتم القبض عليهم وإدانتهم ليكونوا قدوة لغيرهم.

لقد أظهر الحراك، من حيث حجمه، أنّ الشعب، في معظم الحالات، قد تغلب على الانقسامات الأيديولوجية وتجاوزها في التسعينيات

وفقاً لتقييم غير رسمي للمنظمات غير الحكومية الجزائرية، بما في ذلك اللجنة الوطنية لتحرير المعتقلين (CNLD)، كان هناك أكثر من 100 سجين رأي في نهاية تشرين الأول (أكتوبر). وتشير تقديرات أخرى إلى ثلاثمائة. من الصعب معرفة الرقم الدقيق؛ لأن السلطات ترفض إعطاءه. في 12 تشرين الثاني (نوفمبر)، حكمت المحكمة بالسجن على 28 شخصاً اعتقلوا وهم يحملون علم الأمازيغ. هناك العديد من الشخصيات وراء القضبان، مثل السيد المجاهد لخضر بورقعة، وهو بطل يحظى باحترام كبير من أبطال حرب الاستقلال الذي يبلغ من العمر 86 عاماً، أو السيد كريم تابو، الرئيس السابق لجبهة القوى الاشتراكية وشخصية إعلامية في الحراك. كلاهما متهمان بإلحاق الضرر بمعنويات الجيش.
في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر)، شكّك الجزائريون في قدرة السلطة على تنظيم الانتخابات في مناخ من عدم الثقة. لكن بغض النظر عن نتيجة الانتخابات، هناك القليلون ممن رأوا أنّ الحراك سيتوقف في وقت قريب. لتقييم ديناميات وصعوبات هذه الحركة وهي حركة تاريخية من أوجه عديدة - ولو لمجرد أنّها سلمية، يجب علينا تتبع أصولها.

صراعات في قمّة السلطة

في سياق التساؤلات حول المستقبل وخلافة الرئيس بوتفليقة، تميز عام 2018 بصراعات في قمة السلطة، أجّجها الكشف عن حالات الفساد والاتجار التي تبادلت التهم فيها الزمر الحاكمة، بعضها ضد البعض الآخر. هناك مثال من بين العديد من الأمثلة: شحنة سبعة قنطارات من الكوكايين اكتشفتها الأجهزة الأمنية على متن قارب في ميناء وهران. كان من المفترض أن تنقل السفينةُ اللحوم الحمراء القادمة من البرازيل لحساب مستورد قريب من السلطة، السيد كامل شيخي، الملقب بكامل البوشي (كامل تاجر اللحوم). بالإضافة إلى هذا الأخير، تم اعتقال أو محاكمة العديد من كبار الضباط ومسؤولي الشرطة، وقضاة وكبار الشخصيات السياسية، وحتى الأئمة. قضية الكوكائين التي لم تكشف بعد كل أسرارها، صدمت الجزائريين، الذين اعتادوا على خبث قادتهم، لدرجة أن أحد شعارات الحراك هو: "أطلقوا سراح المعتقلين، فهم لم يبيعوا الكوكايين."
البداية من بلدة خرّاطة
في 9 شباط (فبراير) 2019، أثار تأكيد ترشيح السيد بوتفليقة، طريح الفراش، لفترة رئاسية خامسة، موجة من الغضب والسخط. ففي حين أن المقالات، والمونتاج الفوتوغرافي، والنصوص المستعيرة كثرت على الشبكات الاجتماعية، ففي مدينة خراطة، في 16 شباط (فبراير) 2019، انطلق الحراك. ففي هذه البلدة الصغيرة في شرق الجزائر، مسرح مذابح 8 أيار (مايو) 1945 التي ارتكبها الجيش الفرنسي ومعاونوه الأوروبيون ضد السكان المسلمين، خرج الشباب إلى الشوارع للاحتجاج على إعادة انتخاب الرئيس. ففي يوم 19، تم اقتلاع صورة عملاقة للرئيس، معلّقة على واجهة قاعة البلدية - وفقاً لعبادة الشخصية المفروضة على الشعب - وتمزيقها من قبل الحشد. بعد ثلاثة أيام، في يوم الجمعة 22 شباط (فبراير)، بعد دعوة مجهولة المصدر للتظاهر على الشبكات الاجتماعية، بدأت في جميع أنحاء البلاد، وفي القرى النائية، الحركة التي أدت إلى استقالة بوتفليقة وإلغاء الاقتراع المقرر في 18 نيسان (إبريل).

"الشعب تجاوز كسور التسعينيات"

شاهد السيد جلال المقراني، نائب رئيس تجمع عمل الشباب  RAJ، المسيرة الأولى وهي تنطلق من حي باب الواد الشعبي في الجزائر العاصمة. كان المقراني في تلك اللحظات يُعِدُّ لمسيرة تم التخطيط لها لليوم التالي، في مقر الجمعية الواقع في وسط المدينة. "لقد تركنا كل شيء والتحقنا بالمواطنين، الذين كانوا أكثر فأكثر عدداً"، هكذا أخبرنا قبل أيام قليلة من اعتقاله، مع نشطاء آخرين في تجمع عمل الشباب، في 4 تشرين الأول (أكتوبر). خمسة منهم اتهِموا "بالتحريض على التجمع وتعريض أمن الدولة للخطر". وقد أثار اعتقالهم زيادة في التضامن معم، في داخل البلاد وخارجها، وقد ندّد تجمع عمل الشباب في الوقت نفسه "بالممارسات الفاضحة والاستبدادية للنظام المحتضِر الذي يريد الحفاظ على نفسه بأي ثمن".

شباب أكثر عدداً وأكثر ضراوة
كيف أمكن في بلد، تابَع عن بُعد الثورات الشعبية العربية في عام 2011، لهذا الزخم أن يحدث فجأة؟ إنّه قبل كل شيء، غضب الشباب الذي لعب دوراً حاسماً في الحراك. كان مصطفى بن فضيل، وهو صحفي وكاتب في صحيفة الوطن اليومية المستقلة الناطقة بالفرنسية، يجري تحقيقاً في الأحياء الشعبية بضواحي الجزائر العاصمة قبل أيام قليلة من مظاهرة 22 شباط (فبراير). "كان للشباب كلمة واحدة فقط في أفواههم:" الإذلال". لم يعد بإمكانهم تحمل صورة بوتفليقة، الرجل الذي استخدِم كدمية من قِبل ما يسمى بـ "العصابة". من جهتها، لاحظت السيدة انتصار بن جاب الله، 30 عاماً، وهي طالبة دكتوراه في الأدب الفرنسي، وناشطة نسوية وشخصية احتجاج في العاصمة، أنّ الحراك "ليس فقط حركة شباب، لكن هؤلاء في مقدمة مواكب الاحتجاج، أكثر عدداً وأكثر ضراوة ". سبقت مظاهرة الطلاب الكبيرة يوم 22 شباط (فبراير) تظاهرةٌ يوم 19، ومنذ ذلك الحين، بدأت العاصمة تشهد مظاهرة كل يوم ثلاثاء بعد الظهر. إنها ردٌّ على خطاب الجنرال قايد صالح في صباح ذلك اليوم، وتهيّئ في الوقت نفسه ليوم الجمعة، لا سيما فيما يتعلق بالموقف القمعي المتزايد من قبل الشرطة.
الخوف من تكرار فشل الاحتجاجات السابقة
رغم تشاركهم في كراهية النظام، فقد تردد الكثيرون في النزول إلى الشوارع خوفاً من تكرار فشل الاحتجاجات السابقة، مثل احتجاجات عام 2014، والتي لم تمنع السيد بوتفليقة من إعادة انتخابه لفترة ولاية رابعة. "في عام 2014، كان لديّ انطباع بأنّ بلدي لا يريد أن يحرر نفسه"، قالت السيدة بن جاب الله. في 22 شباط (فبراير) 2019  لم تشارك، خوفاً من خيبة أملها مرّة أخرى. لكنها حذت حذو الحراك على وسائل التواصل الاجتماعي: "الصور جعلتني أقرّر الخروج يوم الجمعة التالي. كان العديد من الجزائريين، مثل مسعود باباجي، 66 عاماً، وهو مُحام وناشط في مجال حقوق الإنسان، يقيمون في وهران، متشككين من دعوة مجهولة للاحتجاج قادمة من مكان ما. لقد رأوا ذلك بمثابة عودة إلى المشهد السياسي للإسلاميين، الذين يُفترض أنّهم القوة الوحيدة القادرة على تنظيم مثل هذه الحركة. لكن في اليوم المذكور، فوجئ السيد باباجي بملاحظة أنّ المجموعات الأولى من المتظاهرين كانت مكونة من رفاقه الشباب من حركة جمعية وهران. وفي هذا الشأن يوضح أرزكي آيت العربي، وهو صحفي ومحرر مستقل، وهو مقرب من السيدة جميلة بوحيرد، بطلة الحرب ضد الاستعمار وأيقونة الحراك، أنّه هو أيضاً نظر إلى هذا الحدث الافتتاحي "بتحفظ"، سيما وأنّ المظاهرات كانت مبرمجة ليوم الجمعة، بعد الصلاة، على غرار مظاهرات الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) في التسعينيات.

 تردد الكثيرون في النزول إلى الشوارع خوفاً من تكرار فشل الاحتجاجات السابقة
الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنّ الإسلاميين لم يثقوا في هذه الدعوة. السيد علي، البالغ من العمر 52 عاماً، وهو ناشط سابق في جبهة الإنقاذ الإسلامية، تم سجنه في الفترة من 1992 إلى 1998، اعتبر الحراك "استفزازاً وفخاً". "كنت مقتنعاً بأنّه، كما حدث في أحداث تشرين الأول (أكتوبر) 1988، كان الجيش سيفتح النار"، فقلت لنفسي "هذا فخ آخر من صنع المصالح الأمنية لخلق وضع استثنائي". لم يشارك أبنائي، وأبناء جيراني في السياسة. على الرغم من تحذيراتي، فقد خرجوا دون تردد في 22 شباط (فبراير). أنا شخصياً انتظرت المظاهرة في 8 آذار (مارس). ومنذ ذلك الحين، لم تفتني أي واحدة منها".

اقرأ أيضاً: من هو عبد المجيد تبون الذي فاز بمنصب الرئاسة في الجزائر؟
في شهر آذار (مارس)، تلاشت توقعات ومخاوف الجميع، بسبب النطاق غير المتوقع للحركة، التي كان لها تأثير غير متوقع - ناهيك عن أنّه لم يكن أحدٌ يعلق الأملَ على الحراك. "حدثت هذه الثورة في سياق تاريخي رأى فيه النظامَ يُقلص أحزاب المعارضة السياسية أو الإسلامية أو الديمقراطية، أو النقابات، أو المنظمات المهنية، أو منظمات المجتمع المدني. يتذكر السيد علي الإبراهيمي، أحد النشطاء الأربعة والعشرين الذين سجنوا في "ربيع البربر" عام 1980 والنائب السابق للتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، في البويرة، كل شيء تم سحقه أو شراؤه. لكن بالنسبة لهذا الماركسي المتشدد والمدافع عن القضية البربرية، فإنّ "درجة الفساد والإغلاق السياسي لنظام بوتفليقة قد ضمِنا أنّه، في وقتٍ ما سيحدث الانفجار لا محالة. والمثير للاهتمام هو أنّه منذ البداية، تبنت الحركة ديناميكية ثورية".
الشعب تجاوز الانقسامات الأيديولوجية في التسعينيات
يؤكد لنا العديد من محاورينا أنّ الحراك لم يكن ممكناً دون الانتصار على صدمة "العقد الأسود" (1992-2000) ونضج سياسي غير متوقع. في هذا الصدد قال السيد الإبراهيمي "المجتمع الجزائري كان مفككاً ويائساً. تفاقمت الخصومات المختلفة، مثل الخصومات بين العلمانية والدينية، من قبل النظام. لقد أظهر الحراك، من حيث حجمه، أنّ الشعب، في معظم الحالات، قد تغلب على الانقسامات الأيديولوجية وتجاوزها في التسعينيات".

اقرأ أيضاً: وزير الطاقة الجزائري لـ"حفريات: لا نبيع نفطنا بالمجان
هذا الرأي شاطره آيت العربي، الذي لاحظ "تطوراً نوعياً" للحركة. الإجماع في العمل على المطالب (المكثَّفة في رفض النظام)، وكياسة المتظاهرين، و"التطور غير العادي للعلاقات" بين الناس الذين اعتادوا على توازن القوى: كل هذا جعل، وفقاً له، الحراك يجلب "أفضل ما عند الجزائريين، والذي كان مدفوناً". وأشار هذا الأخير إلى المناورة الفظة للسلطة المتمثلة في تجريم ارتداء العَلم الأمازيغي. ففي حزيران (يونيو)، سعى الجنرال (الراحل) قايد صالح إلى إحداث الانقسام عن طريق حظر هذه الشارة، والتي كانت بمثابة اللعب على حبل حساس. كان حظر العَلم الأمازيغي يمكن أن يثير اشتباكات بين المتحدثين البربر والمتحدثين بالعربية لكن كان له تأثير معاكس. ففي المدن الناطقة بالعربية، لوّح الناس الذين لا يمكن الشك في تعاطفهم مع البربر بالعَلم المحظور".
السيد علي بن فليس

حفلات الطناجر في أمسيات الخميس
كما أنّ الطبيعة السلمية للاحتجاجات تمثل انفصالاً عن الماضي. عندما يميل الشباب إلى خوض معركة مع الشرطة، تأتي الدعوة إلى التزام الموكب بالنظام فوراً، فيهدّئ الموكب اللعبة، هاتفاً "سلمية! سلمية!" ، أو "خاوة! خاوة!" (أي إخوة! إخوة!) ("الجميع إخوة!"). "في عام 2017، سجلت الأرقام الرسمية ثلاثة عشر ألفاً من أعمال الشغب في جميع أنحاء الجزائر. لقد انتقلنا من المظاهرات العنيفة إلى حركة هادئة ومنضبطة. وقال السيد الإبراهيمي "إن هذا نتيجة لمناقشات منتظمة حول رفض أعمال الشغب وعدم فعالية العنف ضد نظام عنيف". واستشهد الإبراهيمي بمثال سكان بلدة أوكاس الساحلية (الشرق) الصغيرة، الذين خرجوا إلى الشوارع مع كتاب في أيديهم، احتجاجاً على الحظر المفروض على اجتماع أدبي.

اقرأ أيضاً: الأمن الجزائري يقمع إضراب القضاة المفتوح
إنّها الجزائر الموحدة، وفيها كل التوجهات السياسية مجتمعة، التي تتحرك وتتظاهر. مسار مظاهرات الجمعة في الجزائر العاصمة هو نفسه دائماً. في اليوم التالي لحفلة طناجر ليلية تضامنا مع السجناء، تجري عملية إعادة التجمع الأولى في الصباح حول ساحة أودان أو البريد المركزي. ثم، في بداية فترة ما بعد الظهر، وبعد صلاة الجمعة، يُقدّم التقاءُ المواكب - خاصة تلك تنطلق من حي باب الواد - باتجاه وسط المدينة، مشهداً مثيراً للإعجاب؛ حيث تردِّد المدينة صدى صيحات وهتافات المتظاهرين. في المساء، تقوم وسائل الإعلام والمحامون والمنظمات غير الحكومية بتقييم الاعتقالات، التي يستغرق بعضها بضع ساعات فقط، وحالات الاختفاء: غالباً ما يقبض على المتظاهرين رجالٌ يرتدون ملابس مدنية، وتمر عدة أيام قبل معرفة مكان وجودهم، والتهم الموجهة إليهم.

اقرأ أيضاً: انقسامات جبهة الإنقاذ تنهي أسطورة الأحزاب الإسلامية في الجزائر
إذا كان الحراك يستطيع أن يتباهى بمنع ولاية خامسة لبوتفليقة، وأنّه قد أرجأ الانتخابات الرئاسية مرتين، فإنّ الوضع في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر)، الذي تميّز بالمواجهة المباشرة بين الحركة وقائد الجيش، يبدو أنّه أصبح مسدوداً. من ناحية، يواصل الشعب إظهار رفضه لتحمّل سلطة يُحمّلها مسؤولية غرَق المشروع الوطني الذي تم تصورّه عند الاستقلال. ومن ناحية أخرى، تعتزم هذه السلطة نفسها تنظيم انتخابات رئاسية بأي ثمن شارك فيها رئيسان سابقان للوزراء (السيد علي بن فليس وعبد المجيد تبون)، ووزيران سابقان للسيد بوتفليقة (السادة عزالدين ميهوبي وعبد القادر بن قرينة)، فيما المرشح الخامس، السيد عبد العزيز بلعيد، كان دائماً من مساندي الرئيس السابق. منذ بداية الحملة الانتخابية، كانت حملاتهم الانتخابية، التي لم تجذب سوى قلة من الناس، تتعرض بشكل منتظم للتشويش من قبل "الحراكيين". تم إطلاق دعوات للاحتجاج على الانتخابات كل ليلة على وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت قوات الأمن تقوم في كل ليلة بتفريق المسيرات الليلية.

اقرأ أيضاً: بعد فشل إخوان الجزائر في ركوب الحراك.. ما هي خطتهم البديلة؟
"اليوم يتحدثون عن "ديكتاتورية طفيفة"، وأنا لا أصفها، كما يقول بنفضيل. ألاحظ فقط أننا لم ننزع بعدُ حقّنا في التظاهر بحرية. التلفزيون العام صار أسوأ من ذي قبل. وجدنا فيه ردود فعل الاحتفاء بالحكام. على الساحة السياسية، نجد نفس الشخصيات، ونفس بوادر الولاء ونفس عادات "جبهة التحرير الوطني"، التي تصفّق لكل شيء يأتي من الزعيم".

"علينا أن نفكر معاً في مجتمع جديد"

دلائل تعزيز استبداد النظام: الحظر - غير الدستوري - الذي فُرض على غير سكان العاصمة للوصول إلى العاصمة أيام الجمعة، أو اعتقال عشرات المتظاهرين الذين يحملون الشارة الأمازيغية. اعتقالات أمر بها الجنرال قائد صالح خلال خطاب، والتي لا تستند إلى أي قانون، كما تؤكد المحامية عائشة بختي، عضو شبكة مكافحة القمع، من أجل إطلاق سراح سجناء الرأي والحريات الديمقراطية. "هناك بالفعل نصٌّ يحظر على الإدارات العامة والوزارات رفع عَلمٍ غير العلم الوطني، لكن هذا لا ينطبق على المتظاهرين. وبالتالي، يتذرع المدّعون العامون، بالمادة 79 من قانون العقوبات، والتي تنص على أنّ أي شخص يمس بسيادة البلاد يعاقَب بالسجن. في لوائح الاتهام، يُقال إنّ المتهمين "يرتدون شعاراً غير الشعار الوطني"، وهو اقتباس من تصريحات الجنرال الراحل قايد صالح. كان كلامه إذن بمثابة قوة القانون".

البعض يقول إننا أنفقنا سبع سنوات لتحرير الجزائر من الوجود الاستعماري وأنّ الحراك سيقاوم سبع سنوات أو أكثر

في هذا السياق، يفكر النشطاء والشخصيات التقدمية في البقية، في محاولة منهم لتجاوز الأفق الفوري للانتخابات الرئاسية. "هذا هو الوقت الذي يجب علينا أن نفكر معاً في مجتمع جديد، في دستور جديد يرسم خطوط مشروع مجتمع حديث"، تقول السيدة بختي. وأنا على قناعة بأنّ هذه الحركة ستستمر وبأنّ هذا التغيير قد بدأ بالفعل. البعض يقول إننا أنفقنا سبع سنوات لتحرير الجزائر من الوجود الاستعماري، وأنّ الحراك سيقاوم سبع سنوات أو أكثر. نسمع هذه الشعارات تتردّد في المواكب". في الواقع، مدة الحراك، بالنسبة للكثيرين من المشاركين، تعتبر أوّل انتصار حقيقي بالفعل.
بن فضيل، يبدو أقل حماساً؛ حيث يقول. "لسوء الحظ، نحن نتجه نحو طريق مسدود. هناك نوع من الاستقطاب الثنائي. من ناحية، القوة العسكرية، وفي مواجهتها معارضة الحراك المتواجد في الشارع والذي ليس له تمثيل والذي لا يعترف بأي تمثيل. إنّها لحظة فوضوية لكنها تتطلب الكثير من النَّفَس. أعتقد أنّنا، على المستوى الشعبي سنتجه نحو شكل من أشكال التطرف في مواجهة نتائج الانتخابات الرئاسية المفروضة".
في ثمانية أشهر، ظهرت العديد من المبادرات لإعطاء تمثيل سياسي للحراك الشعبي. لكن لم تحقق أي منها هدفها، ولم يساعد القمع الموجه ضد شخصيات بارزة، بما في ذلك النشطاء الشباب، في تحسين مجرى الأمور. فبحكم حرمانهم من الحريات والتعددية على مدى ثلاثة عقود، ما زال الجزائريون حذرين للغاية إزاء الأحزاب السياسية.


مصدر الترجمة عن الفرنسية:

monde-diplomatique.fr



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية