الحرب الهجينة والجريمة المنظمة: حزب الله وداعش نموذجين

الحرب الهجينة والجريمة المنظمة: حزب الله وداعش نموذجين


19/12/2018

ترجمة: علي نوار


طرأت على المشهد الإستراتيجي تغييرات عميقة، بعد أن أصبحت سلطة الدول، خاصة الولايات المتحدة وحلفاءها في مواجهة التحدي، الذي تظهره أطراف فاعلة حكومية، وحتى غير حكومية؛ حيث ستكون المنافسة والنزاعات في المنطقة الرمادية هي السيناريو المتكرر لمناوئة الولايات المتحدة، وتحتاج الأطراف غير الحكومية لقدر من الاستقلالية الاقتصادية، كي يتسنّى لها القيام بأنشطتها، ولعلّ هذا هو السبب وراء لجوء جماعات مسلحة عديدة إلى الجريمة المنظمة العابرة للحدود، أو على الأقلّ اعتماد أساليبها؛ حيث بات حزب الله، على سبيل المثال، يمتلك آلية ردع قوية وحقيقية، في مواجهة إسرائيل على وجه الخصوص، ما يخوّله للعب دور في الساحتين الدولية والداخلية اللبنانية، متبّنياً إستراتيجية المنطقة الرمادية، ويستند حزب الله إلى الدعم غير المحدود الذي يتلقّاه من سكان جنوب لبنان، وتحديداً من يعتنقون المذهب الشيعي والعلوي في البلد العربي.

في حالة داعش؛ فإنّ الأرض عامل أساسي ومركز قوته

أما في حالة داعش؛ فإنّ الأرض عامل أساسي ومركز قوته، ويعتمد التنظيم ضمن إستراتيجية المنطقة الرمادية كلّياً على استغلال العناصر المواتية له في الإطار المحيط بالفكر السلفي العالمي، التي تتلاقى بإقليمي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

اقرأ أيضاً: هل تستمر إيران في تمويل الإرهاب؟

لذا؛ فإنّه يجدر بدول الغرب انتهاج إستراتيجية ترتكز بالأساس على محاصرة النطاق الذي تعمل فيه الجهات الفاعلة غير الحكومية والعنيفة، ما يعني إدخال تعديلات تنظيمية وتشريعية تسمح بالعمل على نحو منسّق وتشاركي في مواجهة هذا التهديد، يجب الأخذ في الاعتبار أيضاً؛ أنّ حركة المدنيين أمر ضروري؛ نظراً إلى تأثيرها الكبير، ما يعني أهمية توفير الظروف وسنّ السياسات بشكل يسهم في تمكّن المنظمات غير الحكومية والشركات من العمل داخل المناطق الرمادية على تعزيز صمود المدنيين، كذلك من الضروري وقف التهريب وأنشطة الجريمة المنظمة العابرة للحدود في المناطق المهمة؛ بغية تجفيف منابع تمويل الأطراف الفاعلة غير الحكومية العنيفة.
في أعقاب الحرب الباردة، وسقوط جدار برلين، كانت الحروب التي جرت على مستوى العالم ذات طابع أهلي، باستثناء حرب الخليج والنزاع بين العرب والإسرائيليين، وما تلاها من عمليات إحلال السلام والاستقرار التي سادت الساحة العالمية حتى وقت قريب، وقد اعتمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها بشكل كامل على التفوّق التقني، ما سمح لها بالهيمنة على ميادين القتال.

اقرأ أيضاً: غسيل الأموال والمخدرات مصادر تمويل حزب الله في فنزويلا

لكنّ فالنسي وبرون يؤكدان أنّ "دول الجهة المقابلة" طوّرت نوعاً من ثورة العلوم العسكرية شملت الأداء في المجالات الإستراتيجية والعملياتية والتكتيكية، ما كان تحدياً للمفاهيم المعرفية والأخلاقية التي كانت حاضرة في المشهد العالمي حتى اللحظة، كلّ ذلك أفسح المجال لما يعرف باسم (الحرب الهجينة).

كل تلك التحديات للمفاهيم المعرفية والقواعد القانونية والاجتماعية والثقافية للولايات المتحدة وحلفائها، علاوة على الأفضلية المتمثّلة في استغلال المكان والزمان والسكان، بين عناصر أخرى، تشكل إطاراً إستراتيجياً جديداً، سنحلله في هذا المقال؛ عن طريق استعراض حالتي حزب الله في لبنان وتنظيم داعش.

اقرأ أيضاً: مصدر تمويل جديد لداعش!

وتتضمّن الحرب الهجينة، التي يلجأ إليها الطرف الأضعف غالباً، جوانب عدة، أحدها المواجهة المسلحة، بعد تحقّقه من صعوبة ردّ السياسيين الغربيين ومجتمعاتهم وقواتهم المسلحة بشكل قوي على التحديات التي لا تتجاوز خطوطهم الحمراء، التي ترسم الإطار المحدّد لردّ مسلّح؛ لذا يتّجه الطرف الضعيف لاستخدام كلّ السبل المتاحة له، خاصة غير العسكرية، مع محاولة تخطّي حدود العنف التي وضعها خصمه، من أجل تحقيق أهداف، فارضاً بذلك ما يطلق عليه (منطقة رمادية)، على غرار ما فعله حزب الله عام 2006 مع الجيش الإسرائيلي، في تطبيق نموذجي لإستراتيجية (المنطقة الرمادية)، والاستفادة منها لأقصى درجة بغية تحقيق الأهداف المرجوّة.

تتباين تعريفات النزاعات بالمنطقة الرمادية لكنّها تتّفق على فكرة التفاعل بين الأطراف الحكومية وغير الحكومية ووجود ثنائية الحرب والسلام

وتتباين تعريفات النزاعات في المنطقة الرمادية، لكنّها تتّفق جميعها على فكرة التفاعل بين الأطراف الحكومية وغير الحكومية، ووجود ثنائية الحرب التقليدية والسلام، وأيضاً اللجوء إلى الوسائل غير العسكرية، كما تتميز هذه المنطقة بعدم وضوح طبيعة النزاع، وعدم شفافية أطرافه، وعدم وجود أطر سياسية وقانونية محدّدة، ومن أجل الوصول لتلك المرحلة؛ تعمد الأطراف التي تسعى نحو إيجاد منطقة رمادية إلى ترك بصمة محدودة، وذات تأثير غير كبير؛ عن طريق عمليات سرية، على سبيل المثال، ونظراً إلى أنّ عمليات المنطقة الرمادية تنفّذ أثناء فترات السلام الرسمي الذي يسبق حراك الأزمة، فإنّ هذه العمليات تستهدف بالأساس المدنيين.

ويجمع أغلب الخبراء الغربيين والروس اليوم على أنّ الأطراف الفاعلة من غير الدول، أصبح بمقدورها فرض منطقة رمادية، كي تنشئ دولتها الخاصة، أو تأكيد نفوذها على منطقة ما بسكّانها، دون أن تكون دمية في يد قوى عظمى، ويشيرون إلى حزب الله وداعش؛ بوصفهما أمثلة للتحديات ضمن المنطقة الرمادية؛ حيث يبدو الأول مصدر الردع الأساسي لإسرائيل، بينما يقدّم الثاني نموذجاً لشبه دولة مبهمة.

اقرأ أيضاً: تفاصيل اعتقال شبكة لتمويل داعش

ويرجع هؤلاء الخبراء هذا الأمر إلى فشل الإطار الإستراتيجي الراهن، فعلى مدار عقود طوال؛ كان مصدر المنافسة والنزاع على مستوى العالم يأتي من القوى العظمى وتحالفات الخصوم، لكن في ظلّ سيادة لوائح تقنّن النزاعات، وكانت غالبية القوى العظمى تظنّ أنّ نمط المواجهة والقوانين سيظل قائماً للأبد، لكنّ التغيير هو الصفة المهيمنة حالياً على الساحة الإستراتيجية، ومن الواضح أنّ جميع أشكال التغيير تؤثر سلباً على النظام العالمي، الذي نشأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.

وعلى رأس مصادر التغيير؛ تبرز كلّ من تيارات العولمة الكبرى، وانتشار التقنيات والتغيّرات السكانية، كلّ ذلك يضاف إلى حالة من شبه اليقين باستحالة استمرار أدوات السطوة والنفوذ قصراً في أيدي الدولة، وهو ما يعني بالطبع أنّ المنافسة ونزاعات المنطقة الرمادية ستكون الوسيلة الأولى التي تلجأ إليها الأطراف المقاومة للولايات المتحدة وحلفائها، بعد أن كانت الدول الضعيفة والأطراف غير الحكومية في الإطار الإستراتيجي القديم، مجرد أداة، أو مسرح، لنفوذ القوى العظمى المتناحرة، وليسوا فاعلين حقيقيين.

فما هي إذاً الأسباب التي تؤدي لظهور حركات التمرد والجريمة المنظمة العالمية ضمن الإطار الإستراتيجي الجديد؟

هناك إجماع واضح على أنّ المشكلات الناجمة عن شرعية النظام السياسي القائم والتوتّرات العرقية والقبلية، ونشوب النزاعات المسلّحة، تعزّز صعود الإرهاب، بينما تفضي المشكلات الناتجة عن ضعف التنمية، والحوكمة السيئة، والنزاعات المسلحة، والأزمات الاقتصادية، والفساد، ووجود الحدود الهشّة، إلى ظهور الأسواق السوداء؛ التي تسقط، لا محالة، في أيدي عصابات الجريمة المنظمة؛ لذا فإنّ ضعف المؤسسات ينتج عنه بالتبعية فرص أكبر للجريمة والإرهاب.

تفضي المشكلات الناتجة عن ضعف التنمية والنزاعات المسلحة والأزمات الاقتصادية ووجود الحدود الهشّة إلى ظهور الأسواق السوداء

وقد دخل إقليما الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مرحلة من الفوضى والاتجاه نحو الأصولية؛ حيث تتزايد بمعدل متسارع حالة الخلاف بين الحكومات والمحكومين، علاوة على النزاعات الإقليمية التي تلقي بظلالها على الصعيد العالمي، وبات من الجليّ أن حالة الفوضوية وغياب المركزية التي تسود الشرق الأوسط توفر ظروفًا مواتية للأصولية والجريمة المنظمة العالمية، في ظلّ تراجع دور الدول المتداعية وصعود الفاعلين غير الحكوميين، ما يؤدّي لظهور المنطقة الرمادية بما تتضمّنه من تحديات.

وفي الواقع؛ فإنّ التكامل بين الإرهاب والجريمة المنظمة والفساد، ليس مشكلة حديثة؛ ففي عصر العولمة سريع الحركة تسنّى للإرهاب والجريمة التنقّل عبر قنوات اقتصادية متصلة فيما بينها، أضف إلى ذلك طفرة تقنيات الاتصالات والتكنولوجيا بشكل عام؛ التي استفادت منها هذه الحركات بشكل غير مسبوق، وحينما نطبق ذلك على الإرهاب؛ نكتشف أنّ هناك تصاعداً في وجود خلايا محلية داخل الدول الغربية تنخرط في أنشطة إجرامية محدودة، من أجل الحصول على مصادر تمويل، ما يعني بالتبعية أنّ الحركات الجهادية والجريمة المنظمة قد تبلغ مستويات جدّ خطيرة.

حزب الله ولج إلى النظام السياسي اللبناني في 1992

حزب الله

لدى ظهور حزب الله عام 1982؛ تغلّب على جماعات شيعية أخرى، مثل "أمل"، فيما بدا كما لو كان حرباً أهلية، وفي العام 1985؛ ألقى المتحدث باسم الحزب، إبراهيم الأمين، من أحد المساجد الشيعية في بيروت، "الرسالة المفتوحة"؛ التي كشف فيها الحزب أنّه جزء من الأمة، ما يعني أنّه قد يعمل خارج الأراضي اللبنانية، ويلعب دوراً طليعياً ثورياً.

في عصر العولمة سريع الحركة تسنّى للإرهاب والجريمة التنقّل عبر قنوات اقتصادية متصلة فيما بينها

كما تتضمن كلمة الأمة بعداً آخر؛ حيث إنّها لا تقصر نشاط حزب الله على المشهد الشيعي فحسب في لبنان؛ بل إلى الوسط السنّي أيضاً، لكن لا ذكر للنظام السياسي اللبناني الذي لم يكن جزءاً منه في البداية، لكنّ الحزب قرّر، مطلع التسعينيات، دخول معترك الحياة السياسية؛ حيث شكّل مجلساً سياسياً، ومجلساً للجهاد، وكتلة برلمانية، لتلبية متطلبات الانخراط في الحكومة، ثم أضيفت لاحقاً، على مدار التسعينيات، لجنة عمليات ولجنة للشؤون الخارجية وآلية للأمن الداخلي والشؤون العسكرية ومجموعات عدة للمقاومة.

واليوم، يعمل الحزب على أصعدة عديدة مثل؛ الدعوة والأنشطة الاجتماعية والتعليم الديني والجوانب العسكرية ومقاومة إسرائيل والسياسة، ليصبح أحد الأعمدة الرئيسية في النظام السياسي اللبناني والشرق أوسطي، بعد نجاحه في ملء الفراغ الذي عجزت الحكومة اللبنانية عن شغله، فضلاً عن اتباعه إستراتيجية خدمية تتضمن بنودًا من بينها تقديم المعونة للعائلات الأكثر احتياجًا من حيث الرعاية الطبية والتعليم والتثقيف. وبالفعل يمتلك حزب الله شبكة من 15 مستشفى تقدم خدماتها مجاناً أو بسعر مخفّض لذوي الشهداء والشيعة.

اقرأ أيضاً: حزب الله يبني مصانع صواريخه بين السكان. فكيف سترد إسرائيل؟

وقد أدت ظروف حقبة الثمانينات لتشكيل الجناح العسكري لحزب الله الذي انضم للقتال ضمن (جبهة المقاومة الشعبية اللبنانية) ضد القوات الإسرائيلية التي كانت في لبنان. ومع حلول العام 1985 ظهر إطار تنظيمي جديد هو (المقاومة الإسلامية) التي تحوّلت للجناح العملياتي لحزب الله بتجنيد الشباب الشيعة وتنظيم سكان الجنوب اللبناني كخطوط إضافية للدفاع والردع والهجوم. ولجأ الحزب في التسعينيات لنفس الإستراتيجية كي يشكّل (ألوية المقاومة اللبنانية) التي تضم متطوعين من غير الشيعة ليرسّخ ما قدّمه على أنّه (المجتمع المقاوم).

اقرأ أيضاً: لماذا يبدو الحوثيون غير متحمسين للشق السياسي من نموذج "حزب الله"؟

بيد أنّ حزب الله ولج إلى النظام السياسي اللبناني في 1992 مؤكّدًا أنّ نشاطه سيقتصر على المساحة داخل حدود هذا النظام ووفقاً لأركانه ممثّلة في البرلمان والحكومة والإدارة العامة والبلديات. مع الاحتفاظ، في الوقت ذاته، باستقلاليته وحرية التحرّك خارج الإطار السياسي، إذا دعت الضرورة لذلك، ما أدّى إلى أزمة سياسية، وتفكيك تحالفات سياسية، قبل أن يستخدم العنف السياسي (اغتيال المعارضين واشتباكات الشوارع)، وحتى استخدام القوة المسلحة لتغيير القرارات بما يصبّ في صالحه وتحقيق أهدافه.

 

 

مصادر تمويله

كشف القرن العشرين أهمية الدور الذي يلعبه تطوير شبكات دعم لوجستي ومالي في عمليات الإرهاب الدولي، وقد كان هذا أحد الدروس المستفادة من هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية؛ لذا فإنّ حرمان الإرهابيين من الوصول للأموال، وغسيلها، ونقلها، يعقّد بدرجة كبيرة قدرتهم على القيام بأنشطتهم.

يعمل الحزب على أصعدة عديدة مثل؛ الدعوة والأنشطة الاجتماعية والتعليم الديني والجوانب العسكرية ومقاومة إسرائيل والسياسة

ويحصل حزب الله على تمويله من عدة مصادر، في مقدمتها إيران، وشبكاته اللوجستية على مستوى العالم، خاصة أمريكا الجنوبية والولايات المتحدة وإفريقيا، ودول عربية أخرى، ذات مذهب سنّي، ومنظمات خيرية خاصة تدعمها إيران، والشركات التي تعمل كواجهة في جميع أنحاء العالم، والتحويلات التي يرسلها لبنانيون حول العالم.

ففي 2005؛ قدّر حجم التمويل الذي يحصل عليه حزب الله من إيران بـ 200 مليون دولار، بعد نجاحه في دعم الفصائل الفلسطينية مالياً وتدريبياً، مع الأخذ في الاعتبار أنّ البرلمان اللبناني يسمح للحزب الحصول على أموال من إيران، لكن لأغراض محددة هي: "الصحة، والتعليم، وإعانة النساء اللاتي فقدن أزواجهن في الحرب"، فضلاً عن الدعم السياسي والعملياتي الذي توفّره إيران له.

اقرأ أيضاً: بهذه الطريقة تهرّب إيران الأسلحة لحزب الله اللبناني

وإذا تطرّقنا لشبكات التمويل على مستوى العالم، فنجد أنّ الاستخبارات الإسرائيلية تزعم بأنّ كوت ديفوار والسنغال، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجنوب إفريقيا، على رأس البلدان التي ينشط فيها حزب الله لجمع التمويل، بإجمالي يصل لمئات الآلاف من الدولارات سنوياً، وإذا انتقلنا لأمريكا الجنوبية، نجد أنّ بؤرة نشاط جمع التمويل لحزب الله يتركّز فيما يعرف باسم (المثلّث الحدودي)؛ وهو منطقة الحدود المشتركة بين كلّ من باراجواي والأرجنتين والبرازيل؛ حيث يرسل المال منها بذريعة مساعدة ذوي ضحايا النزاع مع إسرائيل، ومع زيادة حدة الضغط على هذه المنطقة منتصف التسعينيات، بدأ حزب الله في استكشاف تشيلي لإقامة مركز عمليات جديد.

 

 

أداء الحزب داخل المنطقة الرمادية

تقرّ كافة التيارات اللبنانية باضطلاع حزب الله بالمقاومة، ضمن معادلة ثلاثية: هي (الشعب، الجيش، المقاومة)، وجاء هذا الاعتراف نتيجة لاتفاقيات الطائف، التي وقّعت بهذه المدينة السعودية، والتي وضعت نهاية للحرب الأهلية اللبنانية عام 1989، وأقرّت بحقّ حزب الله في الاحتفاظ بسلاحه للقتال ضدّ الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان.

اقرأ أيضاً: حزب الله في عين العاصفة.. كيف سيتجاوز الأزمة المالية؟

لكن خلال الفترة بين عامي 2000 و2006؛ تبنى الحزب آلية عمل جديدة، حوّلته من قوة شبه عسكرية بحتة إلى قوة سياسية أقرب للمألوف، وخلال الحرب اللبنانية الثانية، التي نشبت عام 2006، عاد الحزب ليحرم إسرائيل من تحقيق أهدافها المنشودة، وعدّ جميع المحلّلين أنّه انتصر في هذا النزاع، رغم فداحة حجم الخسائر في صفوفه، ليؤكّد حزب الله زعامته في البلاد بعد أن ظهر بصورة القوة الاحترافية التي تمتلك الدافع والسلاح المتطوّر.

وتمثّل هذه القدرة العسكرية، يضاف إليها دعم شعب لبنان، سيما سكّان المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني، عامل ردع كبير يفوق ذلك الذي يمثّله الجيش اللبناني النظامي، الذي يمتلك وجوداً ودوراً في جنوب لبنان يرسمه حزب الله.

اقرأ أيضاً: إيران تعبث بالمغرب وحزب الله يدرب انفصاليي البوليساريو

وتعبّر القدرة العسكرية لحزب الله عن نفسها بوضوح، في صورة الدور الذي يلعبه في سوريا حالياً؛ الذي ربما يفوق أداء الجيش السوري النظامي نفسه، وكذلك في الداخل اللبناني، مثلما حدث في آب (أغسطس) 2013؛ حين نصب كميناً لوحدة من القوات الخاصة في الجيش الإسرائيلي، اخترقت الأراضي اللبنانية، قبل أن يتم ردعها في منطقة الخط الأزرق القريبة للغاية من بلدة الناقورة، وهو ما يكشف ليس عن تمتّع الحزب الشيعي بالجاهزية والوسائل، بل وأهم من ذلك المعلومات الاستخباراتية المهمة.

اقرأ أيضاً: هل يكرس حزب الله اللبناني فكرة العبودية؟

دفعت كلّ هذه العوامل عدداً كبيراً من الدول، الأوروبية خاصة، إلى إعادة النظر في مسألة تصنيفها لحزب الله على أنّه منظمة إرهابية، وتقصر هذا التصنيف على الجناح العسكري للحزب فحسب، ورغم ذلك فإنّ هذا الحزب يلعب دوراً كبيراً ضمن المنطقة الرمادية، على الصعيدين السياسي والاجتماعي، كما يضفي قدراً من التوازن على الصراع السنّي-الشيعي، يتجاوز مداه الحرب في سوريا والعراق.

تعود البذور الأولى لداعش إلى تنظيم "جند الشام"؛ الذي أسّسه أبو مصعب الزرقاوي

تنظيم داعش

تعود البذور الأولى لداعش إلى تنظيم "جند الشام"؛ الذي أسّسه أبو مصعب الزرقاوي، في نهاية حقبة التسعينيات من القرن الماضي، ورغم حصوله على موافقة أسامة بن لادن، و200 ألف دولار لإنشاء مركز تدريب، إلا أنّ بن لادن لم يحاول ضمّ الزرقاوي وأتباعه إلى "القاعدة"، وحتى بعد مبايعة الزرقاوي وإعلانه الولاء لبن لادن، استمر شعور عدم الثقة حتى تولّي أيمن الظواهري مسؤولية القاعدة، خلفاً لبن لادن، حتى انخرط التنظيم في 2006 ضمن (الدولة الإسلامية) في العراق.

اقرأ أيضاً: "فقه الدماء"... مَن هو الرّجل الذي وضع دستور التوحش الداعشي؟

منذ بدايته، كان هدف التنظيم هو ضمّ الأراضي؛ حيث كان الزرقاوي يسعى إلى محاكاة ما قام به الملك نور الدين زنكي، خلال حقبة الحروب الصليبية، الذي عمل على توحيد الأراضي الواقعة بين الموصل ودمشق؛ أي المنطقة بين الفرات والنيل، لكن هذا الاتجاه أخذ منحنى الصعود مع إعلان التنظيم قيام دولة الخلافة، عام 2014، ولم يقتصر نفوذه على سوريا والعراق فحسب؛ بل بدأ في تكوين جماعات موالية له تنشط في مناطق أخرى، مثل: إفريقيا وآسيا، فيما عرف باسم الولايات.

اقرأ أيضاً: البحث عن هشيم جاهز للحرق.. لماذا انتقل داعش إلى الفلبين؟

ورغم أنّ الجماعات الجهادية، بما فيها تنظيم القاعدة، تعتمد كليّة على المدنيين في الأراضي التي تبسط نفوذها عليها ودعمهم لها، إلا أنّ الأمر مختلف في حالة داعش؛ الذي يستند بالأساس إلى الأراضي نفسها التي يستخرج ثرواتها الطبيعية، ويستفيد من مواردها البشرية في دعم دولته.

وتعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها على تحليل المنطق وراء خطاب داعش، بالتالي؛ فإنّ استخدام لفظ "دولة"، أو/و "خلافة"، ليس الوسيلة المثلى لمجابهة خطاب داعش، وإعداد إستراتيجية إعلامية مضادة فعّالة، فالتنظيم الجهادي يريد أن ينظر إليه باعتباره جماعة تنخرط في الحرب المقدّسة، ويسعى إلى إنشاء مدينة فاضلة (يوتوبيا)، تقوم على معتقداته حول نهاية الزمان.

اقرأ أيضاً: صحافة الإرهاب .. صناعة التضليل: "النبأ" الداعشية نموذجاً

والحقيقة أنّ صعود داعش لا يعزى فقط لسيطرته على مساحات من الأراضي، بقدر رؤية جيوسياسية تتعلّق بخطابه، وتأكيد زعامته، وآلة الدعاية الخاصة به.
إنّ فهم وتحليل هذا الخيال هو أفضل وسيلة لاستيعاب أجندة آخر الزمان، التي يطرحها التنظيم ودعوته المغرية للشباب بالانخراط في صفوف الجهاد، وأخيراً؛ تمهيد الأساس لما قد يكون قاعدة لسردية مضادة.

اقرأ أيضاً: هجوم الأهواز: هل أعاد "داعش" حساباته مع إيران؟

ويتسلّح داعش بسردية بديلة، تتمحور حول رفض التأريخ المعاصر، ويعيد إحياء الخلافة الإسلامية القديمة، ومن هنا يمكن فهم إشارات التنظيم المستمرة لإلغاء حدود سايكس-بيكو، التي رسمت عام 1916 لتقسم الشرق الأوسط العثماني بين بريطانيا وفرنسا، ويبدو أنّ إلغاء هذه الحدود هو هدف إستراتيجي في مخيلة التنظيم الجهادي، من أجل إعادة توحيد جميع الأراضي الإسلامية.

 

 

مصادر تمويله

من أهم المسؤوليات الملقاة على عاتق الدول؛ يبرز توفير الأمن والخدمات للمدنيين، وتنظيم وإدارة الأراضي، وهو ما يستلزم مبالغ مالية ضخمة لضمان توفير هذه الخدمات، لكنّ هذه النقطة بالتحديد تأتي كأهم نقاط ضعف داعش؛ فمن أجل المحافظة على الإدارة المالية، المركزية بشكل كبير، في حالة التنظيم، في المناطق التي يسيطر عليها، يتعيّن عليه غزو أراض جديدة لاستغلال مواردها، وانطلاقاً من هذه الحاجة للموارد، وفكرته الدينية تجاه المجال العالمي، تنشأ الحاجة إلى التوسع والسيطرة على مزيد من الأراضي.

جمع داعش قدراً كبيراً من ثروته باستيلائه على فروع المصارف في الأراضي التي تخضع لسيطرته في العراق وسوريا

وبين مصادر التمويل الأساسية لداعش، تظهر الأنشطة غير المشروعة في الأراضي التي يحتلّها؛ مثل سلب المصارف، والابتزاز، والسيطرة على آبار البترول ومعامل التكرير، وسرقة الأصول الاقتصادية، والضرائب على الممتلكات، فضلاً عن عمليات الاختطاف، لطلب الحصول على فدية، والتبرعات عن طريق المنظمات غير الهادفة للربح والدعم المادي؛ مثل ذلك الذي يجلبه المقاتلون الأجانب، والتمويل عن طريق شبكات التواصل الحديثة.

وفي الواقع؛ إنّ داعش جمع قدراً كبيراً من ثروته بفضل استيلائه على فروع المصارف في الأراضي التي تخضع لسيطرته في العراق وسوريا، مع معاملة مختلفة للمصارف الحكومية والخاصة، فالنقود في المصارف الحكومية تصبح ملكاً للتنظيم، بينما تظلّ النقود المودعة بالمصارف الخاصة في حسابات العملاء، لكن مع فرض ضريبة عن إجراء أيّة معاملات.

اقرأ أيضاً: 5 تنظيمات متطرفة مهدت لداعش دروب التوحش

وعلى غرار عصابات الجريمة المنظمة؛ يفرض داعش شيئاً أشبه بضريبة حماية على الدافعين، الذين يشترون أماناً وقتياً، أو استمراراً مؤقتاً لمتاجرهم ومشروعاتهم، كما أنه لجأ إلى مصادر أخرى، مثل: الاتجار بالبشر (سيما النساء والأطفال)، واستخراج الفوسفات، وبيع وسلب الآثار، وفرض رسوم على مرور السيارات والبضائع عبر الأراضي التي يهيمن عليها.

 

 

أداء داعش داخل المنطقة الرمادية

يعدّ التنظيم الجهادي أوضح أمثلة الأطراف الفاعلة في إطار المنطقة الرمادية؛ حيث يعتمد جميع أساليب الحرب من الإرهاب، وحتى الحرب التقليدية، مروراً بحرب العصابات، في منطقة تشهد وجوداً لعدد كبير من الفاعلين، الداخليين والخارجيين، المنخرطين في حرب تشمل إقليم الشرق الأوسط، وعلى أصعدة مختلفة، مثل: الحركة السلفية العالمية، والنزاع الجهادي الداخلي، والحراك السنّي في العراق وسوريا، والنزاع العربي-الإيراني، والملكيات العربية، والحرب ضدّ الغرب.

اقرأ أيضاً: أي مستقبل ينتظر الأطفال الذين تركتهم داعش وراءها؟

ويستفيد داعش، بصورة هائلة، من هذا الكمّ من المصالح المتداخلة؛ كي يحقق الأهداف التي تسمح له بمواصلة حربه الأساسية من أجل الأراضي وزعزعة استقرار دول الغرب؛ لذا يستغل التنظيم الحرب الطائفية والمستمرة بين السنّة والشيعة، كي يحصل على الموارد الاقتصادية والمالية، ودعم قطاع من السكان المحليين، فضلاً عن الغموض الذي يكتنف موقف بعض الدول عند مواجهته.

اقرأ أيضاً: إرهاب "ما بعد" داعش.. ما شكل الوحش القادم؟

لقد تلاعب التنظيم الجهادي بورقة رابحة؛ هي القمع الذي تعرضت له الأقلية السنّية، كي يحصد هذا التأييد، ولاستمالة قبائل ومجموعات سنّية عديدة إلى صفّه، مؤكداً لهم أنّه الطرف الوحيد الذي يعمل من أجلهم، وأنّ مستقبلهم مضمون معه.

وعن طريق هجماته على الغرب، وخلق حالة مقصودة من أعداد ضخمة من اللاجئين، تمكّن داعش من ضرب استقرار حكومات عدة في الغرب، خاصّة أوروبا، ما أدّى إلى ظهور انطباع عام بوجود رفض للمسلمين، وبالتالي؛ إخراج جزء من المسلمين من حالة الحيرة التي كانت تكتنفهم، ليقرّروا دعم داعش مالياً أو حتى الانضمام إليه.


المصدر: تحليل للباحث غابرييل مارتينيث باليرا، من المعهد الإسباني للدراسات الإستراتيجية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية