الحياة الشعبية في العريش: البساطة والسحر إذ يعانقان الخرافة

مصر

الحياة الشعبية في العريش: البساطة والسحر إذ يعانقان الخرافة


15/07/2019

حتى مطلع القرن الحالي، كانت سيناء تعيش حياة وادعة ومسالمة، لم يعكّر صفوها سوى العدو المحتل الذي مكث فيها ما يربو على العشرة أعوام، قاومته فيها بشجاعة وحكمة، وبالصفات التي يتحلى بها البدو، من صبر وعزيمة.
ولم نعد نسمع ونقرأ عن شمال سيناء الساحرة، سوى أخبار العمليات الإرهابية التي تقوم بها الجماعات المتطرفة.

اقرأ أيضاً: التدين الشعبي وأهازيج البحث عن الخلاص
هناك عدد من معالم الحياة الشعبية التي تميز هذه المدينة؛ إذ يعتمد هذا التقرير على كتاب "دراسات الأنثروبولجيا التطبيقية... مدينة العريش"، للدكتور فوزي رضوان العربي، والدكتور فاروق أحمد مصطفى، الأستاذين في كلية الآداب جامعة الإسكندرية.
أداة تستخدم خارج نطاق القضاء العرفي

أولاً: البشعة:
ما يزال القضاء العرفي يحتلّ حيزاً كبيراً في حياة المواطنين السيناويين؛ فهم لا يلجأون إلى القضاء الرسمي، إلا في حالات نادرة، ومع أنّ القضاء العرفي له أحكامه وأدواته، إلا أنّ ما يطلق عليها "البشعة"، هي أداة تستخدم خارج نطاق القضاء العرفي أيضاً، وهي وسيلة يلجأ إليها المتنازعون حتى إن لم يلجأوا إلى القضاة العرفيين.

تشتهر العريش بإنتاج أنواع من صناعات نسيج النول البدوي منها أغطية الوبر والصوف ونوع من الأغطية يسمّى الغفور

و"البشعة"؛ عبارة عن إناء من الحديد، أو النحاس، يوضع على النار حتى يحمَرّ لونه، ويصل إلى درجة قريبة من الانصهار، وللبشعة صاحب قد يكون مشعوذاً، أو يكون مسؤولاً عنها، ويعرف تلاوات خاصة بها، يردّدها بلغة غير مفهومة، ويلجأ أعضاء المجتمع إلى استخدام البشعة في حالات اتهام البعض بخيانة الأمانة، أو السرقة، أو الغدر، ويتوجهون إلى صاحب البشعة الذي يشعل النار ويوضع في الإناء حتى يصل إلى درجة الاحمرار، ثم يتلو عليه أو "يشعوذ" بعبارات غير مفهومة، ويقوم المتخاصمان بلعق الإناء؛ أي وضع لسانهما عليه، فتحرق لسان المذنب منهما، ولا تؤثر في البريء.

اقرأ أيضاً: لماذا يعتبر المثقفون أغنية التكنو شعبي سرطاناً فنياً؟

وصاحب البشعة يملك قدرات خاصة، وهو موضع خوف واحترام من المجتمعات المحلية، والبشعة تعد من أدوات الضبط الاجتماعي التي قليلاً ما يلجأ إلى استخدامها المجتمع ضدّ أعضائه، ولكنّها وسيلة للتخويف؛ فقد يلجأ المتخاصمان إلى المصالحة عندما يعلمان باتجاه المجتمع لتطبيق هذه العقوبة.
لكنّ البشعة بدأت تفقد كثيراً من مصداقيتها في الآونة الأخيرة، نظراً إلى ضعف الثقة في صاحب البشعة الذي ثبتت حالات تقاضي فيها رشوة لصالح أحد الأطراف.
البشعة بدأت تفقد كثيراً من مصداقيتها في الآونة الأخيرة

ثانياً: الأغاني الشعبية
تعتمد الأغاني الشعبية في العريش، كما غيرها، على السماع، وليس على النوتة الموسيقية، وتمتاز مجتمعات العريش بقدرة أعضائها على ارتجال الغناء والشعر، أو مقطع غنائي، ثم يقوم "البدّاع" الثاني بالردّ عليه، ويسمى ذلك بالتغطية، إما بمقطع آخر أو ببيت من الشعر، ويقال إنّ مِن البدّاعين مَن يستطيعون الاستمرار حتى الصباح أو مطلع الفجر.

اقرأ أيضاً: اقتصاديات التدين الشعبي.. المسجد الأحمدي أنموذجاً

ويصاحب الغناء الشعبي في العريش آلات موسيقية، كالربابة، ويميلون إلى الموال الغنائي، كما أنّ لحن الهجين في الصحراء؛ وهو غناء شعبي يدوي يساعد الجمل على تحمّل مشقة السفر في الصحراء؛ لذا جاءت التسمية منسوبة إلى الجمل نفسه، وتستخدم مع اللحن آلة الناي (الشبابة).
وتمتاز الأغنية الشعبية في مجتمعات العريش المحلية؛ بأنّها خليط من الأغاني المصرية والفلسطينية واللبنانية، أو الشامية، وهو التعبير الذي ما يزال مستخدماً في العريش، ويطلق على المؤثرات اللبنانية والسورية، أنّها مؤثرات شامية نسبة إلى الشام العربي الموجود الآن، في التقسيمات والحدود الدولية، ونعطي أمثلة على ذلك أغنية "البنت الشلبية": "البنت الشلبية عيونها اللوزية.. العين والحاجب... سبب البلية.. لبست البمبي... قلعت البمبي... قعدت في جنبي... البنت الشلبية... لبست الرصاصي... قلعت الرصاصي... وجعت لي راسي... البنت الشلبية".

والأمثلة الأخرى للأغنية في المجتمعات المحلية بالعريش ذات التأثير البدوي؛ أغنية "المسافر"، ونقتطع منها ما يلي: "يا غزيل قول له... قول مسافر الله يسهله... يا غزيل على النبع... سافر ما ودعنا... إمتا بيجي يوم الجمعة... تا يقول لنا مرحبا".
ثالثاً: الرقص الشعبي
يصاحب الرقص في مجتمعات العريش المحلية الموسيقى، والغناء الشعبي في أغلب الأحيان، ومن أمثلة هذه الرقصات: رقصة "السامر"، التي نجدها بأشكال مختلفة، وأشهرها: وقوف الرجال في صفين، وبينهما بعض المشاهدين للرقصة التي تضم بدّاعين، أو بدّاعيتين، وهذه التسمية من إبداع الشعر وحفظه وسرعة الردّ به، وتتجه كلّ بدّاعة، أو بدّاع، نحو أحد الصفّين، وتأخذ في الغناء، فيستجيب لها صفّ الرجال للرقص، أما الفريق الآخر، وهو فريق النساء، فيكتفي بالتمايل، وترديد الأغنية المصاحبة للرقص، وتمتاز هذه الرقصة بأنّها رقصة جماعية يشترك فيها الرجال والنساء، كما يبدع فيه الشعر مثل: البدّاع الأول: "يا طالعين البراري... في سموم ورياح... لا القلب ساكن هنا.. ولا شوفكم مرتاح".

هناك العشرات من الحكايات الشعبية مثل "نص نصيص" وهو بطل أسطوري سمع عن غولة تأكل الناس فقرر أن يتحداها

البدّاع الثاني: "يا قلب إيش متعبك... يا قلب إيش شافيك... يا قلب ياللي مسعود... القناة يسقيك".

أما الرقصة الثانية؛ فهي رقصة الحسة أو الدحية: وهي تبدأ بترديد صياح أو نداء يدعو للرقص، فيهتف الراقصون "الحسة أو الدحية".

ثم يقف واحد من الفريق، ويطلب إلى الفتيات النزول إلى ساحة الرقص، ولكنهنّ يتمنّعن، ولا تقبل الواحدة منهنّ المشاركة في الرقص، إلا إذا حصلت على ثمنها، وهو في العرف الفني للرقص أبيات من الشعر، يرتجلها من يدعو إلى الرقص، وهذه الأبيات تتناول وصف الفتاة وحسنها وجمالها، وإذا استجابت الفتاة؛ فإنّ هذا يعني أنها قد طربت للشعر، وتنزل الفتاة إلى ساحة الرقص، وفي يدها سيف، وترقص وهو يردّد الشعر، والآخرون يصفقون بتصفيقات منتظمة، وأيضاً إيقاع منتظم بالأرجل.
يحتلّ القائم بعملية الكيّ مكانة كبيرة في المجتمع

رابعاً: الأمثال الشعبية
الأمثال الشعبية هي خلاصة التجربة اليومية لجماعة اجتماعية معينة، وهي جزء لا ينفصل من سلوكها في حياتها اليومية، وهي دليل صادق للتيارات الاجتماعية.
والأمثال الشعبية في العريش تدلّ على أنّه يوجد مزج بين الثقافة المصرية، والثقافة العربية، فكثير من هذه الأمثال شبيهة بالأمثال المصرية، مع اختلاف في اللهجة، وتغلب عليها اللهجة المحلية بالعريش، مثل المثل القائل: "حبيبك يبلعلك الزلط وعدوك يقف لك على الغلط"، والمثل القائل: "الجواب يتقرا من عنوانه"، ومثل: "ناس ميتهم في الصندوق، وناس ميتهم في السوق".

اقرأ أيضاً: هكذا استثمر "الإخوان" بالتدين الشعبي لدى فلاحي مصر
وهذا في حالة إفشاء أسرار البعض؛ فهناك أناس يحافظون على أسرارهم، وأناس أسرارهم معروفة ومكشوفة، و"إذا قلبي مشلش سرّي ما حيشيلوا زميلي".
هذه أمثال نابعة من الظروف الاجتماعية والسياسية، التي عاشتها العريش؛ فقد مرّت بها حروب طويلة، كانت تتطلب حفظ الأسرار، كما أنّ هناك العديد من الأمثال الشعبية السلبية، مثل: "عمرانجي بنا له بيت فلسنجي سكن له فيه".
خامساً: الحكايات الشعبية
هناك العشرات من الحكايات الشعبية، خاصة التي تُحكى للأطفال، مثل حكاية بعنوان "نص نصيص"، وهو بطل أسطوري "سمع أنّ هناك غولة تأكل الناس، فقرر أن يتحداها، ويذهب إليها، ويملأ سريرها بالإبر، فعندما تأتي كي تنام تقول: "إيه اللي بيغز في المرتبة؟" فترميها، ثم يذهب "نص نصيص" لعشة الفراخ، ويقلّد صوت الديك، وعندما تأتي الغولة، يضربها بسيخ في عينيها، كانت بعين واحدة، فيضربها في العين الثانية، فتقول: "مال الديك النهاردة عماني"، بعد ذلك يركب "نص نصيص" حصانها ثم يرجعه لها مرة أخرى، وبعدها يأخذ كلّ عفش البيت، ثم يقوم بدور تاجر يبيع البخور، واللبان، فتنادي عليه الغولة، فيقول لها: "أيوه يا أمي"، فتعرف صوته، وتقول له: "أنت نص نصيص"، فينكر ذلك، ويطلب منها أن تقترب إلى جوار صندوق أعده لها، وعندما تقترب يدفعها في الصندوق، ويغلقه عليها ويأخذها، ثم يحرقها في وجود الناس الذين يقدّرون فعل نص نصيص.
تحكي هذه الحكاية وأمثالها للأطفال؛ بهدف إذكاء روح الدفاع والبطولة فيهم.

رقصة الحسة أو الدحية

سادساً: الطبّ الشعبي
يعتمد المجتمع الشعبي في العريش على "المجبراتي"، والمتخصص في الكيّ، والداية.
وتلعب الداية دوراً مهماً في مجتمعات العريش، فمعظم حالات التوليد التي تتم بطريقة طبيعية تتم على يديها، وهي محلّ ثقة معظم الأهالي، ولها خبراتها الطويلة ليس في مجال عملية الولادة نفسها؛ بل أيضاً في علاج بعض أمراض النساء البسيطة، كالالتهاب، باستخدام بعض الأعشاب والحشائش الخاصة، والداية في أغلب الأحيان لا تحصل على أجر نقدي، إنما يهدي إليها الناس كثيراً من الهدايا والمواد الغذائية.
ومجتمعات العريش المحلية تستريح إلى الداية، وترى أنّها أفضل من اللجوء إلى الطبيب، ويرون أنّ الذهاب إلى الطبيب لا يتم إلا عند حدوث بعض المتاعب أثناء الحمل أو الولادة، وفي حالة عجز الداية عن القيام بعملية العلاج.

اقرأ أيضاً: الثقافة الشعبية بين السخط والامتداح.. من يملأ فراغ الهدم؟

ومن المطبّبين الشعبيّين المشهود لهم بالكفاءة والخبرة؛ يأتي "المجبراتي"؛ الذي يقوم بعلاج الكسور، أو الآلام، سواء في الأذرع أو السيقان، والذي يفضله المعتقدون في الطبّ الشعبي عن الطبيب المختصّ في علاج العظام، ويرون أنّه أفضل، ولا يكلّفهم مصاريف علاجية كثيرة، ويستخدم الأعشاب وبعض الوسائل المتوفرة في البيئة؛ كالعصي وشعر الماعز.
ويحتلّ القائم بعملية الكيّ مكانة كبيرة في المجتمع، ويقوم بعلاج الأمراض عن طريق الكيّ، ومن أهم الأمراض التي يقوم بعلاجها: عرق النسا، والصداع المزمن، وارتفاع درجات الحرارة، ومرض الصفراء، وآلام الطحال، ويستخدم أدوات بسيطة؛ كالمسامير المحماة في النار.
ويأخذ برأي كبار السنّ، أو ما يعرف في الأنثروبولوجيا بـ "مجلس العجائز"، في علاج بعض الأمراض، كالروماتيزم، ومن أهم الصفات في علاجه؛ الاستفادة من البيئة وحرارة الجو في فصل الصيف، وذلك بأخذ المرضى إلى الصحراء، ونصب خيام لهم، ودفن جسم المريض كاملاً في الرمال الساخنة، عدا الرأس.
سابعاً: الثقافة المادية الشعبية

تشتهر العريش بإنتاج أنواع من صناعات نسيج النول البدوي، منها على سبيل المثال: أغطية الوبر والصوف، ونوع من الأغطية يسمّى الغفور، من صدف مصبوغ باللون الأحمر والأخضر، وقد يطوى فيصبح مسنداً يستخدمه الجالس ليسند عليه ظهره، كما أنّهم يصنعون البُسط المزركشة، ويصنعون لحفظ الحبوب غرائر من الوبر أو الصوف، كما يصنعون محافظَ من جلد الماعز.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية