الخط الأخضر: قيد مكاني قاهر للفلسطينيين وذكرى غامضة للإسرائيليين

الخط الأخضر: قيد مكاني قاهر للفلسطينيين وذكرى غامضة للإسرائيليين


كاتب ومترجم جزائري
14/06/2022

ترجمة: مدني قصري

حدّد خطّ الهدنة حدوداً غير رسمية بين المتحاربين العرب والإسرائيليين، بين عامَي 1949 و1967. بعد حرب حزيران (يونيو) 1967، سعت إسرائيل التي ضمّت القدس الشرقية واحتلت الضفة الغربية بشكل خاص إلى محو هذا "الخطّ الأخضر"، باستثناء الفلسطينيين تحت الاحتلال.

هناك مناسبات سنوية تمرّ ذكراها دون أن يلاحظها أحد، فهذا، بلا شكّ، هو الحال في إسرائيل بشأن 55 عاماً من الحرب العربية الإسرائيلية، في حزيران (يونيو) 1967، والتي شهدت استيلاء جيش الدولة اليهودية على سيناء المصرية وقطاع غزة والقدس الشرقية والضفة الغربية ومرتفعات الجولان السورية، ومع ذلك فهذا حدث عدوانيّ غيّر بشكل دائم العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

مع انتهاء هذا الصراع الخاطف قضى جيش دولة إسرائيل بشكل خاص على "الخطّ الأخضر"، أي خطّ الترسيم الناتج عن القتال، عام 1948، بين الدولة اليهودية المولودة حديثاً والمملكة الأردنية الهاشمية. في اتفاقية الهدنة الموقّعة في العام التالي تمّ رسم الخط، الذي رفض الأردنيون تسميته بـ "الحدود"، باللون الأخضر من قبل المفاوضين، مما أكسبه هذا الاسم.

ما الذي تبقّى من الخط الأخضر عام 2022؟ كلّ شيء يعتمد على وجهة النظر، بالنسبة إلى المجتمع الدولي يظل هذا الخط المرسوم مرجعاً رئيساً، فهو في الواقع يحدّد قاعدة إقليمية تُعدّ منطقية يمكن من خلالها إنشاء اتفاقية سلام محتملة بين دولة إسرائيل ودولة فلسطينية (ما تزال افتراضية للغاية). لقد رسم الدبلوماسيون المطلعون على القضية العديد من الإسقاطات على الخريطة، وغالباً ما يكون من المقبول أن تكون التعديلات الحدودية، الطفيفة قدر الإمكان، ضرورية؛ إذ  تنوي إسرائيل الاحتفاظ بالمستوطنات المكتظة بالسكان الواقعة على/ أو خارج شرق الخطّ مباشرة، والموافقة في المقابل على منح الفلسطينيين، بالنسبة نفسها، بضعة كيلومترات مربعة من الأراضي الواقعة داخل حدود عام 1949.

كان أحد المشاريع المركزية في عهد نتنياهو محو الخط الأخضر، وتوسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وتطبيعها

داخل المعسكر الفلسطيني تخلّت منظمة التحرير الفلسطينية، منذ عام 1988، عن المطالبة بكامل فلسطين تحت الانتداب البريطاني (1920-1948) للاكتفاء بالمطالبة بتقرير المصير في الأراضي الفلسطينية التي لم تحتلها إسرائيل قبل حرب 1967 (قطاع غزة، الضفة الغربية والقدس الشرقية). كما تفكّر المنظمة الفلسطينية بشكل إيجابي في الموافقة على تعديلات إقليمية يتم التفاوض عليها بحسب الأصول، أما بالنسبة لحركة حماس الإسلامية، التي ما يزال ميثاقها يروّج لإقامة دولة فلسطينية على كلّ فلسطين، فالمعروف أنّ قادتها، منذ التسعينيات، أصدروا تصريحات واضحة بشأن "هدنة طويلة الأمد" محتملة مع "العدو الصهيوني" مقابل إعلان دولة فلسطينية داخل حدود ما قبل نزاع عام 1967.

محوٌ بدأ عام 1967

يمكن أن تعطي هذه التصوّرات التمهيدية الانطباع بأنّ الخطّ الأخضر ما يزال يتمتع بقدر كبير من التقدير لدى السكان المعنيين، لكن ليس هذا هو الحال بالنسبة إلى الجانب الإسرائيلي، على أي حال. في موقع 972mag.com, أشار الصحفي الإسرائيلي المستقلّ ميرون رابوبورت إلى هذا، في 1 نيسان (أبريل) 2022: "كان أحد المشاريع المركزية في عهد نتنياهو محو الخط الأخضر، وتوسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وتطبيعها، وإقامة "سلام اقتصادي" مع الفلسطينيين ومن أجلهم، طبعاً سياسات نتنياهو لم تجلب السلام، لكنّ الخطّ الاخضر تمّ محوه بالتأكيد".

يظلّ الخط الأخضر ذكرى غامضة على الأكثر. الفلسطينيون فقط في الضفة الغربية يواصلون تكريسه يومياً في أجسادهم، كقيد مكاني وإداري وعسكري وعقلي في الوقت نفسه

هل حقاً؟ إذا كنّا لا ننكر لبنيامين نتنياهو الطموح بإلغاء الخط الأخضر؛ فإنّ هذه الرغبة الإسرائيلية تعود لفترة أطول. نشأت بالفعل عام 1967 مع احتلال الأراضي الفلسطينية التي ضمّها الأردن بين عامي 1948 و1967، وهي الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، الذي أًدارته مصر. نعلم الآن أنّ الحكومة الإسرائيلية عقدت جلستَين، في 18 تشرين الأول (أكتوبر) و12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967، تقرّر في نهايتهما عدم استخدام أيّة خرائط عليها رسم الخط الأخضر، والحفاظ على سرية هذا القرار الرسمي.

كتبت منظمة "أكوفوت/ Akovot" الإسرائيلية غير الحكومية، التي تدافع عن حقوق الإنسان، بناءً على عمل معمّق في الأرشيف، عن تلك اللحظة:

"في يوم الأربعاء 18 تشرين الأول (أكتوبر) 1967 اقترح وزير العمل، إيغال ألون، قراراً على لجنة الأمن الوزارية يقضي بأنّ إسرائيل لن تطبع ذلك الخط الأخضر - خط الهدنة لعام 1949 - على خرائطها الرسمية. بدلاً من ذلك ستكون الحدود الموضحة على الخريطة هي الخط الذي انتشر فيه الجيش في نهاية حرب 1967. إنّ نشر خريطة جديدة وفقاً لخطوط الهدنة (1949)، كما قال ألون، لن يعكس الواقع السياسي وسيتم تفسيره على أنه يعني أننا ما زلنا نعتبر هذه الخطوط إمكانية محتملة".

العامل الحاسم في الاستيطان

في تلك الفترة، فإنّ الاعتبارات التي كانت تحفّز القادة الإسرائيليين، ومن بينهم حزب العمل، كانت إلى حدّ كبير مرتبطة بالأمن، كانت "معجزة" انتصار حزيران (يونيو) 1967، حتى إن كانت لدى هيئة الأركان العامة الإسرائيلية بعض الشكوك حول هذا النجاح الباهر، في نظرهم ستسمح بتوحيد الحدود التي كانت تعدّ حتى تلك اللحظة غير منيعة في الجزء الأوسط من إسرائيل. على سبيل المثال، في بلدة قلقيلية الفلسطينية، على الخطّ الأخضر، يقع البحر الأبيض المتوسط ​​على بعد 12 كيلومتراً فقط، وهي صورة وصفها وزير الخارجية الإسرائيلي، أبا إيبان، عام 1969، بأنّها شبيهة بـ "حدود أوشفيتز"، وهي إشارة إلى معسكر أوشفيتس المروّع، الذي ما انفكّ يصدم خيال اليهود.

الحكومة الإسرائيلية عقدت جلستَين، في أواخر عام 1967، تقرّر فيهما عدم استخدام أيّة خرائط عليها رسم الخط الأخضر

اليسار الإسرائيلي الذي اضطر إلى ترك السلطة للمرة الأولى عام 1967 وافق بسرعة على المبادرات الأولى لإنشاء مستوطنات يهودية في الأراضي المحتلة. ودائماً باسم الضرورات الأمنية، لكن سرعان ما كانت هناك دوافع مختلفة للغاية لتحريك دوافع مستوطنين محتمَلين آخرين: دوافع دينية تتمثل في إعمار الأراضي ذات الدلالات التوراتية القوية، "يهودا" و"السامرة" (الضفة الغربية). وعلى مرّ العقود ازدهر نوع ثالث من المستوطنات اليهودية "المدينة - المنامة". تم بناء هذه البلدات الجديدة شرقاً، لكن بالقرب من الخط الأخضر، وقد أتاحت مساكن بأسعار ميسرة لليهود الإسرائيليين، بُنيت بالقرب من المدن الرئيسة في إسرائيل.

وهكذا اختفى الخطّ، شيئاً فشيئاً، ليس فقط من الميدان، لكن أيضاً، وقبل كلّ شيء، من العقول في إسرائيل، أغلبية كبيرة من الإسرائيليين فقدوا فكرة وجود خطّ فاصل. "منذ عام 1967 أصبح الخط الأخضر غير مرئي لمعظم المواطنين الإسرائيليين اليهود"، قال الأستاذ في الجامعة الإسرائيلية الأمريكية، تامير سوريك، لقد تجاهله بالفعل جهاز التعليم الإسرائيلي؛ لذلك فإنّ معظم خرّيجي جهاز التعليم اليهودي الإسرائيلي غير قادرين على رسم الخط الأخضر على الخريطة ولا يدركون، في غالب الأحيان، أهميته القانونية".

المؤرخ الفلسطيني نظمي الجوبة في تصريح سابق لـ"نيويورك تايمز": إذا لم يعترف الإسرائيليون بالخطّ الخضر فهذا يعني أنّهم لا يعترفون بالأراضي الواقعة خلفه على أنّها أراضٍ محتلة

عام 2019، روى الصحفي الإسرائيلي المخضرم، أكيفا إلدار، على موقع المونيتور "مشهداً أثناء درس في الجغرافيا لطلاب الصف الرابع في مدينة هرتسليا الساحلية، عندما عرضت المعلمة خريطة بارزة تصوّر أرض إسرائيل على أنّها ممتدة من البحر الأبيض المتوسط ​​إلى نهر الأردن، وقد هتفت: "هذه دولة إسرائيل، هذه دولتنا! "، مما أدّى إلى احتجاج طالبة تجرأت على الإشارة إلى أنّ الخطّ الأخضر الفاصل لا أثر له على الخريطة".

عندئذ استشهد الصحفي أكيفا إلدار بتعليق والد الطالبة، عالم النفس دانييل بار تل، الذي لم يفاجأ على الإطلاق بالمشهد: "قد تكون المعلمة نفسها لا تعرف الخطّ الأخضر؛ لأنّ حدود إسرائيل في 4 حزيران (يونيو) 1967 كانت مفقودة في الكتب التي كانت في متناولها عندما كانت طالبة. (...) الكتب المدرسية تُعبّر عن أيديولوجية المجتمع وروحه. إنّهم يغرسون القيم والأهداف والأساطير التي يسعى المجتمع لنشرها إلى الأجيال الجديدة". وخلص زميلنا الإسرائيلي التقدمي إلى القول إنّ "الأيديولوجية المعبَّر عنها في نفي الخط الأخضر مرتبطة بنزع الشرعية عن المعسكر السياسي الذي يدعم تقسيم الأرض بين الإسرائيليين والفلسطينيين وفق خطوط عام 1967".

إنّ إباحة وتوسيع الاستيطان في الأراضي المحتلة بجميع أشكاله، مستوطنات سكنية، ومستوطنات زراعية، ومستوطنات إيديولوجية (دينية)، يفسّر سبب اختفاء الخط الأخضر في أذهان الغالبية العظمى من الإسرائيليين.

 يبلغ عدد المستوطنين اليهود الآن أكثر من 70000، مع المستوطنات المحيطة بالقدس الشرقية الفلسطينية التي استقروا خارجها حتى بناء جدار أمني منذ عام  2002 بين إسرائيل والضفة الغربية، والذي يتماشى أحياناً مع مسار الخط، لكنّه غالباً ما يغوص إلى أقصى الشرق، لم يغير العقلية الإسرائيلية. أقيم هذا الجدار استجابة لمخاوف السكان اليهود التي غذتها الهجمات الفلسطينية خلال الانتفاضة الثانية، لكنّه لم يُحرج الإسرائيليين أبداً، خاصة المستوطنين الذين يعبرون حواجز التفتيش التي أقامها جيشهم بالقرب من الطريق القديم، دون الحاجة إلى التوقف.

"ترسيخ سيادة مجموعة"

من ناحية أخرى، يبقى الأمر بالنسبة إلى فلسطينيي الأراضي المحتلة حقيقة قاسية، ويشرح تامير سوريك : "إذا كان اليهود الإسرائيليون يستطيعون عبور الخطّ الأخضر بحرّية في كلا الاتجاهين، وغالباً دون أن يدركوا ذلك؛ فإنّ هذا بالتأكيد ليس هو الحال بالنسبة للفلسطينيين"؛ فلعبور الخط والدخول إلى إسرائيل يجب على الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة التقدم بطلب الحصول على تصريح خاص، يعتمد إصداره على معايير ذاتية وأحياناً تعسفية. الفلسطينيون الذين يتم العثور عليهم داخل الخط الأخضر دون هذا التصريح يُعاقبون بقسوة.الاستيطان الدائم غير وارد، ومنذ عام 2003 لم يُسمح حتى لأزواج مواطنين إسرائيليين بالإقامة والاستقرار في الداخل".

إباحة وتوسيع الاستيطان في الأراضي المحتلة بجميع أشكاله، يفسّر سبب اختفاء الخط الأخضر من أذهان الإسرائيليين

في تقريرها المشهور، الصادر في 12 كانون الثاني (يناير) 2021، الذي خلصت فيه منظمة حقوق الإنسان غير الحكومية الإسرائيلية "بتسيلم/ B’Tselem"، للمرة الأولى، إلى أنّ إسرائيل تمارس الفصل العنصري ضدّ الفلسطينيين، رسمت الديباجة معاينة لا هوادة فيها:

مئات الآلاف من المستوطنين اليهود يسكنون الآن في مستوطنات دائمة شرق الخط الأخضر، وكأنّهم يقيمون غرب هذا الخط. تم ضمّ القدس الشرقية رسمياً إلى الأراضي الخاضعة لسيادة إسرائيل، وضمّت الضفة الغربية عملياً. والأهم من ذلك أنّ هذا التمييز يحجب حقيقة أنّ المنطقة بأكملها بين البحر الأبيض المتوسط ​​ونهر الأردن منظمة حول مبدأ واحد: تعزيز وترسيخ سيادة مجموعة "اليهود"، على مجموعة أخرى "الفلسطينيين".

يجب التذكير بأنّ المستوطنات التي أقيمت في الأراضي المحتلة تتعارض مع القانون الدولي، وليس وجود "سلطة فلسطينية" في الضفة الغربية منذ 1994 هو الذي يمكن أن يخلق الأوهام، كما قالت المنظمة غير الحكومية الإسرائيلية نفسها.

مع محدودية صلاحيات السلطة الفلسطينية، حتى لو أجريت انتخابات بانتظام (آخرها كانت عام 2006) سيستمر النظام الإسرائيلي في إدارة حياة الفلسطينيين؛ لأنّه يحتفظ بجوانب رئيسة من الحوكمة في الأراضي المحتلة؛ فهو يتحكم بشكل خاص في الهجرة، وسِجل السكان، وتخطيط وسياسات الأراضي، والمياه، والبنية التحتية للاتصالات، والاستيراد والتصدير، فضلاً عن السيطرة العسكرية على البرّ والبحر والجوّ.

يعرف الفلسطينيون كلّ هذا أكثر من أي شخص آخر. قال نظمي الجوبة، وهو مؤرخ فلسطيني ومفاوض سابق، لصحيفة "نيويورك تايمز"، عام 2011: "إذا لم يعترف الإسرائيليون بهذا الخطّ فهذا يعني أنّهم لا يعترفون بالأراضي الواقعة خلفه على أنّها أراضٍ محتلة". الأمور تزداد وضوحاً بالفعل، لم يعد هناك حديث عن "عملية سلام" إلا في أذهان أقلية صغيرة من الإسرائيليين. في تموز (يوليو) 2018 اعتمد البرلمان الإسرائيلي قانوناً أساسياً (وهو بمثابة نصّ دستوري) بعنوان "إسرائيل - الأمة - دولة الشعب اليهودي"، وينصّ مضمونه على أنّ "الدولة تعدّ تطوير المستوطنات اليهودية قيمة وطنية وسوف تتخذ تدابير لتشجيع وتعزيز إنشاء وتقوية هذه المستوطنات".

هل كتِب للخطّ الأخضر البقاء إذاً؟ لا، فهو ما يزال يحدّد الفضاء على جانبه الشرقي، حيث تسيطر إسرائيل على السكان غير اليهود في الضفة الغربية والقدس الشرقية. يتجاهل المستوطنون الأيديولوجيون هذا الخطّ، ويرغبون في التخلص منه بشكل نهائي، بينما بالنسبة للسكان اليهود في إسرائيل الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً يظلّ هذا الخط  ذكرى غامضة على الأكثر. الفلسطينيون فقط في الضفة الغربية يواصلون تكريسه يومياً في أجسادهم، كقيد مكاني وإداري وعسكري وعقلي في الوقت نفسه.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

orientxxi.info/magazine

مواضيع ذات صلة:

هل ينهي الوسيط الأمريكي أزمة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل؟

ما حقيقة الحديث عن تطبيع صومالي مع إسرائيل؟

خط الغاز بين تركيا وإسرائيل… تودد أردوغان يصطدم بفتور إسرائيلي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية