"الديمقراطية الحلال" تُنتَجُ وتُعلَّب في تونس

"الديمقراطية الحلال" تُنتَجُ وتُعلَّب في تونس


25/06/2019

وسام حمدي

حركة النهضة تنتقل من تحريم الديمقراطية إلى تبنّيها، هكذا عنونت جل الصحف التونسية، بعدما خرج راشد الغنوشي مجدّدا الأحد ليؤكّد على مدنية حزبه وانخراطه في لعبة الديمقراطية بقوله صراحة “كنا في منطلقنا نحرّم الديمقراطية واليوم نعرف أنفسنا بأننا ديمقراطيون مسلمون”.

لم يقف الغنوشي عند هذا الحد للبرهنة على أن حركته اقتنعت بصفة تامة بأن الديمقراطية هي الحل للحكم، بل ذهب أيضا في كلمته التي ألقاها في اختتام الندوة الوطنية الثالثة لإطارات حركة النهضة للتعريج على أن حركته سليلة جماعة الإخوان كانت في منطلقاتها سلفية تحرّم الفن وتحرّم الديمقراطية، لكنها اليوم تطورت بما يعكس إرادتها السياسية في التخلّص من إرث الماضي والتوجه لاعتناق الديمقراطية.

هذه التصريحات الجديدة، فُهم منها في تونس أنها محاولة جديدة للتبرؤ من جماعة الإخوان المسلمين، خاصة أن مثل هذه المراجعات الفكرية إن ثبتت على أرض الواقع، فهي تتزامن مع أكبر المحن التي يمر بها الإسلام السياسي شرقا وغربا، خاصة بعد وفاة الرئيس المصري السابق محمد مرسي والذي نعته الحركة في بيان سياسي ضعيف لم تغامر فيه بمصالحها لنصرة الإخوان قبيل انتخابات ستكون حاسمة في تونس.

وفي محاولة للإقناع ببداية تجسيد تمكّن النهضة فعلا من الفصل بين الدعوي والسياسي، جنّدت الحركة مجدّدا نائب رئيس الحركة ونائب رئيس البرلمان التونسي عبدالفتاح مورو للقيام بهذه المهمة كعادته، عبر إقدامه في نفس الندوة على مسك المصدح أمام قواعد وقيادات النهضة والغناء عبر إنشاد واحدة من أشهر أغاني الموروث التونسي “أليف يا سلطاني”، وذلك للبرهنة على “تونسة” الحركة بصفة تامة وعلى أن النهضة لم تعد تعتبر الفن في أدبياتها بمثابة الحرام الذي يُعاقب دينيا على فعله.

لكن الوقوف عند ما تم دسّه بين السطور في كلمة الغنوشي أو غيره من القيادات في ذات الندوة يظهر مرة أخرى أن الحركة سقطت مجدّدا في ازدواجية الخطاب، كما تحيل خطوة الحركة إلى طرح عدة استفهامات ظلت مرافقة لتقييم تجربة هذا الحزب الإسلامي منذ إعلانه في مايو 2016 عقب مؤتمره العاشر تخليه عن الدعوي وتوجهه بصفة تامة إلى العمل السياسي، فهل يكفي سياسيا التصريح المنطوق بتبني الديمقراطية لكي تكون النهضة حزبا ديمقراطيا؟

في نفس الكلمة، يسقط الغنوشي مرّة أخرى في التناقض، فبعد أن حسم المسألة نهائيا بتبني الديمقراطية في بادىء الأمر، شدّد زعيم النهضة على تمسّك حركته بخطاب الهوية عند قوله “النهضة تواصلت رغم الأهوال والقصف المتواصل عليها تواصلت بالقيم وثوابت قيم الدين.. بالاحتفاظ بالقيم الثابتة للدين والتفاعل مع تطور الحياة.. النهضة انتقلت من مرحلة تأكيد الهوية العربية الإسلامية إلى مرحلة ترسيخ الهوية”.

لكنه يسقط بعدها بقليل في تناقض صارخ جديد، بتأكيده أن النهضة انتقلت من مرحلة الدفاع عن الهوية إلى مرحلة الدفاع عن قيمة العدالة الاجتماعية وأن الأولوية القادمة هي نُصرة المُستضعفين ومحاربة الفقر والفوارق الجهوية، وهي رسالة تستهدف جمهور الناخبين الذين لم تعد تعنيهم معارك الهوية شيئا أمام تقهقر أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.

إن الديمقراطية في مفهومها الشامل والأوسع هي شكل من أشكال الحكم الذي يشارك فيه جميع المواطنين المؤهلين على قدم المساواة إما مباشرة وإما من خلال ممثلين عنهم منتخبين، كما أنها مفهوم لا يمكن تجزأته البتة أو جعله آلية على المقاس مثلما تفعل النهضة عبر محاولة صياغة وتشكيل مفاهيم جديدة مرتبطة بالديمقراطية  كـ”الديمقراطية الحلال” التي باتت تُنتج وتُعلّب في مصانع الإسلام السياسي بتونس أي بمعنى الأخذ من الديمقراطية ما يخدم المرجعية الإسلامية وترك كل تفاصيلها الأخرى التي تصبو إلى التحرر والحداثة وكل هذا ترجمه تناقض خطاب الغنوشي.

إن التصريح باعتناق الديمقراطية بصفة منطوقة، لا يكفي لوحده لإقناع التونسيين والعالم بأسره بأن حركة النهضة تحوّلت فعلا إلى حزب مدني يحتكم في عقيدته السياسية إلى القوانين الوضعية وليس إلى التشريع الإسلامي، فمن أوكد الملفات المطروحة في تونس والتي تعتبر أهم محرار لقياس الدرجة التي وصلت إليها الديمقراطية التونسية يكمن حتما في مشروع قانون المساواة في الإرث بين الجنسين والذي تجنّدت قواعد وقيادات حركة النهضة “الديمقراطية” لمناهضته ورفضه في السر والعلن.

وقبل أسبوعين فقط من الإطلالة الجديدة لراشد الغنوشي، تمسّك نورالدين البحيري رئيس كتلة النهضة في البرلمان بموقف حركته الرافض بصفة كلية لقانون المساواة في الإرث بقوله “إنه لن يمر.. لن يمر”، ثم يشير وكأنه مقتنع بفوز حركته بأغلبية ساحقة في الانتخابات التشريعية القادمة إلى أن “تأجيل الحسم في مشروع قانون المساواة في الإرث سينتج عنه توسّع دائرة الرفض بعد الانتخابات”.

وبالعودة إلى مصطلح “ديمقراطيون مسلمون” يوحي تصريح زعيم حركة النهضة وكأنه أسّس لشيء جديد وأنه لم يوجد من قبل فتواه الجديدة “مسلمون ديمقراطيون” والحال أن حركته تنشط منذ تسع سنوات في مجتمع مُسلم لكنه تائق للديمقراطية.

ثم إن التحوّل من حركة دعوية وإسلامية تعتنق الديمقراطية يتطلب في المقابل وجوب احتكام أي حزب في هيكلته وبنيته التنظيمية إلى أطر أنتجتها الديمقراطية وليس إلى هياكل من إنتاج أدبيات الإسلام

السياسي كمجلس الشورى الذي تعتمده النهضة في هيكلتها إلى الآن وهو يعد أكثر الأجهزة التي تحتكم لمصطلحات “الطاعة والولاء” مهما كان منسوب الديمقراطية في بقية الهياكل الأخرى للحركة كالمكتب التنفيذي أو المكاتب الجهوية، بحيث تكون له الكلمة الفصل والحسم في كل الأمور السياسية أو الفكرية.

أما بشأن تأكيد الغنوشي بأن حركته كانت تحرّم الفن، فإن الاعتراف بمثل هذه الحقيقة غير كاف لطي صفحة الماضي بل وجب أن يكون متبوعا بخطوات عملية، فمثلما عملت النهضة طيلة تسع سنوات على إرجاع حقوق المضطهدين والمساجين السياسيين من الإسلاميين في العهد السابق الذي قاده زين العابدين بن علي ودفعها الدولة وإجبارها على تخصيص ورصد تعويضات مادية لهم عبر آلية هيئة الحقيقة والكرامة، فإن المنطق يفترض ويقتضي بعد تأكيد الحركة على قيامها بمراجعات فكرية أصلتها لتبني الديمقراطية، أن تعتذر وتعوض لمن تضرر عقب ثورة يناير 2011 وتحديدا في 2012 و2013 من المفكرين والمبدعين والمسرحيين والإعلاميين الذين تم تكفيرهم من قبل قواعدها بل وتم تعنيفهم وهرسلتهم على مرأى ومسمع الجميع وتحديدا أمام مقر وزارة الداخلية إبان حكومات “الترويكا” التي قادتها النهضة من 2011 إلى 2013.

عن "العرب" اللندنية

الصفحة الرئيسية