الدين والتنظيم الاجتماعي للأمم

الدين والتنظيم الاجتماعي للأمم


24/04/2022

"إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ" (سورة فصلت - 30).

الدين في حالته الأصلية النقية هو الإيمان بالله والعمل الصالح، لكن في تفاعله مع حياة الناس وأعمالهم وفي التحولات الاقتصادية والاجتماعية للأمم على مدى القرون ينشأ فكر ديني يستجيب لهذه التحولات، وقد كانت الأسرة ثورة اجتماعية وحضارية في تاريخ الإنسانية ومسارها، وصارت بطبيعة الحال حجر الأساس في التنظيم الاجتماعي وفي التزام الأفراد تجاه بعضهم بعضاً، ثم نشأت القوانين والتشريعات الأسرية التي ما زالت في امتداداتها وتفاعلاتها تحمل بصمة النشأة والرواية المؤسسة، وقد يفسّر ذلك ما يبدو اليوم تناقضاً أو صراعاً في القيم والقوانين والأفكار، مثل "تأديب الأولاد والزوجة"؛ إذ إنّه عندما كان العالم أسَراً، وليس مدناً وممالك كما نعرفه اليوم، كانت الأسرة تؤدي في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي ما تؤديه اليوم المدن والدول.

 

كانت الأسرة ثورة اجتماعية وحضارية في تاريخ الإنسانية ومسارها، وصارت بطبيعة الحال حجر الأساس في التنظيم الاجتماعي وفي التزام الأفراد تجاه بعضهم بعضاً

 

يُقدّم كتاب "المدينة العتيقة" لمؤلفه الفيلسوف الفرنسي فوستيل دي كولانج (1830 ـ 1869) إضاءات بالغة الأهمية في تاريخ الدين والأفكار وملاحظة العلاقة بين تشكل الأمم حول مواردها وأفكارها، ويذكر كولانج أنّ الأسرة نشأت قبل المدينة، وفي ذلك كان القانون الخاص بها مختلفاً عن المدينة، فليس من مصلحة المدينة أن تكون الأرض غير قابلة للتنازل، والميراث غير قابل للقسمة. وكان القانون يسمح للأب ببيع ابنه أو قتله. لكنّ المدينة ترى أنّ حياة زوجتك وطفلك وحريتهما ليستا ملكاً لك، وأنّ المدينة تحميهما حتى منك أنت، فلست أنت الذي تحاكمهما، ولكنّ المدينة أخذت القانون كما كان موجوداً قبلها، ولم تغيره إلّا عبر زمن طويل، فقد كان هذا الشرع قائماً من قبل، وممتداً في العقائد الدينية والعادات والثقافة العامة.

تقول القوانين الإغريقية: "تخضع المرأة لأبيها وهي بنت، فإذا مات الأب، خضعت لإخوتها ولعصبتها. وتكون وهي متزوجة تحت وصاية زوجها، فإذا مات زوجها، لا تعود إلى أسرتها الأصلية؛ إذ إنّها بزواجها تكون قد تنازلت عنها إلى الأبد، ويظلّ الأبناء قاصرين مهما بلغوا من العمر ما دام أبوهم حيّاً"، وبالطبع فإنّها قواعد مستمدة من الديانة المنزلية، وقد بدأ تأثيرها يضعف مع التطور الديني والحضاري.

كان الأب يتمتع بالرئاسة الدينية، وحقّ الاعتراف بالطفل عند مولده أو إنكاره، وحقّ طلاق الزوجة، وتعيين وصي على الزوجة والأولاد عند وفاته، ويوجد في الشرع الروماني والأثيني ما يسمح للأب ببيع أبنائه، وكان للأب حقّ الحكم بالإعدام على الزوجة والأبناء والبنات.    

ثم تطورت الفكرة الدينية، وكبرت مع نمو الجماعة البشرية، وفي واقع الحال فإنّهما (الفكرة الدينية والجماعة البشرية) تكبران في وقت واحد،... كان القدماء يعتقدون أنّ كلّ غذاء يجهز على مذبح ويقتسمه عدة أشخاص يقيم فيما بينهم رابطة لا انفصال لها واتحاداً مقدّساً لا ينقطع إلّا بالموت.

يمثل الأسلاف بأرواحهم وذكرياتهم منشأ عقائد الأمم وأفكارها وقيمها، وكان الموقد هو الرمز الأساسي لرسالة الأسلاف ووجودهم، وهكذا تكوّنت الأسرة، والقوانين الأولى أيضاً، ويمكن الملاحظة أيضاً كيف أنّ الآلهة كانت تتخذ رمزها من النفس البشرية ومن الطبيعة المادية، وإذا كان الإحساس بالقوة الحية وبالشعور الذي يحمله الإنسان في نفسه قد ألهمه الفكرة الأولى عن الإلهيات، فإنّ رؤية هذه اللانهاية التي تحيط به وتسحقه قد رسمت لشعوره الديني مسلكاً آخر. كان الإنسان في العصور الأولى في مواجهة الطبيعة بلا انقطاع، ولم تكن عادات الحياة المتحضرة قد ضربت بينهما ستاراً حاجزاً، فكان ذلك الجمال يسحر بصره وتلك العظمة تبهره، كان يستمتع بالضوء ويفزع من الليل، وعندما يرى "عودة ضياء السموات المقدّس" كان يشعر بالعرفان بالجميل.

 

يُقدّم كتاب "المدينة العتيقة" لمؤلفه الفيلسوف الفرنسي فوستيل دي كولانج (1830 ـ 1869) إضاءات بالغة الأهمية في تاريخ الدين والأفكار وملاحظة العلاقة بين تشكل الأمم حول مواردها وأفكارها

 

لقد كانت حياته تبدو في يد الطبيعة، فكان ينتظر السحاب المحسن الذي يتوقف عليه محصوله، ويخشى العاصفة التي تستطيع أن تحبط عمله وأمل عام بأكمله، كان يشعر في كلّ لحظة بضعفه وبقوّة ما يحيط به، قوّة لا نظير لها، كان يحسّ على الدوام بمزيج من التبجيل والمحبة والفزع نحو هذه الطبيعة الجبارة. لم ينته به هذا الشعور فوراً إلى إدراك إله واحد يدبّر الكون؛ إذ لم تكن لديه عندئذ فكرة الكون، ولم يكن يعلم أنّ الأرض والشمس والكواكب أجزاء من مجموع واحد، ولم ترد على ذهنه فكرة أنّه يمكن أن يهيمن عليها كائن واحد.

عندما انتقلت الآلهة من مجال الأسر إلى المدينة، كان يجري اختيار آلهة إحدى الأسر لتكون آلهة المدينة، وتصير كهانة هيكل الآلهة في هذه العائلة. ويمكن الاعتقاد بأنّ العناصر الأولى لديانة الطبيعة هذه عتيقة جداً، وربما كانت تضاهي عبادة الأسلاف في القدم، ولكن بما أنّها كانت تقابل أفكاراً أعمّ وأسمى من هذه، فقد كان لا بدّ لها من وقت أطول لكي تثبت في صورة مذهب واضح. ومن المحقق أنّها لم توجد في العالم في يوم واحد، وأنّها لم تخرج تامة الخلق من عقل رجل واحد، بل ولدت في العقول المختلفة بأثر من قوتها الطبيعية فتصورتها كلّ عقلية على طريقتها، وقد كانت هناك أوجه شبه بين جميع هذه الآلهة التي خرجت من أذهان مختلفة؛ لأنّ الأفكار كانت تتكوّن في الإنسان على طريقة تجري على وتيرة واحدة تقريباً.

والواقع أنّ كلّ رجل لم يكن يعبد إلّا عدداً محدوداً جداً من المعبودات، لكنّ آلهة أحدهم لم يكن يبدو عليها أنّها آلهة الآخر، وفي الحق أنّه كان في الإمكان أن تتشابه الأسماء، فمن الجائز أنّ كثيراً من الناس قد أطلقوا على آلهتهم اسم أبولون أو هيراكليس؛ إذ إنّ هذه الألفاظ كانت تنتمي إلى لغة الاستعمال اليومي، ولم تكن غير نعوت تدلّ على الذات الإلهية بصفة أو بأخرى من أكثر صفاتها بروزاً. لكنّه لم يكن في استطاعة المجموعات المختلفة من البشر أن تعتقد أنّ هذا الاسم ذاته لم يكن ينطوي إلّا على إله واحد، فكانوا يعدون إذن آلافاً مختلفة من الإله جوبيتر، وكانت هناك جمهرة من الآلهة، مثل منيرفا وديان وجونون قلّ أن تتشابه فيما بينها، وحيث إنّ كلّ واحدة من هذه التصورات قد كوّنها الجهد الحر الذي بذلته كلّ عقلية على حدة، وكانت إلى حدٍّ ما ملكاً لها، فقد حدث أن بقيت هذه الآلهة مستقلة عن بعضها بعضاً زمناً طويلاً، وإن كان لكلّ واحد منها أسطورته الخاصة وعبادته.  

 

يمثل الأسلاف بأرواحهم وذكرياتهم منشأ عقائد الأمم وأفكارها وقيمها، وكان الموقد هو الرمز الأساسي لرسالة الأسلاف ووجودهم، وهكذا تكوّنت الأسرة، والقوانين الأولى أيضاً

 

من هنا أتت آلاف العبادات المحلية التي لم تستطع الوحدانية أن تستقر بينها، ومن هنا هذه المناضلات بين الآلهة التي تملأ عهد تعدد الآلهة، والتي تمثل منازعات الأسر والنواحي والمدن، ومن هنا هذا الجمهور الذي لا حصر له من الآلهة الذي لا نعرف عنه غير الجزء الأصغر؛ إذ إنّ كثيراً منها قد هلك دون أن يترك حتى اسمه؛ لأنّ الأسر التي كانت تعبدها قد انقرضت، أو لأنّ المدن التي خصّتها بعبادة قد دُمّرت. وعندما نرى هذه المعابد تقام وتفتح أبوابها لجمهور العابدين، يمكن أن نطمئن إلى أنّ الإدراك البشري وأنّ المجتمع قد اتسعا منذ زمن بعيد. 

مواضيع ذات صلة:

كيف يكون الدين جانباً من جوانب الثقافة؟

ما الإيمان ومن المؤمنون؟

الدين والعقل.. أيهما يجب أن يخضع للآخر؟

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية