الرئيس التونسي السابق بورقيبة ومعركة بنزَرت: أطردُ فرنسا وأعزّزُ سلطتي

الرئيس التونسي السابق بورقيبة ومعركة بنزَرت: أطردُ فرنسا وأعزّزُ سلطتي


كاتب ومترجم جزائري
27/07/2021

ترجمة: مدني قصري

يمثّل 19 تموز (يوليو)، الذكرى السنوية الستينية لبداية معركة بنزرت، القاعدة الجوية التي كانت تحتلها فرنسا في تونس، المستقلة رغم ذلك قبل خمس سنوات.

تندرج الحرب التي أتاحت لِحبيب بورقيبة ترسيخَ سلطته في سياقٍ إقليمي.

تُعدّ معركة بنزرت أخطر أزمة أثّرت على العلاقات التونسية الفرنسية بعد استقلال تونس، عام 1956، وقد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالسياق الإقليمي الذي تتطورت فيه البلاد.

اقرأ أيضاً: لماذا اختصم محمد الطاهر بن عاشور مع الرئيس بورقيبة؟

في الواقع، كانت الثورة الجزائرية عائقاً ذا وزنٍ ثقيل في ذلك الوقت على العلاقة بين باريس ومحميّتها السابقة، التي كانت تواجه سلسلة من الاستفزازات من جانب السلطات الفرنسية.

في 26 تشرين الأول ( أكتوبر) 1956؛ اِختطف الجيشُ الفرنسي في تحدٍّ سافر للسلطات التونسية، الطائرةَ التي كانت تُقِلّ إلى المغرب القادة الرئيسين لجبهة التحرير الوطني (FLN) من أجل اعتقالهم.

بالنسبة إلى فرنسا، تمثل تونس معبراً إستراتيجياً لم تكن ترغب في أن يستمتع به الثوار الجزائريون الذين وجدوا في تونس المساعدة والملجأ.

في 8 شباط (فبراير) 1958، وبحجة "حقّ المتابعة" ضدّ جيش التحرير الوطني الجزائري، قصفَ الطيران الفرنسي القرية الحدودية التونسية في ساقية سيدي يوسف، متسبباً في وفاة ما يقرب من مئة مدني.

 تلقت الشكوى التي قدّمتها تونس إلى مجلس الأمن دعماً من واشنطن، حيث إنّ الولايات المتحدة وجدت منذ فترة طويلة في الرئيس حبيب بورقيبة أفضلَ حليف لها في المغرب العربي.

على الصعيد الداخلي، أدّت معركة بنزرت إلى عواقب وخيمة؛ فالصدمة التي عانى منها الجيش التونسي، الذي زُجَّ به في النار دون روِيّة، كادت أن تهزّ استقرار النظام

في غضون تلك الأحداث دخل ديغول السلطة، بعد محاولة الانقلاب التي قام بها المعمِّرون الفرنسيون في الجزائر العاصمة، في 13 أيار (مايو) 1958، فبدافِعِ عدم استعداده لرؤية الأمريكيين يستحوذون على المغرب العربي، ومعرفته لِعِداء تونس إزاء الوجود العسكري الفرنسي على أراضيه، قرّر بورقيبة، في 17 تموز (يوليو)، إجلاءّ جميع القواعد الفرنسية من تونس، باستثناء قاعدة بنزرت الجوية، ومنذ ذلك الحين، ظلّ بورقيبة يتطلع إلى استعادة هذا الجيب الرمزي للشخصية غير المكتملة للاستقلال، حتى يُخرِس أصواتَ خصومِه الذين كانوا ما يزالون يصفونه بـ "عميل الإمبريالية"، بسبب سياسته الخارجية الغربية. هنا تضافرت السياقات الداخلية والإقليمية في الأحداث التي أدّتون إلى معركة بنزرت، والتي كانت هزيمةً عسكرية مؤلمة، ونصراً دبلوماسياً محقّقاً لتونس، ومأساة إنسانية ما انفكت السلطةُ التونسية  تقلل من حجمها، وحجةً انتهزها بورقيبة لإسكات صوت أيّة معارضة في بلاده.

الأزمة مع مصر ومع جبهة التحرير الجزائرية

على المستوى الإقليمي، كانت علاقة بورقيبة مع مصر جمال عبد الناصر في أدنى مستوياتها، بعد أن ضمّ بلدَه إلى جامعة الدول العربية، عام 1958، لكنّه ما لبث أن صفق البابَ في وجه الجامعة بعد فترة وجيزة، معلناً القطيعة مع ناصر، عقب محاولة اغتيالٍ ضدّه تمّ تدبيرها انطلاقاً من القاهرة، التي واصل فيها صلاح بن يوسف، خصمُ بورقيبة المَحميَ من قبل الرئيس المصري، توجيهَ انتقاداته اللاذعة ضدّ بورقيبة، ولم تكن علاقة بورقيبة مع القادة الجزائريين أفضل حالاً، فلم يغفر هؤلاء القادة لتونس والرباط التفاوض على استقلالهما، عام 1956،  بدلاً من تشكيل جبهة مشتركة مع المعركة التي بدأت عام 1954 في الجزائر ضدّ المحتل الفرنسي.

والحال أنّ المساعدة التي قدّمها المغرب وتونس واللجوء الذي حظِي به مقاتلو جيش التحرير الوطني الجزائري لدى الجارتَين، لم يمحيا جميعَ مشاعر الإحباط والاستياء لدى القادة الجزائريين، والأسوأ من ذلك، وصف قادة "جبهة التحرير الوطني "بِخنق الثورة الجزائرية" المحاولةَ الفاشلة التي قام بها الرئيس التونسي لمعالجة صراع بلاده مع فرنسا عن طريق التفاوض، في اجتماعه مع ديغول في رامبويليه، في 27 شباط (فبراير) 1961، حيث تلقّى الزعيم التونسي من زعماء الثورة الجزائرية رسالة تهديد شديدة اللهجة.

عندئذ خشي بورقيبة، فوق كلّ شيء، أن تساند الجزائرُ المُقبلة على استقلالها بقيادة أحمد بن بيلا، ناصر في أن يُثبّت بن يوسف في تونس. كلّ شيء كان يفصل رئيس الدولة التونسية عن الزعيمَين الآخرين، ناصر وبن بيلا ومع تحفّظه الكامل إزاء قومية ناصر العربية التي تبناها بن بيلا بالكامل، حاول بورقيبة حماية تونس من تدخّل ناصر، الذي كان في أوج قوته، في شؤونه، ومن سلطة جزائرية قادمة كان يخشى إغراءاتها في الهيمنة.

فحتى يضع حداً للانتقادات التي ازدادت ضراوة من قبل ناصر الذي شهّر به في العالم العربي، ومن قِبل بن يوسف الذي اتهمه بالرغبة في إبادة "الإخوة الجزائريين"، أراد الرئيس بورقيبة الانتهاءَ من مسألة بنزرت، وطالب، في تموز (يوليو) 1961، بإجلائها، وقد بدا له الوقتُ مواتياً؛ لأنّ فرنسا قد أجرت توسيعَ مسار القاعدة الجوية لتكون قادرة على استقبال أنواع جديدة من الطائرات، وقد هدّد قائد بنزرت الفرنسي باللجوء إلى القوة إذا حاولت السلطات التونسية منْعَه من إنجاز ذلك المشروع.

 أرسل رئيس الدولة التونسي مبعوثَيْنِ اثنين إلى باريس، بما في ذلك مدير ديوانه، حامِلَين رسالة صريحة للرئيس الفرنسي ديغول الذي اكتفى خلال مقابلة قصيرة، من طردهما دون مزيد من التعليق، وهكذا لم يجد بورقيبة بُدّاً، أمام هذا الموقف الرافض من ديغول لرسالته، من أن يقطع على الفور العلاقات الدبلوماسية مع باريس.

مذبحة استمرت يومين

في حياته السياسية الطويلة، عرف الزعيم القومي، الذي أصبح رجل دولة، كيف يقيس ميزان القوى، ولم يخطئ سوى مرة واحدة، في نيسان (أبريل) 1938 حول إصرار فرنسا في محافظتها على السيطرة على أيّ موقف، وهو ما كلّفه سنوات من السجن. وكانت بنزرت، عام 1961، خطأه الثاني؛ فبداعي قناعته بأنّ باريس ستتردد في الردّ، أرسل آلاف المدنيين للتظاهر ضدّ الاحتلال، ليحتشد، في 19 تموز (يوليو)، عشرة آلاف شخص في الشوارع، تتصدرهم النساء، محاولين اختراق الحواجز التي وضعها الجيش الفرنسي.

 أطلق الجنود الفرنسيون النار لمنع الحشد من المضي قدماً وهكذا بدأت مذبحة دامت يومين، حاول الجيش التونسي، الذي لا يملك الخبرة، عبثاً أن يوقفها.

حوالي ألفي وفاة، وفقاً لأخطر التقديرات (لم  تقدِّر أيّة بيانات رسمية عددَ ضحايا معركة بنزرت)، وهكذا كانت الصدمة بالنسبة إلى التونسيين، الذين لم يفهموا سبب إرسالهم دون احتياطات، لمذبحة جدّ فظيعة، وكانت لها تداعيات داخلية خطيرة.

بعد أن فوجِئ بمدى الكارثة التي لم يكن يتوقّعها، أراد بورقيبة، على الأقل، تحويلها إلى نصرٍ دبلوماسي، اعتباراً من 21 تموز (يوليو)، تقدّم بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي، وفي 24 تموز (يوليو)، قبِل داغ همرشولد، الأمين العام للأمم المتحدة، الدعوة التونسية للذهاب إلى بنزرت، وقد تُرجِم الاحتقارُ الذي يكنّه ديغول (De Gaulle) للمنظمة الدولية، بالطريقة التي لجأ إليها المظليون الفرنسيون، حيث قاموا بتفيش صندوق سيارة داغ همرشولد عند مدخل المدينة التي كانت في حالة طوارىء، ومع ذلك؛ فإنّ الولايات المتحدة لم تُقدّر تسرّعَ بورقيبة في إعلان المعركة، في سياقٍ دولي مضطرب، وفي حين كانت أزمة برلين قد أدركت أوجَ التوتر الشرقي الغربي، وكان ديغول من ناحية أخرى، يشارك في مفاوضات صعبة مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية، لكنّ تونس كان لديها دبلوماسيون نشطون في واشنطن، بما في ذلك ابن الرئيس، حيث قاموا بتهدئة الغضب الأمريكي، وفوق ذلك، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي كان يرأسها في ذلك العام التونسي منجي سليم، ففي 25 آب (أغسطس)، بأغلبية ساحقة لصالح تونس.

على المستوى الإقليمي، كانت علاقة الحبيب بورقيبة مع مصر جمال عبد الناصر في أدنى مستوياتها، بعد أن ضمّ بلدَه إلى جامعة الدول العربية، عام 1958

على الجانب العربي، أعلن ناصر ببراعة دعمه لخصمه القديم الذي عارض في الأخير فرنسا، واستأنف العلاقات الدبلوماسية مع تونس، وبعد ذلك، وبعد أن تُوّجت بتاج الشهيد، عادت تونس من جديد إلى الحضن العربي.

ولما كان على استعداد لانتهاز هذه الفرصة التي يمثلها هذا التحول، بدأ بورقيبة في تنفيذ مشروع كان يداعبه منذ فترة طويلة، فأعدم، في 12 آب (أغسطس) 1961 بن يوسف في فندق فرانكفورت، بواسطة منفذَين اثنين من رجاله، وبعد التخلص من عدوّه اللدود، وبعد أن أصبح شرعياً من قِبل أقرانه العرب، كان عليه أن ينتظر استقلال الجزائر، كما أراده ديغول ليرى أخيراً بنزرت محرَّرة، وتونس متعافية وهي تستعيد، عام 1963 سيادتها على كامل إقليمها.

نهاية كلّ الانشقاقات

على الصعيد الداخلي، أدّت معركة بنزرت إلى عواقب وخيمة؛ الصدمة التي عانى منها الجيش التونسي، الذي زُجَّ به في النار دون روِيّة، كادت أن تهزّ استقرار النظام، وكانت الصدمة جزئياً هي أصل محاولة الانقلاب، التي قام بها، في كانون الأول (ديسمبر) 1962، ضباطٌ شباب ومجاهدون قدماء يوسفيين، لكنّ محاولة الانقلاب أجهِضت قبل تنفيذها.

لكنْ، مرّة أخرى، قَلَبَت السلطةُ ورئيسُها الوضَع لصالحهما؛ فحتى قبل محاكمة الانقلابيين، التي انتهت بـ 13 حكماً بالإعدام، حظرت الحكومة الحزبَ الشيوعي، في آذار (مارس) 1963، رغم أنّه لم يكن لهذا الحزب أيُّ ضلع في المؤامرة، كما حظرت كافة الأجهزة الإعلامية، وقد أصبح الدستور الجديد هو الحزب الوحيد، حيث لم يعد لأيّة كلمة منشقة الحقُّ في الوجود قانوناً.

كان لحلقة بنزرت، التي احتفلت بها القصة الرسمية باعتبارها انتصاراً ضدّ الاستعمار، مأساة حقيقية عاشها السكان التونسيون.

في المنطقة، يتذكر كبارُ السنّ دائماً الدمَ الذي سال هناك بلا طائل؛ إذ كان ديغول ملتزماً بالجدول الزمني الذي حدّده، لتخليص تونس من أيّ وجود عسكريّ أجنبيّ.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

orientxxi.info/magazine



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية